الروايات التي يحتاج التونسيون قراءتها لينتخبوا رئيسهم... «مزرعة الحيوان» أو الثوريّ ينقلب على نفسه

2019-08-18 13:00:00

الروايات التي يحتاج التونسيون قراءتها لينتخبوا رئيسهم... «مزرعة الحيوان» أو الثوريّ ينقلب على نفسه
george orwell

وشيئًا فشيئًا تعوّد الجميع على الوضع الجديد و"جاء زمن لم يعد أي حيوان فيه يتذكر أيام ما قبل الثورة ..." ولكن الحيوانات ظلت تحلم بثورة جديدة، تلك التي بشّر بها الحكيم ميجور خاصة بعد أن حرف  الخنزير نابليون الدستور.

ليس صحيحًا أنّ رواية «1984» هي رائعة جورج أورويل مادامت هناك رواية اسمها «نحن» التي كتبها الروسيّ يفغيني زامياتين سنة 1921 وأحدثت أثرًا في كتابة أورويل، تحديدًا في روايته الديستوبيّة «1984».  بل رائعة أورويل الحقيقية هي «مزرعة الحيوان»، تلك النوفيلا القصيرة التي نشرت سنة 1945 ونقلت في ترجمات كثيرة إلى لغات العالم كانت العربية منها. تبدو هذه الرواية هي الأنسب في هذه اللحظة التونسية السياسيّة لأنها تتحدث عن ثورة فتية كتلك الثورة التي عاشتها تونس، وقد جاءت نقدًا للنظام الشمولي الشيوعي الستاليني الراديكالي وجهازه الأمني الذي أسس لإرهاب الدولة والقمع السياسي تحت غطاء الثورة، وهو ما تسبب في منعها في روسيا والبلدان الشيوعية.

في هذه المقالة، سنركز على أمر آخر أكثر أهمية وهو شخصية الثوري وتقلباته. كيف يمكن للثوري أن ينقلب على المبادئ التي جاء إلى السلطة من أجلها؟ 

الرواية كما هو معروف تروي قصة ثورة تقوم بها حيوانات مزرعة السيد  جونز المستبد حيث تقرر تلك الحيوانات إنهاء حكم البشر عليها لما عانته منه، ويظهر السيد جونز رمزاً للدكتاتور الظالم الذي أذاق شعبه ويلات العذاب عبر الجلد والتجويع والسلب وسرقة الجهد... وقد قاد هذه الثورة مجموعة من الخنازير تمكّنت بفضل ذكائها من الإطاحة بالطاغية وطرده من المزرعة هو ومن معه لتصبح المزرعة أخيرًا بيد الحيوانات وتنهي الثورةُ نظامَ البشر الاستبدادي.

برز الخنزير أولد ميجور كأحد أبطال تلك الثورة وقادتها وهو خنزير عرف بـ "مظهر عاقل ومحب للخير، على الرغم من حقيقة أن أنيابه لم تقطع" وكان قد نادى جميع الحيوانات قبل الثورة إثر رؤيته لحلم فحضر الحمار بنجامين والتيس الأبيض مورييل وحصانا العربة بوكسر وكلوفر والدجاج والكلاب الثلاثة بلوبيل وجيسي وبنشر... والمهرة البيضاء الغبية والقطة مولي ولم يتخلف عن ذلك الموعد إلا الغراب موسى وأخذ يخطب فيهم خطبته الطويلة التحريضية للإطاحة بالمستبد جونز ومنها وصف وضعهم المزري في المزرعة وما يتعرضون له من مهانة وظلم من ذلك الإنسان القاسي.

صاح فيهم:

"الآن، أيها الرفاق، ما هي طبيعة حياتنا هذه؟ دعونا نواجهها: حياتنا بائسة، ومتعبة وقصيرة، وُلدنا لنعطي ما يكفي من الطعام الذي يبقي الروح في أجسادنا فقط، وهؤلاء المؤهلون منا يجبروننا على العمل إلى آخر ذرة في قوتنا، وفي اللحظة التي تنتهي فيها منفعتنا نذبح بوحشية شنيعة، ليس هناك حيوان في إنكلترا يعرف السعادة، أو الراحة بعد أن يبلغ سنة من عمره، ليس هناك حيوان حرّ في إنكلترا، حياة الحيوان بؤس وعبودية، تلك هي الحقيقة الصريحة.."

