"بين حانة ومانة".. مشهد دامي متعثّر بالحُريّة!

2019-06-26 12:00:00

معظم أغاني الألبوم مدججة بموسيقى جذابة تنجح في تحريك أجسامنا رغم ما يرافقها من المعاني القاسية، فنجد والد تامر نفار الراحل، في أكثر من أغنية، ونجد الحب، ونجد صرخة تتكرر تطالب بعتق الفلسطيني من قيود السياسة والاحتلال و"حرب الشوارع".

في لحظة ما قررتُ منع اصبعي من الضغط على زر إعادة التشغيل كلّما انتهت واحدة من الأغنيتين "دثروني" و "بين حانة ومانة" التي أطلقها فريق الراب الفلسطيني "دام" ضمن ألبومه الجديد الذي يحمل اسم "بين حانة ومانة".

قلّما أجدت التعبير عن أفكاري حول موسيقى أسمتع إليها، لكن في حالة "دام" يسعفني الوضع كون الحديث لا يدور عن الموسيقى، بل عمّا أحب التعمّق فيه: النص؛ حيث ينجح فريق "دام" في إطالة عمر الأغنية الإحتجاجية العصرية، ويزيد في هذا الألبوم من منسوب الفظاظة في التعبير عما يؤرق الناس في الداخل الفلسطيني، تتكرر بعض المواقف في عدد من الأغاني لكنها تتخذ في كل مرّة بعدًا جديدًا.

لم يكن بإمكاني الاستمتاع إلى الألبوم دون التوقف عند جملة هنا وتشبيه هناك، فقدرة الأغاني على عكس صور من حياة مجتمع فلسطينيي الـ 48 ومن ثم ربطها بالمشهد العام عربيًا، مع التشديد على عدم القدرة على عزلنا عما يدور في فلك شرق أوسط متهالك. فجأة تتحول الأغنية إلى درس في السياسة والتاريخ والجغرافيا. يتضح جليّاً لمن يقرأ كلمات الأغاني بأن كل واحدة منها هي نتاج رحلة بحث عميقة، بحث عن الاستعارات التي تجانست بسلاسة مع بعض التفوهات النابية التي جمّلت الفكرة.

أجادت "دام" البحث عن التشبيهات والقصص والحوادث، بعض الأغاني قصص من التاريخ وبعضها الآخر سيرة ذاتية وهذه كلها تهيم في فضاء "ساتيرا" مشحونة برثاء مجتمع تفتك فيه فوضى السلاح والعبث السياسي والنفعية. ومع ثقل النص في معظم الأغاني، لا يزال هناك منفذ للرقص على اللحن.

هذا الألبوم مثل فيلم "أكشن" هوليوودي، فيه الكثير من العنف والدم والجنس. نشرة أخبار عاجلة تترقّب تحركات داعش والتكفيريين الذين يبطشون بالناس وتنذر  بالخطر.. رسالة محملّة بالنقد الاجتماعي للهوس بالمال، ومظاهرة صاخبة داعية لتحرير المرأة حيث الأطنان من الشعارات الرنانة وسط واقع قامع. ومع ذلك كله راب تقليدي يفاخر فيه الرابر بنفسه وبأمجاده ونجاحاته.. 

 

تبرز في نص الأغاني المواكبة الدقيقة للعلاقة المشحونة مع الإسرائيلي، المحتل سياسيًا وثقافيًا، مع تعظيم شخصيات نسائية فلسطينية مثل ليلى خالد وتوظيف جميل لاسم "عهد التميمي". 

لكن الأهم في نص الكلام هو الإضاءة على حالنا في الداخل الفلسطيني المنقطع جزئيًا عن امتداده العربي. نحن الذين نعيش صراعًا، وحالة تيه وضياع ونملأ الفراغ بضجيج أصوات الرصاص. فتستدعي حالة الانفلات الاجتماعي الذي نحياه للاستنجاد بآمنة أم الرسول محمد ومريم أم يسوع، فهناك حالة اقتتال داخلي نجحت السياسات الإسرائيلية في خلقها ولم تتمكن القيادات من وضع حد لها، فمن عساه يفعل ذلك سوى صاحب مكانة إلهية؟!

لم يكن اختيار "ستنا آمنة" ولا "ستنا مريم" عبثيًا. إلى جانبهما ذكرت ليلى خالد وعهد التميمي، ومغنية الفريق ميسا ضو التي لا تتردد في تفصيل معنى مكانتها كامرأة عربية.. كل هذا الزخم النسائي يأتي ليدعم رسالة واضحة هي "تحرير المرأة"، تحرير  يتعاظم ليخرج عن النص الفلسطيني ويبدأ عراكًا مع مكانة المرأة في السعودية! 

هناك نص مركّب في أغاني "دام" يجعل المستمع يبحث، أو على الاقل يتمعن، في الكلمات.. كنت أتمنى أن أكتب هذا وأنا على يقين بأن الآلاف من المراهقين؛ الذين لا يكفون عن ملاحقة عروض الفريق وأغانيه؛ يفعلون ذلك، كنت أتمنى أن ينصتوا للكلام ويحاولوا أن يفهموا ما جاء في كل سطر من كل أغنية. 

كذلك، يجد الدين مكانًا له في هذه الأغاني، سواء على صعيد شخصيات دينية أو اقتباسات من أحاديث نبوية وآيات قرآنية، تتحد جميعًا لإيصال الفكرة حول ارتباطنا بثقافتنا العربية الإسلامية وحضورها فينا، فهنالك أمنية غير المتدين تحقيق رغبة والدته بأداء مناسك الحج، هنالك الصلاة والركوع التي اقتصرت يومًا على الآلهة والأنبياء وتحوّلت اليوم لتصبح ركوعًا للمال.

معظم أغاني الألبوم مدججة بموسيقى جذابة تنجح في تحريك أجسامنا رغم ما يرافقها من المعاني القاسية، فنجد والد تامر نفار الراحل، في أكثر من أغنية، ونجد الحب، ونجد صرخة تتكرر تطالب بعتق الفلسطيني من قيود السياسة والاحتلال و"حرب الشوارع".

ربما لن يفهم العربي في سوريا أو المغرب معنى "شارع 20" وتاريخ "جابوتنسكي"، لكن يمكنه بكل تأكيد التفاعل مع رفض التحرش، وتأييد التعددية، والوعي لخطورة التلاعب الغربي بمصائرنا.. "بين حانة ومانة" استمعوا له.. وأنصتوا.