«بين حبال الماء» لروزا ياسين حسن: كيف تُشكل حكايات الآخرين حكايتنا؟

2018-12-18 11:00:00

«بين حبال الماء» لروزا ياسين حسن: كيف تُشكل حكايات الآخرين حكايتنا؟
welt.de

من جهة أخرى هناك سؤال قد يتبادر إلى ذهن القارئ أثناء قراءته للرواية، وهي أن الكاتبة روزا ياسين الحسن، قد أقدمت على كتابة قصة شاب، وبضمير متكلم كما أشرنا سابقًا، ينتمي إلى جيل أصغر من جيلها، جزء كبير من هذا الجيل، كان محركًا أساسياً لقيام الثورات في البلدان العربية في مطلع عام 2011.

لطالما كانت السينما كفن، تقدم لنا أفلامًا سينمائية؛ إما مأخوذة عن قصة حقيقية، أو مقتبسة عن أعمال أدبية مؤثرة، أو نالت شهرة كافية، أو تحمس لها مخرجون سينمائيون. لكن يندر أن يقتبس عمل أدبي، أو يستعير، من أعمال سينمائية. في رواية «بين حبال الماء» للكاتبة السورية روزا ياسين حسن، والصادرة مؤخرًا عن داريّ سرد وممدوح عدوان للنشر والتوزيع، نحن أمام عمل لا يكتفي بالاقتباس من فيلم سينمائي واحد، أو باستعارة مشهد سينمائي عابر، إنما نحن أمام عمل - يخاطر ربما- بنص روائي تجريبي، قائم على إحداث تناص بين وقائع حقيقية، ومشاهد وشخصيات  قادمة من عالم السينما. إذ أن بطل الرواية شاب في منتصف العشرينات من عمره، عاشق للسينما، ولديه حلم بأن يدرس السينما، ويصبح مخرجاً سينمائياً. الطريق إلى هذا الحلم هو بمثابة المادة الخام للرواية.

"تموز" بطل الرواية، يحلم بالسفر إلى كوبا لدراسة السينما، لكن كيف يسافر إلى كوبا، وهو لا يملك المال؟ وهو الشاب الذي مات والديه بحادث سيارة وهو طفل، وتكفل جده الذي يعمل بوابًا بإحدى البنايات في بيروت بتربيته. ولكي يستطيع تحقيق حلمه، يسافر للعمل في أحد فروع ومطاعم «ماكدونالد» في مول في دبي. ومن دبي تبدأ الرواية بافتتاحية أشبه بافتتاحية فيلم: "امتدّ الممرّ الصفراوي أمامي كطريق القدر، ضيّقًا، غَبشاً وطويلاً، فيما أسمع صوت مدير فريق العمّال، بعيداً في الخلف، يحثّنا على أن نُغِذّ السير أسرع. صوته حادّ، حياديّ، وبارد، يتناهى إليّ فيما الأضواء العليا في سقف الممرّ تمرّ بسرعة فوقنا، ألمحها تمرّ خاطفة كما تراها عين مستلقٍ على سريرٍ متحرّك ومسرع في «كوريدور» مستشفى!".  لكن "تموز" لن يمكث كثيرًا في عمله كعامل في مطعم ماكدونالد، إذ أنه سرعان ما سيجد له أصدقائه بدبي عملًا في شركة الموبايل «نوكيا»، وليتسلق سلّم المناصب تدريجيًا، من موظف عادي إلى أهم مدير مبيعات في الشركة.

هذه التغيّرات التي تحدث في مسيرة حياة "تموز" العملية، ستكون بمثابة مدخل لرؤية الحياة الاجتماعية وتناقضاته، من خلال قصص العمّال والعاملات، وبائعات الهوى، تلك الشريحة التي تبقى على الهامش متوارية عن أنظار العابرين والسائحين ورجال الأعمال، في مدينة مثل مدينة دبي.

