عبد الباسط الساروت... تحية لـ "الخيار الأصعب"

2019-06-11 10:00:00

عبد الباسط الساروت... تحية لـ

يفكر المرء كيف أن هؤلاء قد ذهبوا للخيار الأصعب، بلا أي رفاهية للتفكير بالخلاص الفردي، والتضحية بكل شيء، بما في ذلك حياتهم نفسها، من أجل خلاص جمعي طال انتظاره.

في السنوات الخمس التي سبقت انطلاقة الثورة السورية ازداد شغفي بسماع الموسيقى إلى درجة أنني عمِلتُ في متجر لبيع الأسطوانات الموسيقية في شارع "القيميرية" بدمشق القديمة، لا أبيع سوى أنواع معينة من الموسيقى: موسيقى الكلاسيك، البلوز، الجاز، وأنواع محددة ونخبوية نوعاً ما من الموسيقى والأغاني الشرقية: ألبومات فيروز، أغاني مارسيل خليفة، سعاد ماسي، عازفا العود العراقيان منير بشير ونصير شمة، الموسيقي التونسي ظافر يوسف، وقبلهم موسيقيين يعيشون بالمهجر كالموسيقي السوري عابد عازاريه، وبالأخير مسرحيات الرحابنة وزياد.

علاقتي مع الأغنية السياسية أو الثورية في ذلك الوقت لم تكن مرتبطة لا بالحاضر الذي أعيشه، ولا حتى بسوريا، بل كانت مرتبطة حصراً بفلسطين كأغاني مارسيل خليفة وفرقة العاشقين الفلسطينية، والمغنية الفلسطينية ريم البنا.

مع انطلاقة الثورة السورية مطلع عام 2011 كنت على موعد مع الأغنية الثورية السورية، وفجرّت أغنية "يا حيف" لسميح شقير وعيي، ووعي الكثيرين من الشباب السوري، على أهمية الأغنية المرتبطة بالأرض والناس والثورة، والأهم من ذلك كانت الأغنية مرتبطة بما قام الشعب السوري بثورةٍ من أجله: حلم التغيير ووضع حد للظلم وإنهاء حكم الاستبداد والإعلاء من شأن كرامة الإنسان.

أي كانت هذه الأغنية تغيّر، ولأول مرة، علاقتي بفكرة الأغنية والموسيقى بشكل عام، ولم يعد سماع الموسيقي مسبباً للاسترخاء والتأمل أو للنقد الساخر والملتوي وغير المباشر، بل تعبير مباشر عن ضمائر الثوار والمتظاهرين، بل وعن وحدتهم أيضاً، وقد سلمتني أغنية شقير إلى أناشيد إبراهيم القاشوش وأغاني عبد الباسط الساروت.

خطرٌ على الطاغية

في ذلك الوقت المبكر من عمر الثورة (يوليو/ تموز 2011) أكثر ما فاجئني هو ردّ فعل النظام الوحشي على أناشيد إبراهيم القاشوش الشاب السوري من مدينة حماة، الذي كان يؤلف شعارات ضد النظام السوري وينشدها أمام جموع المتظاهرين؛ إذ قام باعتقاله وقتله تحت التعذيب، بعد أن اقتلع حنجرته، وفي ذلك دلالة.

في ذلك الحين أدرك السوريون أهمية ما يفعلونه وخطورته في آن، وكان بإمكان الأغاني والأناشيد الثورية أن تساهم في ملحمتهم بحكم تأثيرها الكبير على وعي الناس وتحريك الشارع.

وبالتزامن مع ذلك بدأنا نسمع عن حارس مرمى منتخب الكرامة للشباب عبد الباسط الساروت، الذي يبلغ من العمر 19 عاماً، ويقود مظاهرات حاشدة في مدينة حمص، ويؤلف الشعارات والمواويل والأغاني الثورية وينشدها في المظاهرات.

كانت المشاعر والأحاسيس المرتبطة بتلك اللحظة الثورية المتوهجة تتراوح كالبندول بين الصعود والهبوط، بين الحماس والخفوت، وكل ذلك على إيقاع عنوانه "صوت عبد الباسط الساروت" الذي أعادت أغنياته وأناشيده وهتافاته هوية ثقافية شعبية اعتقدنا أننا فقدناها.
 


في تلك اللحظة الثورية كنا بأمس الحاجة لهذا الصوت، في لحظة الموت، الاعتقال، القتل بالرصاص السريع، التعذيب داخل الأقبية والسجون والمسالخ الأسدية، لحظة الخوف، فقدان الأمل، اليأس، لم يكن يحرك الجموع معارض سياسي يظهر على قناة العربية أو الجزيرة، بل كان عبد الباسط الساروت وأمثاله هم من يشحذ الهمم ويبقي معنويات الناس عالية.

شحنة الإرادة في صوت عبد الباسط الساروت كانت بحد ذاتها ثورة؛ من أغنية "جنة جنة جنة .. جنة يا وطننا" إلى أغنية "حانن للحرية حانن" إلى "حرام عليك" كان صوته القادم من ساحات الغضب إلى السماعة الصغيرة التي أضعها في أذني وأسمعه في السر بمثابة السند والأمل وعدم الاستسلام للإحباط.

