"المنديل المعقود" حول مجمل أعمال رضوى عاشور

2018-12-24 13:00:00

ورغم عملها الأكاديمي المستمر؛ لم يظهر إشارات لذلك خلال كتاباتها. لكن "أهم ما يميز كتاباتها هو ترابط مشروعها الفكري في نسق واحد"، كنسيج ثقافي متكامل سواء في الحديث عن بلد الحبيب مريد (فلسطين) في الطنطوية أو بلدها الأم (مصر) أو حتى عن القهر العربي الذي يمكن إسقاطه على الجميع في "ثلاثية غرناطة".

أصدرت دار الشروق المصرية كتاب "المنديل المعقود.. دراسات في أعمال رضوى عاشور"، بتحرير وتقديم فاتن إسماعيل مرسي أستاذة الأدب الإنجليزي والمقارن بجامعة عين شمس. يستعرض الكتاب الأعمال الكاملة للكاتبة والروائية رضوى عاشور؛ شجرة الأسرة الأدبية التي تكوّنها مع زوجها الشاعر مريد البرغوثي والابن الشاعر تميم البرغوثي.

تحاول فيه الكاتبة الكشف عن محاور مشروع للحداثة البديلة، كما تحاول الربط بين هذا المنجز الأدبي الضخم وبين التكوين الشخصي الأسري للروائية سواء كان بتأثير الأسرة الجديدة والمستقلة لها أو بيئتها القديمة التي رفضت في البداية زواجها برجل فلسطيني هو مريد البرغوثي، حيث "يتضافر الاهتمام بالموروث العائلي عند رضوى بعلاقة المثقف العربي بموروثه، فزاوجت نصوصها بين المتعة والتحليل" والعلاقة الأبدية من أول كتاباتها؛ «الرحلة».

لكن على ما يبدو أن أي محاولة للكتابة عن مسار رضوى عاشور وتجربتها تستدعي الانتباه إلى غزارة الإنتاج النقدي والإبداعي، ذلك الإنتاج الذي يمتد عبر مراحل من تاريخ مصر المعاصر، "فكل قراءة جادة تستدعي بدورها دراسة وتحديد السياق الثقافي والاجتماعي والتاريخي لهذا الإنتاج الغزير، ففي كل رواية وفي كل عمل نقدي تنجزه، كانت تندس قطعة من حياتها وتجربتها النضالية والإنسانية، وقد جعلت هذه الخاصية كل أعمالها مستوحاة المعيشية شخصية كانت أو عامة".

كما أنها أكدت أن تراثها هو تراث الموؤودة، وسارت على درب أستاذتها لطيفة الزيات معمقة هذا التوجه الذي فتح لها سبلًا جديدة لم تسلكها لطيفة نفسها، ووجدت في الأدب الأمريكي الأفريقي ومشروعه التحرري معادلًا لمحاولات قهر التمييز والتحرر الوطني في عالمنا العربي، ولهذا كله تجيب فاتن إسماعيل عن أسئلة مثل: ما الذي أنجزته وهي التي كانت منذ البداية على وعي بهذه الحقيقة؟ وما الذي تركته لنا في منديلها المعقود؟

تسجّل مرسي أن أي قراءة في مشروع رضوى عاشور الأكاديمي والإبداعي والنقدي لا يتأتى إلّا من خلال "دراسة مفهومها عن دور المبدع الذي يقف تحت الشجرة الوارفة (شجرة اللغة والتراث والتاريخ والتجربة)".

ولعل أهم ما يفسّر أهمية صور الأشجار في أعمال رضوى حيث تستعمل مجازًا للتعبير عن تواصل الأجيال، وربما "ليس من قبيل الصدفة أن تسمّي إحدى بطلات رواياتها «أطياف» بـ "شجر" أما في مجموعتها القصصية «رأيت النخل» فإن الشخصية المحورية فوزية ترعى النبات وتحب الزرع والنخل وتتخذ منه "رمزًا" لإمتداد الجذور وتواصل الأجيال والربط بين الحاضر والماضي.

إن الحكاية والذاكرة ووعي الهوية هي محاور تسعى لامتلاك الأرض ومقاومة نفي الذاكرة، تهتم رضوى في معظم كتاباتها بالمكان وخلوده سواء على أرض الواقع أو في ذاكرة شعبه؛ "إنه المكان تكتشفين حقيقة هويته التاريخية التي اغتصبها المستعمر والحاكم المستبد اغتصبها هؤلاء وزوّروا التاريخ والهوية التاريخية، وحكوا عنها حكايات منقوصة، فامحي اسم أحمد عرابي عن بيته بعد أن أقيم فيه مستشفى، وصار اسمه مستشفى الليدي ستانجوفورد كأن المكان لهذه السيدة الغريبة ليس له، مُحي اسم عرابي، وأغرق في النسيان، شأن الجداريات، التي تُمحى، غاب الاسم كمعلم نضالي تُحال عليه جدارية المكان الذي توالى عليه الشهداء، المكان الذي أصيبت في جزء منه سلمى سعيد تلميذتك يا رضوى، غاب المكان أو غيّب"، أقامت رضوى بقلمها أسوارًا للحياة بديلًا للعدم والغربة وحروب العرب التي تقف فلسطين في قلبها، وآمنت منذ البداية أن "الذاكرة سيدة لعوب مراوغة تتواطأ مع الخيال وتحاربه وأن إبداع نص غني من أعقد اختراعات البشر وأن الكلمات تحمل تاريخًا وجغرافيا وطيّات متراكمة من طبقات الأرض، وأن السياق التاريخي المختلف يفسر فروقًا في الرؤيا وأسلوب التناول والشكل وأن الفن يأتي إلينا محملًا لا بالفن وحده بل بتاريخنا الخاص والمشترك وذاكرتنا وذكرياتنا".

