خالد الحروب: مفهوم المقاومة يشكّل الأساس للهوية الفلسطينية الحديثة

2019-05-31 14:00:00

خالد الحروب: مفهوم المقاومة يشكّل الأساس للهوية الفلسطينية الحديثة

"المثقف القلق" مهموم في البحث عن آليات التفكير وليس في الوصول إلى فكرة قاطعة حاسمة، وهو يشتغل على ويوسع من دوائر اللايقين. وكلما اتسعت هذه الدوائر في كل أنظمة الأفكار والأيديولوجيات والمعتقدات السائدة فإنها تتقاطع في الوسط وتشكل ما أسميه الطبقة الوسطى الثقافية التي كلما اتسعت وازدادت سماكتها استطاعت أن تحمل فوقها التعددية والاختلاف في المجتمع وتستوعب كل الانشقاقات وتحولها إلى إبداع إيجابي.

في هذا الحوار مع الكاتب والأكاديمي الفلسطيني الدكتور خالد الحروب نناقش معه ما جاء في كتابه الأخير «المثقف القلق ضد مثقف اليقين»، من أطروحات فكرية ومقاربات حول مفهوم المثقف وأنواعه وأدواره في اللحظة الفلسطينية والعربية الراهنة.
 

كيف تعرّف لنا مصطلح "المثقف القلق" الذي اشتغلت عليه في كتابك الأخير «المثقف القلق ضد مثقف اليقين»، الصادر عن "دار الأهلية" بالعاصمة الأردنية عمّان؟

حاولت في هذا الكتاب تقديم مفهوم جديد للمثقف بشكل عام وتحديداً في السياق العربي، يقوم على فكرة القلق وعدم اليقين، باعتبار القلق هو المجال الإنساني والفلسفي الذي يُبقي على أفق الأسئلة مفتوحاً على البحث عن إجابات أكثر إقناعاً، وليس إجابات قاطعة. لأنّ الإجابات نفسها محل قلق دائم وتطوير.

أقول في الكتاب إنّ سقراط، المعلم الأول في الفلسفة، اشتهر عنه ذات مرة في إحدى حلقات البحث الفلسفي مع تلاميذه في تناول مسألة من المسائل أنه قال: "إنني أعرف بأني لا أعرف شيئاً". وفي التقليد العربي الإسلامي ورد أنّ الإمام مالك نظر في أربعين مسألة فأجاب عن خمس منها، وكانت إجابته على البقية بأنه لا يدري. وورد القول أيضاً بأنّ "لا أدري" هي نصف العلم. على ذلك أردت في الكتاب إعادة الاعتبار لهذه "اللاأدرية" الخلاقة والمتواضعة والتي لا تغلق العقل ولا البحث عبر التورط في تقديم إجابات معلبة.

القلق هو المُولد الخلاق للأفكار والإبداع وهو مع الأسف من أكبر الغائبين في ثقافتنا السائدة اليوم حيث تتسيد الإجابات اليقينية ويتسيد اليقين الذي لا يقود إلا إلى التكلس.

من هنا فإنّ المثقف القلق هو حارس الفضاء النقدي وهو الناقد باستمرار لليقينيات بما فيها يقينياته هو وأفكاره مع نقده الآخرين وأفكارهم ويقينياتهم. وأعتبره النقيض المباشر للمثقف اليقيني أياً ما كانت خلفيات هذا المثقف سواء دينية أم حداثية أم أيديولوجية. وفي الآن ذاته من الممكن أن يكون المثقف دينياً أو حداثياً أو مؤدلجاً وفي الآن ذاته مثقفاً قلقاً ولو بشكل جزئي في دائرته الاعتقادية.

من منظورك، ما هي الفروق بين "المثقف القلق" و"المثقف العضوي" و"المثقف الناقد"؟ من ثمّ إلى أي صنف من الأصناف الثلاثة ينتمي خالد الحروب؟

أورد في الكتاب تحقيباً يحاول أن يساعد في التفريق بين هذه الأصناف. "المثقف العضوي" هو المدافع عن جماعته والملتحم بها عضوياً بالتعريف الغرامشي والمنافح عنها ضد السلطات الغاشمة، خاصة السلطة السياسية أو الكولونيالية، وهو المفهوم الذي ساد في أوساط مثقفي العالم الثالث وأضيف إليه مفهوم الالتزام الذي جاء به سارتر. لكن الكثير من المثقفين العضويين بعد حقبة الاستقلال تورطوا في نوع من التبريرية الدائمة لحكومات الاستقلال، أو بقي نقدهم موجهاً ضد الخارج والإمبريالية رغم مقولات "النقد الذاتي". ونستطيع القول إنّ النقد بقي أحادي الاتّجاه وموجهاً نحو الآخر بمعظمه.