لينتهي بعد ذلك التشخيص إلى استنتاج أن الإنسان هو عدوهم الأول:

"لماذا نستمر في هذه الحالة البائسة؟ لأن البشر يسرقون كل إنتاج عملنا تقريباً. ذلك الجواب لكل مشاكلنا، أيها الرفاق الذي يتلخص بكلمة واحدة. الإنسان، الإنسان هو عدونا الحقيقي والوحيد. أزيلوا الإنسان من المشهد وسيُمحى السبب الأصلي للجوع والعمل المرهق إلى الأبد."

ليخلص ميجور الخطيب إلى ضرورة الثورة :

"إذاً ما الذي يجب علينا أن نفعله؟ ولماذا؟ اعملوا في النهار والليل بالروح والجسد من أجل الإطاحة بالسلالة البشرية. هذه رسالتي لكم، أيها الرفاق: الثورة." 

 هذا الخطاب الطويل والحماسي القائم على الحجاج جعل الجميع يؤمن بضرورة الثورة. ووقعت الثورة فعلاً وتحولت مزرعة الطاغية الإنسان إلى مزرعة الحيوان. كان الأمر في بدايته رائعًا، فقد استعادت الحيوانات حريتها وحصصها في الطعام والراحة ولم يعد هناك من يجبرها على العمل الشاق ولا من يسلبها عشبها أو حليبها أو أولادها ولا سكاكين ترعبها بالذبح، فقد كانت ماتزال تحت تأثير الحكيم ميجور الذي أوصاهم قبل موته أنه "لا يجوز أبداً لأي حيوان أن يخون بني جنسه، ضعفاء أم أقوياء، أذكياء أم بسطاء، كلنا أخوة. لا يجوز أبداً لأي حيوان أن يقتل حيواناً آخر. كل الحيوانات متساوية."

غنمت الحيوانات أيضاً التعليم فأخذوا يتعلمون القراءة والكتابة وظل ذلك السلم الأهلي قائمًا حتى سلّمت الحيوانات قيادة المزرعة للخنزير نابليون باعتباره الأذكى والأجدر بإدارة شؤون المزرعة مع الخنزير سنوبول.

وكان الخنزير نابليون "خنزيراً ذا هيئة شرسة من سلالة الخنازير السود، الوحيد من سلالته في المزرعة، ولم يكن متحدثاً جيداً لكنه اشتهر بأنه يفعل ما يريد دون الاكتراث بالآخرين، أما سنوبول فكان أكثر حيوية من نابليون وأسرع وفي الخطابة أكثر إبداعاً لكنه لم يكن بعمق شخصية قرينه."

لكن خلافًا قد نشب بين نابليون وسنوبول اعتبره نابليون خيانة فأمر بتصفيته إلا أنه تمكّن من الفرار إلى المزرعة المجاورة ومنذ تلك اللحظة تحول نابليون إلى طاغية صغير تكبر نواياه الاستحواذية كل يوم حتى أعلن نفسه زعيماً ورفع عشيرته المتمثلة في الخنازير إلى حاشية تدير دواليب السلطة وتتحكم في مصائر بقية الحيوانات ويبدأ عصر الاستعباد الجديد عبر تفشي الفساد والبطش بالمعارضين أو أولئك المذكّرين بأصل الثورة وأهدافها التي قبرها الخنازير الذين استولوا على الحكم. ووجد نابليون في حاشيته من سانده للاستيلاء على الكرسي واستعادة حكم الطاغية كالخنزير البدين سكويلر الذي صاح في الحيوانات "الشجاعة لا تكفي، الولاء والطاعة هما الأهم".

لكن سنوبول عاد لينتقم فخرّب الطاحونة وانتشرت أخبار محاولات اغتيال نابليون وأعدمت دجاجات اعترفت بالخيانة "واتخذت إجراءات جديدة للحفاظ على سلامة نابليون. أربعة كلاب كانت تحرس سريره ليلاً، واحد في كل زاوية، وتسلم خنزير صغير يدعى نكآي مهمة تذوق طعامه قبل أن يأكل، كي لا يسمم".