تتخذ الرواية من ضمير المتكلم، أسلوبًا للسرد، إذ أننا لن نسمع إلا صوت الشخصية الرئيسية للعمل« تموز»، لنشعر أن النص عبارة عن مونولوج داخلي طويل. سيرة البطل الشخصية، تتوالد منها حكايات الشخصيات التي عبرت في حياته. فلا يوجد مكان واحد، هناك دائمًا أكثر من مكان في قصة واحدة، والقصة الواحدة لها قصة موازية في ذاكرة تموز السينمائية، وكل شخصية واقعية، يجد لها مثيلتها في فيلم سينمائي كان قد شاهده من قبل. فعندما يشتاق تموز في غربته لجدّه "سهيل" سيأتيه في الحلم على هيئة "زوربا اليوناني": "في الليلة تلك حلمت بجدّي سهيل، كان "زوربا اليوناني" أمامي يرقص على شاطئ بحر مشعّ وذهبيّ، سعيدًا، يضحك ويناديني أنا "باسيل"، الغرّ الذي لم يعرف ماذا يعني أن يرقص "زوربا" أمامه على أنغام موسيقاه، لأرقص معه على موسيقاه الأثيرة. كان جدّي يشبه "أنتوني كوين" بالفعل، يشبهه كثيراً، ولا أعرف لمَ لم ألاحظ قبلاً هذا الشبه الكبير بينهما!".

من جهة أخرى هناك سؤال قد يتبادر إلى ذهن القارئ أثناء قراءته للرواية، وهي أن الكاتبة روزا ياسين الحسن، قد أقدمت على كتابة قصة شاب، وبضمير متكلم كما أشرنا سابقًا، ينتمي إلى جيل أصغر من جيلها، جزء كبير من هذا الجيل، كان محركًا أساسياً لقيام الثورات في البلدان العربية في مطلع عام 2011.

وفي سورية على وجه الخصوص، صراع هذا الجيل، وطموحاته، تمثلت في الرواية في شخصية "تموز". هذا الصراع الذي يُظهر ارتباط الخلاص الفردي، بالخلاص الجمعي، أي الارتباط بالمكان "الأم" مقابل فكرة الطموح التي هي "خارج المكان"، وبالطبع هذا الانتماء ليس دائمًا انتماءً للمكان/الوطن، بقدر ما هو انتماء المرء لتكوينه الأول ولماضيه. ففي لحظة ما يسمع "تموز" صوتًا يقول له، وكأنه الصوت قادم من ذاكرته أو من قناعة وصل إليها:

"حين يفكّر المرء في ماضيه يصبح أكثر طيبةً، فكّر بماضيك، فالأماني التي تطلبها ليست هي التي تتحقق هنا، بل إن الأماني التي تتحقق هي الأماني العميقة في داخلك فحسب، ما يتوافق مع طبيعتك، جوهرك الذي لا تعرف عنه شيئًا لكنه موجود في داخلك، ووحده الذي يتحكّم بحياتك.. فكر بماضيك".

في دبي، يقع تموز تحت تأثير الحياة الباذخة، حياة كل شيء فيها مادي، من البارات والمطاعم الفخمة، لبيوت الدعارة، التي يدخل إلى عوالمها التي تحكمه شبكة من المافيات، والتي ينبثق عنها قصص نساء وفتيات من مختلف الجنسيات، تتحكم بها تلك المافيات. وليبقى حلمه في دراسة السينما قيد التأجيل. لكن عند قيام الثورة في سورية، يقرر العودة إلى البلد، لا للمشاركة في الثورة، بل لأنه يصل إلى قناعة بأن الفيلم الذي يطمح بعمله، ينتظره هناك، من الحكايات والقصص، التي ولدت بعد عام على قيام الثورة.

قد تتطلّب الاقتباسات والاستعارات الكثيرة من أفلام سينمائية، داخل الرواية، جهداً من القارئ في البداية، لكن التناص، والتشابه؛ بين حياة شخصيات في الواقع، وشخصيات سينمائية، يجعل القراءة أمراً ممتعاً، ومثيراً للتفكير لهذا التكرار اللانهائي للمآسي وللمصائر في العالم. أما إحدى الأسئلة التي من الممكن أن يخرج بها القارئ، هو أنه كيف تذوب وتنصهر حكايات الآخرين بداخلنا، حتى إذا أقدمنا على سرد قصصهم، نكتشف أننا لا نروي سوى قصتنا الشخصية؟