كنت دائماً أتأمل هذه المفارقة: اعتدتُ على سماع الموسيقى الكلاسيكية والأغاني "المرموقة فنياً" والآن يهتز وجداني بصوت شابٍ يهتف من قلب المظاهرات ويرتجل الإيقاعات التي تخلو من أي أدوات موسيقية، ولا شيء جميل بصوته، سوى تلك البحة القادمة من أعماق جسده وروحه فتتسلل إلى روحك لتحدث نوعاً من الصدمات الكهربائية بجسدك، وتجعلك بحالة انتعاش وتحفز دائمين.
 


تراجيديا الثورة ومنشدوها

بعد 2012، سنة الشتات في دمشق، التي انقطعتُ فيها عن متابعة الأخبار؛ لانقطاع الإنترنت عن البيوت التي تنقلتُ فيها، وخروجي من دمشق، عدت لمتابعة ما فاتني من أخبار وأحداث، لأكتشف أن الساروت بات قائد لكتيبة "شهداء البياضة" في حمص.

كانت توقعاتي في ذلك الوقت عن مصير الساروت منحصرة في أنه سيهرب مع عائلته خارج سوريا بعد أن عرض النظام 2 مليون ليرة سوري لمن يأتي برأسه، وبعد محاولة اغتيال نجا منها بأعجوبة. وبعد أن بدأ النظام بإبادة حمص وباقي المدن السورية بشتى أنواع الأسلحة الثقيلة.

بنيت توقعاتي الخاطئة على أن الساروت بات نجماً ثورياً وبإمكانه أن يلجأ إلى بلد أوروبي ويكمل حياته ويخطط لمستقبله، إما بدخول نادي كرة قدم احترافي، أو تعلم الموسيقى والغناء، ولم أتخيل له مستقبلاً غير ذلك، ربما لأنني شعرت أنه ليس بهذا الشاب المتدين أو المؤدلج، وليس بالشاب الذي يُظهر أي خبرة أو وعي سياسي منظم.

بالتزامن مع المشهد التراجيدي الذي دخلت فيه الثورة السورية والتحولات العنيفة التي عمّقها تكاثر الفصائل المسلحة والجماعات الدينية المتطرفة كجبهة النصرة ومن بعدها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وجيش الإسلام (واعتداله المزعوم)، كانت حياة الساروت شديدة الالتصاق بهذه التراجيديا الجمعية ومعبرة عنها. قُتل والده وأربعة من أخوته أثناء قصف طائرات النظام لمدينة حمص.

تضافرت تحولات الساروت مع تحولات الثورة؛ فتارة يتقرب من جماعات دينية متشددة، وتارة يبتعد عنها، لكن قربه لم يكن مدعوماً بإيديولوجية دينية حركية أو نظرية، بقدر ما كان خياراً فرضته عليه قوى الأمر الواقع.

في 31 / 8/ 2015 ظهر الساروت في فيديو تسجيلي، أعلن فيها عدم مبايعته لـ"داعش" وقال إنه لا ينتمي، هو والفصيل الذي يقاتل معه، لأحد، وأن هدفه فقط مقاتله النظام السوري والدفاع عن أرض سوريا.  

شكل الساروت نموذجاً مختلفاً عن "السائد الثوري"؛ لم تغرّه نجوميته ولا موقعه في الثورة، وكان دائم التعفف من الألقاب التي يطلقها الثوار عليه؛ وفي فيلم وثائقي قصير، أعده موقع "زمان الوصل" بتاريخ 21/1/2019 يظهر فيه الساروت بكامل حماسه وهو يقول "أنا ما عندي لقب. هم يقولون حارس الثورة. الثورة لها حراس. هم يقولون منشد الثورة. الثورة لها منشدون. أنا اسمي عبد الباسط الساروت. شخص من هذه الثورة. شو ما يقول الناس. أنا أحترم الناس. ولا أحب التمجيد. ضد التمجيد. التمجيد للجريح والشهيد والأسير فقط."

حبه لأرضه وإخلاصه في الدفاع عنها بالكلمة والغناء وقيادة المظاهرات، أو بخياره لحمل السلاح والدفاع عن مدينة حمص في أحلك اللحظات، في وقتٍ كان فيه التواجد تحت القصف أشبه بالانتحار، يدلل على أنه ليس هناك سوى الدوافع النبيلة ما تحركه.

ومثل الناشط الحقوقي رائد فارس، والمصور الصحفي خالد عيسى، والقائد العسكري للواء التوحيد عبد القادر صالح (حجي مارع) وغيرهم من الشخصيات التي كانت رمزاً للنضال والشجاعة والنبل والإخلاص، رحل الساروت في ميدان القتال مؤخراً.

رحل الساروت تاركاً المرء في حيرةٍ من أمره وهو يفكر في خيارات من اختاروا أن يبقوا مقاتلين على الأرض السورية رغم معرفتهم بأنهم قد يقتلون في أي لحظة، ورغم وجود خيار الانسحاب والهروب، والخلاص "الفردي" ورغم معرفتهم بأنهم قد يغوصون في تعقيدات الصراع السوري التي رسم ملامحها نظام باطش من جهة وتنظيمات عسكرية إسلامية متطرفة ليس هدفها مقاتلة النظام بل أن تحتل مكانه السلطوي من جهة أخرى.

يفكر المرء كيف أن هؤلاء قد ذهبوا للخيار الأصعب، بلا أي رفاهية للتفكير بالخلاص الفردي، والتضحية بكل شيء، بما في ذلك حياتهم نفسها، من أجل خلاص جمعي طال انتظاره.