"المثقف الناقد" هو الذي طور موقف "المثقف العضوي" وحول النقد إلى اتّجاهين: الذات والآخر، وبذلك تخلص من الاعتذارية والتبريرية لجماعته. وهنا أعتبر أنّ مقولة إدوارد سعيد النفاذة من أنه "لا تضامن من دون نقد" تلخص موقع ووظيفة "المثقف الناقد" بجلاء ووضوح. وكفلسطيني أقول هنا إننا مثلاً لا نريد تضامناً أعمى مع فلسطين والفلسطينيين، بل تضامن يرافقه النقد لأنّ التضامن الأعمى لا يقود في منتهاه إلى خلاصات داعمة وتضامنية راسخة. لكن الكثير من المثقفين النقديين أصيبوا بنوع من "التمركز على الذات" المُولد ليقينيات خفية بأحقية وصحة الأفكار التي يطرحونها، وتسلل مع كل ذلك الادّعاء بامتلاك الحقيقة بسبب تحررهم من التأييد الأعمى، كما تطور في عديد من الحالات إلى عدم قبولهم نقد الآخرين لهم. "المثقف القلق" الذي أقترحه هو تطوير على "المثقف الناقد" بحيث يبقى النقد هو المعول الأساسي في اشتغال المثقف لكنه مُتحرر من التمركز على الذات ومُتحرر من اليقينيات حتى يقينيات الأفكار التي يطرحها، إذ يعرضها وهو متشكك فيها ابتداءً.

"المثقف القلق" مهموم في البحث عن آليات التفكير وليس في الوصول إلى فكرة قاطعة حاسمة، وهو يشتغل على ويوسع من دوائر اللايقين. وكلما اتسعت هذه الدوائر في كل أنظمة الأفكار والأيديولوجيات والمعتقدات السائدة فإنها تتقاطع في الوسط وتشكل ما أسميه الطبقة الوسطى الثقافية التي كلما اتسعت وازدادت سماكتها استطاعت أن تحمل فوقها التعددية والاختلاف في المجتمع وتستوعب كل الانشقاقات وتحولها إلى إبداع إيجابي.
 


تحمل مضامين الكتاب أسئلة مثل: كيف يمكن أن يشتغل "المثقف القلق" ومعه قلقه الدائم على مستوى المجتمع و"المشروع الوطني"؟ وأين يمكن موضعته في سياق دفع المجتمع والوطن إلى الأمام وتنميته؟ أسئلة أوجهها بدوري لك للإجابة عنها.

عليّ أن أقول ابتداءً هنا أنّ القلق الدائم الذي أدعو له موجه إلى الداخل وإلى المشروعات الوطنية، وليس موجهاً نحو علاقتنا بالآخر المعتدي مثلاً أو المحتل، لأنّ التعامل مع هذه الحالات يتطلب يقيناً حاسماً في أغلب الحالات وليس القلق المتردد. والقلق الوطني همه الوصول إلى توافقات وطنية داخلية تخلق مجتمعات صلبة وأرضيات جماعية تلتقي على آليات وطرق الاختلاف واستيعابها وتحويلها إلى مصدر قوة. وما يقوم به "المثقف القلق" هو تليين حدّة الاختلافات عبر التشكيك في اليقينيات التي تستند إليها الجماعات والأفكار، وكلما لانت هذه الحدّة في كل جماعة أو منظومة فكرية نقترب من الوسط أكثر.

أعتقد أنّ ثمّة فراغ كبير تواجهه المجتمعات العربية يكمن في هشاشة الوسط وصلابة الهوامش، لهذا نجد أنّ الاستقطابات السياسية والدينية والأيديولوجية تهشم الجماعة الوطنية وتفتت وسطها. وإذا تمكن القلق من نقل فكرة "الحل هو كذا" إلى "ربما الحل هو كذا" فإننا نكون انتقلنا إلى مرحلة جديدة أكثر تواضعاً في حسم الأفكار وتلتقي مع الخصم الداخلي، وتساهم في إنشاء الطبقة الوسطى الثقافية الحاملة للمشروعات الوطنية بعامة.