وتتواصل أحداث الرواية تقص أخبار عودة الاستبداد وانتظار الظلم من جديد وأحداث الدسائس في مزرعة الحيوان حتى ظهر الغراب موسى العاطل دائماً بعد سنين من الغياب يتحدث كالعادة عن جبل الحلوى المزعوم.

وشيئًا فشيئًا تعوّد الجميع على الوضع الجديد و"جاء زمن لم يعد أي حيوان فيه يتذكر أيام ما قبل الثورة ..." ولكن الحيوانات ظلت تحلم بثورة جديدة، تلك التي بشّر بها الحكيم ميجور خاصة بعد أن حرف  الخنزير نابليون الدستور.

هذه هي قصة مزرعة الحيوان التي لم تُبق الثوري ثوريًا عندما اقترب من السلطة. وكلما اقترب، إما أن يتصلّب أكثر إذا كان قويًا فينحرف نحو الاستبداد والعنف ويستغل المشروعية الثورية ليشرّع لاستبداده كما ستالين، أو أن يلين كل اللّين ويتحوّل إلى أسوأ من سابقه. وقد عرفنا في الحالة التونسية عدداً من الوجوه السياسية التي تبنت الخطاب الثوري باعتبارها أصواتا حرة ومعارضة لنظام بن علي وظلت سنوات تحمل ذلك الخطاب وما إن اقتربت في مناسبة أولى من السلطة حتى ذهبت إلى التطبيع مع الدكتاتوريات البعيدة والقريبة تحت شعار مناهضة التيار المتشدد أو الإخوان المسلمين.  

من ضمن المرشحين لرئاسة تونس سنة 2019 من كان قبل الثورة سنة 2011 ينادي بإسقاط النظام من خارج تونس عبر الفضائيات العربية والغربية وعبر منظمات حقوقية. وكان يذكّر التونسيين في الداخل أنهم تحت سيطرة مجموعة من اللصوص تستغلهم وتسرق منهم ثروات بلادهم. وعندما أسقط النظام ركض إلى تونس بحثًا عن منصب الرئيس، ولكنه ما إن وصل إلى القصر رئيسًا أو مستشاراً حتى انقلب شخصًا آخر، إما مكتفياً بما وصل إليه أو سائحًا بين الأحزاب الأخرى ذات المرجعيات المناوئة لفكرة العدالة الاجتماعية باحثاً عن سبل بقائه هناك في السلطة أو الحصول على وعد بالتوريث فبدأ يخرّب الحزب الذي انتمى إليه أو قدّم فروض الطاعة للجهة الأقوى سياسيًا وبرلمانيًا والمسنودة ماليًا حتى لو تناقضت مع قناعاته أو ما روّج لها على أنها قناعات متعلقة بحقوق الإنسان والحريات الشخصية.

خسر الأول منصب الرئاسة وخسر الآخر الحزب وانشق عنه. وعاد الأول يغازل نفس الأطراف وقواعدها لتصوّت له بينما وقف الآخر متباهيًا بأنه في علاقة بالمشير حفتر في ليبيا والسيسي في مصر!

فهل يمكن للتونسيين أن يطمئنوا لرئيس سابق خذلهم ومازال يحلم بأن ينتخبه شباب ذلك الحزب اليميني الذي سانده في الدورة السابقة؟  

وهل يمكن للتونسيين أن يطمئنوا لمرشح آخر انشق عن حزبه الأم واستلهم من الزعماء القوميين حركة تذكّر التونسيين بموسيليني وهتلر ضارباً بقبضته على صدره، حركة تبدو استعراضية ساذجة لمراهقة سياسية لكن تحمّسه لضابطين انقلبا على ثورة شعبيهما ينذر بخطر كبير يهدد الثورة التونسية إذا ما وقع تمكين شخص مثله من الحكم. وهو ما يقد يضعنا وجهاً لوجه مع عبارة المفكر المنشق عبد الله القصيمي التي يحذر فيها من الثوري العربي الذي إذا ثار يأتي بأسوأ منه.  

فهل ينتخب التونسيون الثوري الانقلابي؟ هل ينتخب الشعب نابليون مزرعة الحيوان؟ هل ينتخب التونسيون سنوبول المستجير بالأجنبي؟

"أيها العقل، من رآك؟"


لقراءة الحلقة الأولى من السلسلة: الروايات التي يحتاج التونسيون قراءتها لينتخبوا رئيسهم... «إضراب الشحاذين»