عن بؤس يصيب فنًا وصحافة وبلدًا

2019-05-10 14:00:00

عن بؤس يصيب فنًا وصحافة وبلدًا
Marrakech Film Festival 2014

لذا، لن يكون عادل إمام أكثر من "حالةٍ" فنية عادية، وإنْ يحتفظ تاريخُه بشيءٍ حقيقيٍ وجماليٍ مهمّ. فالتهريج المُسطّح ميزة أداء يتراجع دورًا بعد آخر، أو يَثْبُت في تكرارٍ مُملّ. أما "حالة كونية"، فامتدادٌ لبؤسٍ يُراد للمصريين ولبلدهم أن يغرقوا فيه أكثر فأكثر.

"لأنه عادل إمام"، فكلّ تصرّف أو موقف أو حالة مرتبطة به تُثير سجالاً، لن يكون نقديًا دائمًا. فهو ـ بتربّعه على "عرش" الكوميديا زعيمًا "يُمنَع" على أحدٍ غيره منافسته عليه، أو سحبه منه، وإنْ يكن الـ"أحدُ" هذا أهمّ منه فنيًا وأدائيًا ومهنيًا، إنْ يظهر في فترة حصول إمام على الزعامة، أو في "أجيالٍ" سينمائية لاحقة ـ يستقطب سجالاتٍ تتوزّع على المهنيّ والأخلاقيّ والسياسيّ. وهو ـ بمقارعته تطرّفًا إرهابيًا يريد اغتياله ذات زمنٍ مصريّ مضطرّب ـ يمتلك شرعية جماهيرية، لحضوره الفنيّ دورٌ إضافيٌ في تمتينها، قبل الترهّل العنيف لهذا الحضور، فجماهيريته الحقّة معقودةٌ على ذاكرة سينمائية قديمة، ومرتبطة ـ إلى حدّ ما ـ بحضورٍ تلفزيوني متكرِّر عامًا تلو آخر.

حضوره الفنيّ الأصيل مُنقرضٌ منذ سنين. فعادل إمام يَفقد، دورًا تلو آخر، ركائز هذا الحضور، والزعامة الحاصل عليها مشكوكٌ بها أصلاً، والقراءة النقدية ـ المتحرّرة من توتّر أو مناكفة أو تمجيد ـ تكشف تراجعًا واضحًا في اشتغالاته المهنيّة. أما التسلّط المفروض على الجميع، فيقضي بمنح الزعامة له لا لسواه، رغم أن آخرين عديدين، يعملون معه في الفترات "الذهبيّة" لحرفيته التمثيلية، أهمّ منه أداءً وتمثيلاً وحيويةً وبراعةً، لهذا هم أكبر وأعمق من كلّ زعامة، كسعيد صالح ويونس شلبي. أدواره القديمة ـ وبعضها دراميّ يواجِه أنماطًا شتّى من السلطات المتحكّمة بجوانب الحياة والمجتمع، ويتحدّى تنانين قتل وإرهابٍ، ويُفكّك شيئًا من معالم الانهيارات الحياتية المختلفة ـ غير نافعة الآن في تحصين نتاجه هذا من خرابٍ يلمّ به، والخراب مصنوع بيديه أولاً وأساسًا، فهو راضٍ بتأدية أي دورٍ يحصل، بفضله، على مبالغ يُقال إنها خيالية، بدلاً من اعتكافه عن التمثيل، أو انتقائه أدوارًا تليق بتاريخه، أو ببعض تاريخه على الأقلّ، وللبعض هذا حِرفيةُ مهنةٍ. فهذا ما يفعله كبارٌ، أحيانًا.

عادل إمام مسؤولٌ عن راهنٍ يتخبّط فيه، سينمائيًا وتلفزيونيًا وسياسيًا. تعاليه عن جماهير "ميدان التحرير" و"ثورة 25 يناير" (2011) يعكس ميلاً إلى التزام نهج سلطة، فالسلطة في مصر أقوى من أن تُحارَب، خصوصًا بالنسبة إلى فنانين يُفضّلون مُسايرتها أو إرضاءها بدلاً من مقارعتها، لأنّ المقارعة خاسرة بالنسبة إليهم، بينما بعضهم يرى في المقارعة حقًا طبيعيًا له كمواطن أولاً وكفنان ثانيًا، فيدفع ثمنًا باهظًا لمقارعته سلطة قامعة، والثمن متنوّع، كالنفي غير المباشر، أو التحطيم المعنوي، أو تشويه صورة، أو تزوير حقائق، كما هو حاصل مع خالد أبو النجا وعمرو واكد وخالد يوسف، مثلاً.