تؤكد في الكتاب على رفضك لأيّ فكرة يقينية، وترى أنّ القلق هو المشروع الإنساني الفلسفي، متعاطياً معه (أي القلق) كعنصر مولد لمزيد من مساحات الحرية، وأنه كلما زاد القلق، زاد الإبداع. فسر لنا هذه الرؤية أكثر.

أنطلق في هذه الفكرة من التأمل في مسألة ما هو الحل، أو ما هو الجواب؟ إذا أعطيتك جواباً قاطعاً ومغلقاً على السؤال فإنني أغلق عملياً ملف السؤال كلياً. لكن إذا أعطيتك جواباً احتمالياً وقلقاً فإنني لا أدافع عن حقك في التشكيك في جوابي وحسب، بل نتشارك معاً في البحث عن الإجابات، ولا أقول الإجابة الواحدة. علينا أن نبقي على كل أبواب البحث والقلق والبحث ولا نغلق أياً منها، خاصة في مرحلة الانحطاط التي نعيش فيها وتحاصرنا الأسئلة الكثيرة والكبيرة.

تدعو في كتابك إلى تشكيل وتعميق «طبقة وسطى ثقافية» تشتغل فيها مكوّنات القلق مثل اللايقين واللاتمركز، وعدم الوقوع في أسر الأيديولوجيات الخلاصية أو السرديات الكبرى. هل لك أن تضيء بتوسع على هذه النقطة؟

إذا تخيلنا المنظومات الفكرية والأيديولوجية السائدة في المجتمعات العربية مثل القومية والدينية والماركسية والليبرالية والتقليدية وغيرها كدوائر منفصلة عن بعضها البعض، فإنّ في كل دائرة من تلك الدوائر طيف من المعتدلين والمتشددين، والقلق يكون دوماً في جانب المعتدلين الذي تخفت عندهم ولو نسبياً صلابة اليقينيات السائدة في دائرتهم. هؤلاء القلقون يحتلّون جانب الدائرة الأقرب إلى وسط المجتمع، والقلقون في الدوائر المنافسة الأخرى يحتلون أيضاً الجانب الأقرب إلى الوسط في دوائرهم، ويمكن لنا أن نتخيل تداخل الدوائر المختلفة تلك والتي يحتلها المعتدلون القلقون الأجزاء المتداخلة تلك ويشكّلون مع بقية القلقين الطبقة الوسطى الثقافية. المتطرفون في كل دائرة من تلك الدوائر يحتلّون الأجزاء الأبعد من دوائرهم بعيداً عن الوسط وهؤلاء سوف يظلون يشكّلون جزءاً من المجتمعات لكن يمكن تهميشهم مع الزمن كلما قويت الطبقة الوسطى الثقافية التي تلتقي في المركز وتتفق على آليات الاختلاف وآليات إدارة المشروع الوطني، وليس بالضرورة أن تتفق فكرياً.

 

"مثقف السلطة وسلطة المثقف"، علاقة عكسية، كيف تراها؟

يجب أن نتحلى بالنقد والقلق الدائم تجاه أي سلطة سواء أكانت سلطة السلطة أم سلطة المثقف. وأعتقد أنّ وصف "مثقف السلطة" متناقض بالتعريف لأنّ المثقف سمته الأساسية هي النقد، بينما السمة الأساسية للسلطة هي التسلط حتى لو كان تسلطاً ناعماً. ونقد التسلط هو الهدف الأول لأي عملية نقدية ولأي مثقف نقدي حقيقي، ولذلك لا أستسيغ تعبير "مثقف السلطة"، لأنّ في ذلك ازدراء لمفهوم المثقف. يمكن لنا أن نقول "كاتب السلطة" أو "بوق السلطة" أو أي وصف آخر، لكن هؤلاء المندرجين في ركاب أي سلطة مهما كانت لا أعتقد أنهم يستحقون وصف المثقف. الاستثناء الوحيد الممكن قبوله هو في حال حافظ هذا المثقف على سمته النقدية تجاه السلطة المحسوب عليها.

في المقابل، ليس هناك سلطة للمثقف، هناك مهمة نقدية تفتح الآفاق وتساعد الآخرين على استكناه سبل وآليات تفكير وتحريض على الانتفاض، على التكلس، وهذه المهمات لا يجب أن تقود إلى تعظيم الذات النقدية وتحويلها إلى سلطة. لدينا فائض في السلطات، السياسية والدينية والاجتماعية، ولدينا نقص في النقد، ولهذا لا نريد أن نضيف إلى تلك سلطة جديدة اسمها "سلطة المثقف".

