مثقّفون فلسطينيون ضدّ "صفقة القرن"... عبد الرحمن بسيسو

2019-06-23 12:00:00

مثقّفون فلسطينيون ضدّ

 ما هو تأثير "صفقة القرن" على مستقبل القضية الفلسطينية؟ وكيف ينظر المثقف الفلسطيني إلى محاولات الإدارة الأمريكية لتمرير هذه الصفقة بالتعاون مع جهات عربيّة وبهدف تصفية القضية الفلسطينية من خلال عقد «ورشة البحرين» الاقتصادية في المنامة يومي 25 و26 حزيران/ يونيو الجاري؟ وما هو دور المثقف الفلسطيني في مواجهة صفقة الأوهام والعار وسبل التصدي لها؟ أسئلة وجهتها "رمان" لعدد من المثقفين الفلسطينيين داخل الوطن وخارجه، وهذه إجابات عنها.

أعدّ الملف: أوس يعقوب.

 

"أحسب أن ما صَار يُسَمّى الآن، إعلانياً أو إعلاميّاً، بـ"صفقة القرن" لا يعدو أن يكون إلا تطبيقاً عملياً للربع الأخير من الوثيقة الموجزة والمُكَثّفة التي صَاغها، بالعبرية، في مطلع ثمانينات القرن الماضي، ضابط مخابرات اسرائيلي يُدعى "ينون عوديد"، ويتركّز تطبيقها على إعمال آلية "التفكيك" في بلاد العرب لتحقيق أهداف تمكينية متلاحقة تتجسد في وقائع فعلية يتمّ تكريسها على الأرض، وهو الأمر الذي أحال هذه الخطة الاستراتيجية إلى قائمة أهداف هي أشبه ما تكون بـ"قائمة شندلر"!

وإنّي لأحسبُ أنّ عدداً قليلاً من السّاسة والقادة و"الزّعماء" و"المثقفين" وأشباههم، من الفلسطينيين والعرب قد اطّلع على هذه الوثيقة/الخطة الاستراتيجية، فأولاها اهتماماً وتعامل مع معطياتها بجدية واجبة! وذلك علماً أنّ البروفيسور إسرائيل شاحاك كان قد نقلها، في حينه، إلى الإنجليزية، فصارت، متداولة في أوساط أكاديمية ورسمية أمريكية وأوروبية. وما كان الحصول على نسخة منها صعباً، أو غير متاح! ويبدو جلياً الآن، ولعله قد كان جلياً لمن اطلع على هذه الوثيقة، المعنونة بـ"استراتيجية لإسرائيل خلال الثّمانينات - ١٩٨٠"، في زمن صدورها، أنّ الحرب العدوانية التي شنتها إسرائيل في صيف العام ١٩٨٢ على لبنان، مستهدفة "م ت ف" والحركة الوطنية اللبنانية، بجميع هياكلهما ومؤسساتهما وأنشطتهما، لم تكن إلا خطوة تمهيدية ضرورية للشروع في تنفيذ المهمات وتحقيق الأهداف والغايات المُدرجة، مباشرةً أو ضمناً، فيها: تشتيت م ت ف، ومحاصرتها، وتفريغها من مضمونها؛ إجهاض الانتفاضة الفلسطينية بأيد فلسطينية؛ الانخراط في ذلك الذي أفضى إلى "اتفاقية أوسلو" السياسية، واتفاق باريس الاقتصادي ... إلخ.