موافقته على تمثيلٍ مُكرّر يؤذي تاريخه وبعض حِرفية يتمتّع بها سابقًا، قبل تغييبها بأداء مملّ يجترّه دائمًا من دون كلل. عدم استماعه إلى نقدٍ حيوي، يُثير نقاشًا ويحاور عملاً ويُفنّد سلوكًا ويُحلّل موقفًا، دافعٌ إضافي إلى بهتانِ حضورٍ لا يُحتَمَل. إحاطة نفسه بمدّعي صحافة، وتغاضيه عن صحافيين مهنيين وفاعلين، سببٌ لخواءٍ إبداعي يتخبّط فيه منذ وقتٍ مديدٍ، بعد تألّقه في أدوار راسخة (وإنْ تكن أقلّ بكثير من الكمّ الهائل لأعماله) في ذاكرة التمثيل السينمائيّ العربي، وفي اختياره شخصياتٍ مستلّة من واقعٍ مرتبك، وتفاصيل حيّة، وعيشٍ حقيقيّ في جحيم أرضٍ وبلدٍ. تَغرّبُه عن مجتمعٍ ينتفض، وعن شبابٍ يواجهون ويتحدّون سلطة مريضة، وعن حيوية اجتماع تبغي تبدلاّ حقيقيًا في مسار حكمٍ وبلدٍ وشعب (رغم اصطدام هذا كلّه بانقلابٍ مدوٍ على رغبة شعبٍ وأحلامه)، تَغرّبُه هذا دليلٌ على تفوّقه في ممارسة زعامة شبيهةٍ بزعامات السياسة والأمن والإعلام والمال، ما يُسقِط عنه جانبًا فنيًا يُفترض به أن يكون أكبر من كلّ زعامة.

لكن، و"لأنه عادل إمام"، يُعفَى غالبًا من كلّ نقدٍ، ويبتعد كثيرون عن مساءلته، ويتشاوف هو على كلّ تحليل جدّي وحيوي، متمسّكًا بزعامةٍ، مشكوك بها أصلاً، لأنه من دونها يسقط. و"لأنه عادل إمام"، وهذا وصفٌ يكتبه الصحافي الفني طارق الشناوي ("المصري اليوم"، 28 إبريل/نيسان 2019)، يُصبح كلّ نقاشٍ مفتوحٍ عن نتاجه وتصرّفاته مسًا بمُقدّسٍ، يتعرّض قائله إلى ما يُشبه المحاكمات الميدانية، ونتائجها نفي ورفض للنقاش وصاحبه. فإمام، لكونه "زعيمًا"، يتصرّف مع الآخرين بناء على المفهوم الصافي للزعامة القبائلية، وزعامته الفنية مشكوك بها أصلاً. والشناوي، إذْ يكتب مقالته تلك، معنونًا إياها بـ"لأنه عادل إمام"، يُطالِب بتكريمٍ له في 17 مايو/أيار 2019، بمناسبة بلوغه 79 عامًا، أي بداية عامه الـ80، والكتابة متزامنةٌ وانتشار جديد لشائعة تُلاحقه، كما تُلاحق غيره بين حينٍ وآخر، تقول بمرضٍ يُلمّ به، وهو غير مريضٍ، كما يُقال.

يُعنْون طارق الشناوي مقالته تلك بـ"لأنه عادل إمام"، بكلّ ما في العنوان من تمجيدٍ وتبريرٍ ضمنيّين، خصوصًا أن التعبير مُلحَقٌ بوصفه "حالة كونية" لا "عربية فقط". كأنّ "الزعيم"، المشكوك أصلاً بزعامته، محتاجٌ إلى ألقابٍ أو أوصافٍ جديدة، في زمن اهتراء الألقاب والأوصاف، وفقدانها الدائم لأي معنى أو إضافة، فهي انعكاسٌ لفراغ حاصل في الحياة اليومية الراهنة. أو ربما لأن عادل إمام يفقد تلك "الزعامة"، فإذا بالشناوي ـ المعروف بسجاليته، الصدامية والواضحة والمباشرة، مع عادل إمام وأعماله ـ يمنحه وصفًا أكبر من أن تحدّه "زعامة"، وأوسع من أن تختصره بيئة محلّية، يبدو أنهما (الزعامة والبيئة المحلية) تضيقان عليه، أو هكذا يتوهّم هو وغيره ممن يبرعون في استسهال إطلاق ألقابٍ أو أوصافٍ.

