إنعام كجه جي: الحب هو خير دليل

2019-08-02 15:00:00

إنعام كجه جي: الحب هو خير دليل

إذا كنت تقصدين أن الكتابة كثيرة والقراءة قليلة، فإن معكِ كثير من الحق حيث أن هناك اهتمام كبير حالياً بنشر الروايات على وجه الخصوص سواء أكانت عربية أو مترجمة، وفي ظل هذه الوفرة فإن بعض الروايات لا تجد من القراء سوى بضع عشرات.

لم يكن من قبيل الصدفة أن تدخل إنعام كجه جي عالم الرواية بعد مسيرة مهنية طويلة في عالم الصحافة، ولا من باب المكانة الاجتماعية التي لم تحتاجها، إنما ولأنها منذ أول روايتها «سواقي القلوب» التي صدرت عام 2005 عن المؤسسة العربية للنشر والتي وضعتها بقوة على خارطة المشهد الروائي العراقي أوضحت بجلاء أنها كاتبة لديها مشروعها الروائي الخاص والذي يلعب في منطقة تخصها وحدها، الأمر الذي ترسخ عبر رواياتها الثلاث التالية، «الحفيدة الأميركية» 2008، و«طشاري» عام 2011 و«النبيذة» التي صدرت عام 2017، وقد صدرت كلها عن "دار الجديد" للنشر، والتي وصلت أيضاً إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية في أعوام 2019 ،2014 ،2009 مما جعلها الكاتبة العربية الوحيدة التي وصلت رواياتها لثلاث مرات متتالية إلى القائمة القصيرة للبوكر، وعن هذه المسيرة الحافلة كان لرمّان هذا اللقاء مع الروائية العراقية في محاولة للدخول بشكل ملموس إلى عوالمها الماورائية.

عادة ما نسمع في الشعر عن المتنبي وهناك "متنبون" كثر عبر تاريخنا الطويل لكننا من النادر أن نسمع عن روائي أصدر روايته الأولى بعد سن النبوة المتعارف عليه، هل كان العمل في الصحافة مادة تأسيسية لهذا الانتقال الذي جاء مكتمل الوعي والرؤية والمشروع؟

حلوة "سن النبوّة" هذه، وما أبعدني عن أن أكون "متنبيّة". فأنا مثل كل العراقيين والعراقيات كتبت الشعر في المراهقة، ثم نشرت بضع قصص قصيرة قبل أن تستولي عليّ مهنتي بالكامل. لكنني كنت طوال تلك السنوات قارئة شغوفة ومتابعة جيدة لما ينشر من روايات ومجموعات شعرية وقصصية. ثم حصل في العراق ما يعجز عن تصوره الخيال. ووجدت في الرواية مرهمًا لمداواة الفوضى الروحية التي ألمّت بي. هل تعرفين أولئك الآباء المهووسين بتصوير أبنائهم في كل مراحل العمر؟ أردت أن أرسم صورًا متتابعة لوطن عرفته معافى، وأراه على سرير العجز والتفتت. 

تغلب على لغتك الروائية استخدام المفردات المغرقة في اللهجة العراقية حتى وصل الأمر إلى عنوان رواية ملتبس مثل "طشاري" وكأنك عبره تحيلين القارئ إلى البحث ليس فقط عن هذه الكلمة وإنما للبحث أيضاً عن حمولتها الثقافية والتاريخية، كيف  تمكنتِ من استحضار العراق بمحليته التي تتغير كل جيل بعد هذه العقود التي تفصلك عنه؟

أكتب عن بقعة جغرافية محددة. وعن أناس فارقوها أو طردوا منها دون أن ينجحوا في الفكاك من ماضيهم. ولرسم المكان لا بد من ألوان ورموز وروائح وأغنيات وأمثال. ولعلني لم أتقصد استخدام بعض المفردات المحلية بل كانت روح المكان تحتلني وأنا أكتب عنه وعن ناسه، أعني أهلي. كيف أسحب القارئ إلى المناخ العراقي لكي يفهم أي فردوس أضعنا؟ ولكي لا يتيه فإنني كنت حريصة في سياق السرد على توضيح كل مفردة. صحيح أنني أحبّ الكلمات المتقاطعة لكنني ضد التعمية والغموض. 

من الملاحظ لمتتبع كتاباتك أن شخصيات رواياتك على الأغلب ترتكز على قصص حقيقية تدرسين تاريخها الشخصي الزماني والمكاني، فهل كان للصحافة دور في هذا التوجه في الكتابة؟ أم أنه منهج اخترته عن قصد للكتابة الروائية؟

كما قلت لك، وكما أردد دائمًا، صار الواقع العراقي يبزّ الخيال في حكاياته وشخصياته. ثم أنني عاشقة لحكايات النساء والرجال المعمرين الذين يختزنون قصصًا مدهشة. وفي ندوة حول الأدب العربي عقدت في ميلانو، قبل فترة، لاحظت أن روائيين غيري يرتمون في أحضان الأم أو الجدّة أو كبار العائلة. ولكي نفهم ما نعيش اليوم، لا بد من نبش في الماضي القريب. كأننا نريد أن نتشبث بالقيم التي تربت عليها أجيال الصح، بالمقارنة مع أجيال الشطط والعنف والفساد والفقر الروحي. وقد يكون لاشتغالي في الصحافة دور في هذا الميل. نعم، أحب الكتابة عن بشر حقيقيين. 