حتى الخطوات الأساسية الثلاث الأخيرة التي أقدمت واشنطن عليها: القدس (عاصمة لإسرائيل)؛ اللاجئين الفلسطينين (تفكيك الأونروا ورفض مبدأ العودة مع تقليص إمكانية إعماله إن استوجب الأمر ذرّ رمادٍ في العُيون)؛ الجولان (ضم الهضبة السّورية إلى إسرائيل)! ثمّ، أخيراً، ورشة البحرين الاقتصادية التي تأتي في سياق إبدال الحل الاقتصادي للقضية الفلسطينية بالحل السياسي الوطني والإنساني، وهو الحل الاقتصادي الذي يتأسس على، ويهدف إلى، تعزيز السّردية الأُسطورية الصهيونية العنصرية الزائفة بشأن فلسطين، في مقابل اجتثاث السّردية الفلسطينية الحقيقية الكبري المؤصّلة: حَضَارياً، وتاريخياً، وإناسياً (آنثربولوجياً من شتى المجالات المعرفية والمنظورات والأوجه) وواقعياً، وعقلياً، ومنطقياً! هذا ما أعتقده، بإيجاز آمل ألّا يكون مُخِلّاً بوضوح الدّلالة والمغزى، وأنْ يفتح الباب، على وسعه، للإجابة عن الشق الثاني من سؤالكم المُرَكّب. وفي صلب هذه الإجابة أقول: ليس لصفقة القرن تأثير استثنائي على القضية الفلسطينية يتجاوز تأثير ما قد تم تطبيقه بالفعل وتجسدت عقابيله الفادحة على حال الأرض الفلسطينية ومصائر أصحابها الأصليين، أو يتخَطّى ما هو مبذول للمعرفة وفي متناول أيّ إنسان معني بالمعرفة، من مكونات المشروع الاستعماري الصّهيوني العنصري الرأسمالي الغربي المُتَوحش الذي استهدف فلسطين وشعبها منذ نهايات القرن الثامن عشر!

وإنْ كان ثمة من جديد في الأمر، فإنما يتجسّدُ في جلاء مقاصد هذا المشروع التوسّعي في استهدافه بلاد العرب جميعاً، وبلدان أخرى في هذا الشرق الدّامي، بالاستعمار الصهيونيّ، مباشراً أو غير مباشر، وبالهيمنة المطلقة التي تستهدف تحقيق حلم تلوين هذا الشرق بالأزرق، وفق ما سبق لشيمون بيريز أنْ تَصوّر وأرادَ وكتب، أو وفق ما يؤكّد الصهيوني بنيامين نتنياهو باستمرارٍ، وعبر إشارات متكررة تقول دلالة أنّ "إسرائيل" تُمعِنُ، بنجاحٍ باهرٍ، في "تلوين العالم، بأسره"، بالأزرق!

وليس ثمّة من جوابٍ حقيقي على هذا الخراب الصهيوني العميم، وهذا الانزلاق الفلسطيني والعربي، والمشرقي، بل والإنساني، صوب جحيم الصهيونية والرّأسمالية الإمبريالية المتوحشةِ، هذا المُلَوّن بالأزرق، إلا واحداً، وهو يتكثّفُ، ويتلخّصُ، في التّمسّك الجذري الحاسم، الحازم والقاطع، بالسّردية الفلسطينية الحضارية التاريخية الإنسانية الكبرى، بجميع جوانبها وأوجهها وتجليات حقائقها الرّاسخة في الأرض الفلسطينية، وفي وعي الإنسان الفلسطيني والعربي، وفي وجدان أيّ إنسانٍ أياً ما كانت الثقافة أو القومية أو الديانة أو العقيدة الفكرية التي ينتمي إليها.

إنّ فلسطين واحدةٌ: أرضاً؛ وشعباً؛ وقضيةً؛ ونضالاً: وطنياً، عربياً، وإنسانياً من أجل إدراك الحرية وممارسة حق تقرير المصير؛ ومستقبلاً فلسطيناً مُنِيراً ومفتوحاً على مستقبل عالمٍ إنسانيّ مُنِير يخلو من الصهيونية العنصرية والتوحّش الرأسماليّ الاستعماريّ، وظلام الوعود الإلهية الزائفة والأساطير السّوداء المدجّجة بأسلحة تدميرية فاتكة تطال الوعي الإنساني بقدر ما تطال البشر والطبيعة والأشياء والكائنات.