لكن، ما هي المكانة الفنية الحقيقية لعادل إمام في المشهد المصري اليوم، أصلاً، كي يبقى "زعيمًا"؟ وهل له حضورٌ خارج مصر والجغرافيا العربية كي يُشكّل "حالة كونية"؟ أهو معروفٌ في بلادٍ لها صناعة سينمائية ونتاج تلفزيوني راقٍ ومتقدّم؟ ثم، ماذا تعني تلك العبارة أساسًا: "حالة كونية"؟ ما المُراد منها؟ ما هي الموجبات العملية التي تصنع حالة كهذه لفنانٍ عاجزٍ عن ابتكار أي شيء جديد منذ 20 عامًا أو أكثر؟ ماذا يعني منح لقبٍ أو وصفٍ لشخصية عامة؟ ما الفائدة من منح لقب أو وصف، إن تكن هناك فائدة منهما؟ ما الإضافة التي يصنعها لقبٌ أو وصفٌ على فنان وسيرته المهنيّة؟ ما هي الأعمال "الخالدة" التي تتيح وصف عادل إمام بـ"حالة كونية"، بعد تلقيبه بـ"الزعيم"؟ ألن يدلّ التعبير الموصوف به عادل إمام على استسهالٍ صحافي، وفراغ ثقافي، وسطحية مهنيّة؟ ألن تهدف "ثورة 25 يناير"، من بين أهدافٍ أخرى ـ إلى تحطيم الأصنام، ولو معنويًا أو فكريًا أو نفسيًا، وإنْ تفشل في ذلك لأسبابٍ أقوى منها، فهي تحاول ومحاولتها جديرة بالانتباه والاهتمام والمتابعة والقراءة؟ أم أنّ إطلاق وصفٍ كهذا، يُستَشفّ منه تمجيدًا لصنمٍ، مندرجٌ في سياق الانقلابات غير المتناهية على "ثورة 25 يناير"، وروح التمرّد فيها؟

المُطالبة بتكريم عادل إمام، بمناسبة ذكرى ميلاده الـ79، تُرافق إطلاق وصفٍ كهذا على فنانٍ يتهاوى مساره وتاريخه أمام تعنّته في التكرار المملّ. فالمُطالبة ـ كإطلاق الوصف ـ غير مرتكِزة على أسبابٍ تستدعي تكريمًا، وإنْ يكن عنوان المُطالبة بالتكريم "لأنه عادل إمام"، فهذا رغم كلّ شيء غير كافٍ. إذْ ما هو جديد عادل إمام، في السينما والتلفزيون والمسرح والسياسة والسلوك الإنساني والأخلاقي، الذي يتطلّب تكريمًا؟ ما الجديد الذي يبتكره من "يحتلّ" عرش "زعامة" الكوميديا الفنية، وإنْ تكن صناعة الكوميديا والفن أهمّ من ألقابٍ باهتة، تعتادها صحافة فنية مصرية وعربية منذ سنين مديدة؟ ما الدافع الذي يذهب بصحافيّ سجاليّ مع عادل إمام إلى إطلاق صفة على صنمٍ من أصنام الزعامات المتداعية، وإنْ يكن تداعي بعض تلك الزعامات، السياسية تحديدًا، مَصحوبًا بإراقة دماء، وممارسة قتلٍ، وتصنيع تشريد وتخريب وتغييب؟ أهناك فعلٌ إبداعي يستحق تكريم صاحبه عليه؟ أهناك موقف أخلاقيّ يستحقّ تكريم صاحبه عليه؟ أهناك سلوك فني وثقافي يستحقّ تكريم صاحبه عليه؟

لا أجوبة، لأن لا وجود لأيّ فعل إبداعي أو موقف أخلاقي أو سلوك فني وثقافي يستحق تكريمًا أو لقبًا أو وصفًا، إنْ ينفع اللقب أو الوصف، فالعمل نفسه يُكرّم صاحبه ويُلقّبه ويصفه. التكرار، الذي يسم السيرة المهنيّة لعادل إمام منذ نحو 20 عامًا أو أكثر، مملّ وساذج ومُسطّح. حركات وجهه غير متبدّلة. نظرات عينيه جامدة. ابتسامته/ ضحكه نافران. حيويته الأدائية باهتة. شخصياته فارغة. المسائل المطروحة في أعماله مُسطّحة وعادية، تأليفًا ومعالجة ووقائع وتفاصيل. مواقفه مما يحصل في مصر منعدمة، أو شبه منعدمة. خنوعه واستسلامه أمام طغيان التنانين الحاكمة مُثيران للشفقة، بينما مواجهته الحالية طغيانًا كهذا منطلقةٌ من تمدّد سطوة النظام إلى حركة الإنتاج التلفزيوني، وفيه شيءٌ ما له، وهذا غير كافٍ البتّة، إذْ تغلب المصلحة الضيّقة له على ما عداها من مسائل ووقائع أكبر وأهمّ. تاريخه المهنيّ والسجاليّ مُعطّل. مقارعته إرهابيين إسلاميين تفقد معناها بصمته الحالي. زعامته الكوميدية بائسة.

لذا، لن يكون عادل إمام أكثر من "حالةٍ" فنية عادية، وإنْ يحتفظ تاريخُه بشيءٍ حقيقيٍ وجماليٍ مهمّ. فالتهريج المُسطّح ميزة أداء يتراجع دورًا بعد آخر، أو يَثْبُت في تكرارٍ مُملّ. أما "حالة كونية"، فامتدادٌ لبؤسٍ يُراد للمصريين ولبلدهم أن يغرقوا فيه أكثر فأكثر.