ما هو المطلوب من المثقف الفلسطيني في هذه المرحلة بالذات؟

مطلوب منه أولاً أن يكون نقدياً وقلقاً وتجديدياً تجاه المشروع الوطني الفلسطيني الذي يواجه أزمة وجودية حقيقية مع تغول المشروع الصهيوني وتغول الدعم الأمريكي المتصهين هو الآخر. ومطلوب منه ثانياً أن يكون حارساً لبوصلة الحق الفلسطيني ولا يهادن في ذلك، وألا يقع أسير لحظة الهزيمة التي نعيشها، بل يكون حارساً للأمل.

للسياسي أن يتسيس كما يشاء، لكن على المثقف الفلسطيني أن يُبقي على أفق الأمل والتفاؤل والتاريخ مفتوحاً. الزمن لا يتوقف والأمل لا يتوقف ومهما كان الواقع الاحتلالي والكولونيالي وحتى العالمي الداعم سيئاً فإن طاقات الشعوب تقلب كل المعادلات، ولنا في الربيع العربي في مرحلته السلمية الأولى خصوصاً الدرس الغني والكبير عندما أطاحت الشعوب أعتى الدكتاتوريات العربية.

كيف ترى حصاد 71 عاماً من عمر النكبة في الفكر والأدب الفلسطيني؟

بصراحة، لا أدري تماماً ولست متأكداً أنّ بإمكاني تقديم إجابة مُقتنع بها.

برأيك هل استطاع المثقف الفلسطيني أن يقدّم قضيته على الصعيد العالمي بالشكل المطلوب؟

استطاع الكثير من المثقفين الفلسطينيين اختراق البنية الإعلامية والفكرية والأكاديمية التي سيطرت عليها أفكار وإدراكات مؤيدة وداعمة للمشروع الصهيوني إما لكونه مشروعًا لأقلية يهودية اضطهدت في أوروبا، أو مشروعًا اشتراكيًا، أو سوى ذلك. وهناك العشرات من الأسماء التي نفخر بها في هذا المجال وأتردّد في ذكر بعض منها حتى لا أظلم البعض الآخر إن غاب عن ذهني. لكن ما زال هناك الكثير من العمل أمامنا والكثير من المجالات التي قصرنا فيها وتتطلب منا العمل أكثر كمثقفين وإعلاميين وأكاديميين.

سؤالي الأخير، ما الذي يشغلك هذه الأيام على صعيد الكتابة، وما هو عملك القادم؟

يشغلني أكثر من مشروع بحثي وفكري وفي مقدمتها كتاب بالإنجليزية عن تحوّلات الهوية الفلسطينية ومركزية فكرة المقاومة في التأسيس لهذه الهوية. وأعتقد أنّ مفهوم المقاومة يشكّل الأساس للهوية الفلسطينية الحديثة ومفجر طاقاتها الأكبر، والذي تمكن من صقلها ومنحها الصلابة والتماسك. وفي الأوقات والظروف التي تم تحييد هذا المفهوم أو إضعافه كما في مرحلة أوسلو فإننا نلمس التذري وفقدان البوصلة وضياع التماسك.

المقاومة هي التي منحت الشرعية الوطنية لأي طرف في الساحة السياسية، كما حدث مثلاً مع انتقال "الإخوان المسلمون" الفلسطينيون إلى "حركة حماس" مع الانتفاضة الفلسطينية الأولى سنة 1987، بينما في العقود التي سبقت ذلك كانت النظرة السائدة تنتقص من شرعيتهم الوطنية.

الآن تواجه سلطة أوسلو نفس الانتقاص من شرعيتها الوطنية بسبب تخليها عن المقاومة. والمشروع الثاني، بالعربية، الذي أشتغل عليه الآن هو كتاب تحت عنوان «الحق في عدم التدين»، يناقش مسألة تغول التدين الطقوسي في المجتمعات العربية إلى درجات تصل إلى الانتقاص من موقع وحتى مواطنية غير المتدينين، وهذا يتناقض مع فكرة المجتمع المدني والحديث وحتى فكرة "الدولة الأمة" التي تقوم على أساس المساواة بين المواطنين حقوقاً وواجبات، ولا علاقة للتدين بتلك المساواة.