ففي الثلاثية على سبيل المثال جعلت من التاريخ وحكايًا أحداثًا قائمة بذاتها يمكن أن نحكيها في سياقات مختلفة، "وبيّنت عوالمها في سياقات أقرب إلى التوالي الزمني ووفق منظور روائي يستعيد الحقيقة بإضاءتها وإعطاءها الاعتبار المعرفي إلى معانيها بينما في روايتها الأخرى «قطعة من أوروبا» أعلنت الثورة على كل التقاليد وعلى كل إلتزام تقني يمارس على حساب الحكاية وكشف حقيقتها التاريخية"، وهي بين كل ذلك لا تتعب ولا تمل من الحكي كأنها "جدة لهذا الزمان" على حد وصف المحررة، جدة لزمن نعاني عيشه وروتينه وهزائمه، و"بكل قوة الأمل التي تسكن روحك، وتصوغ إرادتك، رحت تسبحين وتقطعين مسافات الألم، وتملين إرادتك عليه، أما الإنتظار يا رضوى فهو كما تقولين ملازم للحياة ليس بديلًا عنها".

تتساءل رضوى، نفسها، خلال إحدى رواياتها "لم لا أحكي حكاية تمشي بي في أمان في طريق عمري المحفوف بتتابع الشهور والسنوات؛ يناير يقصد ديسمبر وديسمبر يسلم الطريق إلى يناير الذي يليه، طريق محدودة بالوقائع والأحداث تتعرج صاعدة في الصبا والشباب أو هابطة مع الكهل وهو يشيخ ويغذ الخطو باتجاه النهاية؟"؛ فعلى ما يبدو بالفعل يسيطر المجاز على النص الإبداعي لرضوى ويتحكم في مفرداتها، فالخوف ليس من الموت بل من عدم اكتمال العمل، حيث يمثل منجز رضوى إجمالًا وأثرها الثقافي والرد العلمي لتلك الجملة الحزينة التي أفضى بها البرغوثي عندما جلسا في مقهى بعد انتهاء زيارتهما لمتحف الفن الحديث بنيويورك حيث وقع اللقاء التاريخي بينهما وبيان المذبحة الذي تجسد في لوحة الجرينكا لبيكاسو.

تحكي رضوى عن المهمشين واللاجئين من المحيط إلى المحيط ومن النهر إلى البحر لتنقذهم من تلك الغربة والشتات، "تكتب كأنها منحازة، تكتب لأنها تحب الحياة، تستوقفها وتدهشها وتشغلها وتستوعبها وتربكها وتخيفها رغم ولعها بكل ذلك" على حد قول رضوى ذاتها ليتسرب الحكي ويأخذ مسلكه، تنهل من التراث لتضع رواية حداثية جديدة تتهم سواء بشكل مباشر أو غير مباشر الصمت الغربي والأمريكي على المجازر والاستهانة بالعرب، تكتب لهؤلاء المثقفين وللرجل البسيط الذي يريد من الحكاية عبرتها وسهولتها معتمدة على ذاكرتها التي تمثل لها "كل شيء"، وخلال الحكي والسرد تتساءل "من يعلّم من؟ من التابع ومن القائد؟ ما المتن وما الهامش؟" لأنها تفهم جيدًا أن "بلاغة النص في بلوغه عقل السامعين"  كما كتبت في "تقارير السيدة راء".

"إن النص لا يكتفي بالإشارة إلى العالم بل يشير كذلك إلى نفسه وإلى ظروف إنتاجه وتأليفه"، تؤكد رضوى خلال رواياتها أن الكتابة فعل أناني ويمتلك مفارقة؛ ينفي الآخرين ليخاطبهم ويصوغ علاقته بهم"، وإن كانت هناك أكثر من عمل في مسيرة رضوى الأدبية تصنّف كـ "سيرة ذاتية" فإنها أيضًا تسترجع في سياق متماسك يحمل الماضي بعقل الآن، أي أنها تأريخ للوطن ومصدر لثقافته في آن تجمع بين الواقع والخيال.

ورغم عملها الأكاديمي المستمر؛ لم يظهر إشارات لذلك خلال كتاباتها. لكن "أهم ما يميز كتاباتها هو ترابط مشروعها الفكري في نسق واحد"، كنسيج ثقافي متكامل سواء في الحديث عن بلد الحبيب مريد (فلسطين) في الطنطوية أو بلدها الأم (مصر) أو حتى عن القهر العربي الذي يمكن إسقاطه على الجميع في "ثلاثية غرناطة".

رغم التوثيق والجهد الظاهر خلال جمع محتويات هذا الكتاب الذي صدر جزء منه باللغة الإنجليزية، إلا أنه أتى بكتابة أكاديمية غير أدبية، ثقيلة على القارئ العادي، لكن يظل كتاب يحمل قيمة كاتبة بحجم رضوى؛ يوثّق بها ومن خلالها تاريخ وطن عربي واحد وممتد.