رواية «النبيذة» -العمل الأحدث الذي صدر لك عن دار الجديد عام 2017-  هل تحمل إحدى شخصياته شيئاً من حياة إنعام كجه جي الإنسانة؟ وهل تظنين أن هناك مساحة في الرواية لتداخل عالم الكاتب الخاص بتفاصيله مع عالم الشخصيات التي يكتبها؟

في كل كتاباتي، الصحافية منها والأدبية، الكثير مني. وقد تكون الوقائع بعيدة عما عشت، والشخصيات غريبة وتتناقض معي، لكنها تأتي مطعمة بحصيلة تجاربي. قبل «النبيذة»، وعندما صدرت الحفيدة الامريكية سئلت هل أنت بطلة الرواية وكان الجواب أن بطلة الرواية تصغرني بربع قرن لكن هناك شخصية متوارية هي شخصية كاتبة الرواية وقد يكون في هذه الشخصية الثانية شيء مني، وحدث الأمر نفسه مع «النبيذة» وبما أن البطلة، تاج الملوك، صحافية فقد كتب بعضهم بأن هناك شيء من تجاربي في حكايتها ومرة أخرى أقول إن الرواية تبدأ وتاج الملوك في التسعين من عمرها وهي كانت من الصحافيات الرائدات في العراق وصادقت نوري السعيد والوصي على العرش في وقت لم أكن قد ولدت فيه، لكن بالتأكيد الكاتب يمنح أبطاله شيئاً من ذاته. 

ما بين عراقية وفلسطيني تدور أحدث قصة الحب الرئيسية في النبيذة، كم كان حجم الإغراء بالنسبة لك كعراقية تنتمي إلى جيل تشكّل فلسطين في وعيه مكانة مغايرة عن غيره من الشعوب العربية؟ وما هي أكبر التحديات التي واجهتكِ أثناء العمل على هذا الرواية خاصة أنها تعتمد على قصة حقيقية؟

يمكن وصف «النبيذة» بحفل تعارف. فقد التقيت بسيدة لديها سيرة تغري بالتتبع، في العراق وخارجه. ولما فكرت في استلهام جوانب من حياتها في رواية، فوجئت بأنها تطلب مني مساعدتها في العثور على الشخصية الثانية في الرواية، حبيبها الفلسطيني الذي تاه عنها. ومن خلال البحث التقيت بالشخصية الثالثة. لكن هؤلاء لم يكونوا جاهزين ومتهندمين وواقفين رهن إشارتي. كان عليّ أن أعود إلى وثائق وكتب كثيرة في السياسة والتاريخ والفن. وكذلك إلى أطلس الجغرافيا لأن مساحة الرواية تمتد من بغداد والقدس إلى كراتشي والمحمرة وكاراكاس وصولًا إلى باريس. وساعدني في كل تلك الرحلة أنها قصة حب. والحب هو خير دليل. 

تابع الوسط الأدبي كله ما حدث في كواليس جائزة البوكر لعام 2019 ووصول روايتك إلى القائمة القصيرة ومن ثم اختيار رواية للكاتبة اللبنانية هدى بركات مما شكل صدمة لكل من تابع أخبار الجائزة، كيف استقبلت هذا الخبر؟

تربطني بهدى بركات صداقة قديمة، وهي روائية قديرة وتستحق أفضل الجوائز. وأظن أن ما حدث في البوكر كان بسبب سوء تقدير المشرفين على الجائزةّ، ولا ذنب لها فيه.

كونك في باريس، كيف تقيمين حركة ترجمة الأدب من العربية إلى الفرنسية؟ وهل تحكم الاختيارات معايير أخرى غير الفنية؟

النشر صناعة لا تغفل الربح. وهناك معايير للاهتمام بالكتاب الذين يرتأي الناشر الفرنسي أنه يستحق الترجمة. وهي معايير قد تكون سياسية مثل الاهتمام بما يجري من انتفاضات في هذا البلد العربي أو ذاك، أو محض تجارية. هذا لا يعني أن النص الضعيف يأخذ طريقه إلى المكتبات. هناك تقاليد في التحرير والمراجعة وفي اختيار الروايات التي تخاطب القارئ الفرنسي وتضيف لمعارفه. 

كيف تقيمين حركة القراءة في هذا الجيل الذي يعتمد حتى في الكتابة على اللوح الإلكتروني، مما يستدعي إلى الذهن سؤالاً عن جدوى استمرار النشر الورقي، وهل تجدين توزاناً ما بين حركة القراءة والنشر في العالم العربي؟ وأين يقع دور الناقد -إن كان له وجود- هنا؟

إذا كنت تقصدين أن الكتابة كثيرة والقراءة قليلة، فإن معكِ كثيراً من الحق حيث أن هناك اهتمام كبير حالياً بنشر الروايات على وجه الخصوص سواء أكانت عربية أو مترجمة، وفي ظل هذه الوفرة فإن بعض الروايات لا تجد من القراء سوى بضع عشرات. يحدث معي مثلًا أن أقتني أكداسًا من الكتب ولا أجد الوقت لقراءتها كلها. هل ضاق وقتي أم أن مشاغلي زادت وقدراتي تراجعت؟ ليس لهذا علاقة بالكتابة على الشاشة الإلكترونية أو المطالعة عبر اللوح، أما إذا كان الحديث عن النشر الإلكتروني فقد أصبح في طوع كل كاتب ما يشبه دار نشره الخاصة وهنا يصبح من الصعب الإلمام بكل ما ينشر وبالتالي غربلته. نحن هنا أمام تقنيات متقدمة تجتاحنا مثل التسونامي ولا أجد فائدة من الوقوف بوجهها، لأن لكل عصر أدواته، والمهم هو إيصال النصوص أي الأفكار، وبخصوص حركة النقد المواكبة لهذه الغزارة في الكتابة لا أقول إلا هل يُصلح الناقد ما أفسد الكمبيوتر؟