النهاية الحقيقة لـ «دعاء الكروان»

2019-08-22 12:00:00

النهاية الحقيقة لـ «دعاء الكروان»
من الفيلم

على أية حال، بنظرة واقعية على أحوالنا، نجد أن النهاية الحقيقية لـ «دعاء الكروان»، النهاية الواقعية، مختلفة تماماً عن نهاية الفيلم والرواية. النهاية الواقعية هي أن يقع المهندس في حب آمنة، لا مشكلة في ذلك. هذا نراه كل يوم وكل ساعة. لا تستسلم آمنة له. أي أنها لا تمارس الجنس معه.

يكاد يكون موضوع الجنس قبل الزواج، أي عذرية المرأة في المجتمع الشرقي، أهم المواضيع على الإطلاق في الأدب والسينما. ليس لأن الفنانين مهووسون بالجنس، بل لأنه يطرح كل مشاكلنا دفعة واحدة، بوضوح وصدق وبطريقة مباشرة: التحكم البطريركي بالنساء، والنفاق الاجتماعي الذي يلوم المرأة على امتهانها لنفسها ويحتفي بالذكر زير النساء، القوانين التي تنتصر للرجل، الأعراف الدينية، الثورة الاجتماعية والفكرية... إلخ؛ بل يشمل الموضوع أيضاً أسئلة كونية وجودية: معنى الحب والزواج، الصدق مع الذات، مواجهة الفرد للمجتمع: وبحسب أستاذنا القاص المصري يحيى حقي، في هذا التفصيل الأخير يكمن كل الأدب. 

الأعمال الرئيسة في الأدب العربي الحديث تبحث هذا الأمر: "البوسطجي" و"بداية ونهاية" و"القاهرة الجديدة" و"يوميات نائب في الأرياف" وغيرها، بطرق مختلفة وفي سياقات متعددة. 

طه حسين تناول الأمر في «دعاء الكروان». لم يكن العميد أديباً من الطراز الأول، ولكنه، أيضاً، ليس أديباً ثانوياً هامشياً: تحتل أعماله الأدبية مكانة غير واضحة وصعبة التقييم. في «دعاء الكروان»، ينجح العميد في بناء قصة مثيرة فعلاً تشد القارئ، حول تحرر المرأة: أحد اهتماماته الرئيسة، نظرياً وعملياً. الرغبة بالإصلاح تجعله لا يقاوم الرغبة بالوعظ أحياناً، وبمحاولة إجبار القارئ على التعاطف مع الشخصيات الأضعف أحياناً أخرى: ولكنه، عندما يكتب في النقد، يتخلى تماماً عن هذه النزعة، ليقيّم الأعمال الأدبية بروح حيادية صافية. 

نجحت الرواية جماهيرياً، وتحولت إلى فيلم من بطولة أحمد مظهر وفاتن حمامة، وإخراج هنري بركات. نجح الفيلم بدوره، وأصبح، مع الرواية، من الأعمال الكلاسيكية في التراث الفني. نهاية الفيلم تختلف عن نهاية الرواية في تفصيل واحد، محوري تماماً: يُعاقَب الشرير، البرجوازي الوضيع، حتى بعد أن ينصلح حاله، في رسالة أخلاقية تتوافق مع زمن عبد الناصر، الذي يختلف تماماً عن زمن الملكية الذي كُتبت فيه الرواية. في الرواية، ينتصر الحب، ولكننا لا نعرف إن كان البطل والبطلة يكملان حياتهما معاً. 

فكرة القصة بسيطة: عائلة مكونة من أم وبنتين تهجر قريتها عقب وفاة الوالد بسبب الفقر، وتتنقل في خدمة الأغنياء. يغوي المهندس الجميل الأخت الكبرى. ينام معها. ثم يتخلى عنها. تقتلها عائلتها عندما تكبر بطنها. تسعى الأخت الصغرى، واسمها آمنة في الفيلم، إلى الانتقام. تجد وسيلة كي تعمل خادمة عند المهندس، وهنا، في تحول ساحر عبقري، يتخلى طه حسين عن حذره ويجعل القصة أقرب إلى أفلام الإثارة والجريمة: تنجح الفتاة في استمالة قلب المهندس، دون أن تمارس الجنس معه، ولكنها تقع في حبه. في نهاية الفيلم، يقتل خال الفتاة المهندس. في نهاية الرواية، يحتفلان بالحب والحياة. (أسقطت الكثير من التفاصيل ومن الاختلافات بين الرواية والفيلم في هذا العرض الموجز).

أفضل ما في الفيلم والرواية هي هذه المشاهد والفصول التي تصف علاقة الحب الملتبسة الهمجية، المليئة بالكره والحقد والغضب والشهوة المكبوتة والحيرة. مذهلة قدرة العميد على فهم إشكالية الحب الرئيسة: الرغبة في الهروب التي تعزز دوماً الرغبة الجنسية والرغبة بالبقاء، ويعرضها في سياق درامي مُربك كئيب مُسلّ. 

قبل أن نناقش النهايات، لنفكر قليلاً فيما يفعله طه حسين هنا: كلا الطرفين، الطرف الضعيف، الفقيرة الخادمة آمنة، والطرف القوي، المهندس البرجوازي ابن الحسب والنسب، يتغيران تدريجياً، في هذا الصراع: الفتاة الضعيفة تتحول إلى موقع القوة، لتتحكم بالرجل: الرجل القوي يفقد قوته ويصبح عبداً لها. السر: رغبته الجنسية بها (جسدت فاتن حمامة دور الإثارة برقة وجمال وشهوانية وتهذيب خالد. أحمد مظهر لعب دوراً آسراً بدوره). في نفس الوقت، الفتاة الحاقدة تضعف أمام العدو، وتلين مشاعرها. الرجل المتعالي الجبار غير الآبه بالفقراء وبأفعاله يتحول إلى رجل متفهم محب رقيق. التحول مزدوج، في معنيين: مشاعرهما اتجاه بعضهما البعض، وفهمهما للعالم: تحول عاطفي وعقلاني. 

لاحظ أن العميد، وعلى العكس من روايات يسارية كثيرة، لا يكتفي بأن يجعل البرجوازي الشرير يفهم عاقبة أعماله ويتحول إلى الخير. هذا تحصيل حاصل وأمر بسيط جداً. الجديد تماماً، هو أن الفتاة الفقيرة المتمردة الحاقدة تقع في حب البرجوازي الشرير. 

تتصاعد القصة إلى النقطة التي يتفهم فيها القارئ والبطلة الشر: البطل البرجوازي ليس شريراً بالمطلق: ليس عدواً لا أمل منه. ولا نريد فقط إصلاحه. لا، يجب أن نحبه: وكيف لا تحب آمنة شاباً جميلاً ذكياً متعلماً مهذباً؟ هذا الشرير لم تتح له الفرصة كي يرى نتائج أفعاله: وكان عليه أن يقع في الحب، في المشاعر الجياشة، في الشهوة التي لن تتحقق، كي يفهم: كي يصبح عقله قادراً على فهم الواقع، وعلى فهم الشر والخير. يقرر العميد أن يترك الخاتمة مفتوحة: لا يخبرنا إن كان باستطاعة آمنة التغلب على مشاعرها وحزنها على أختها أم لا. على القارئ أن يختار الخاتمة التي يراها مناسبة.

وهذا الأمر يقودنا إلى اختلاف النهايات بين الفيلم والرواية. 

(تحذير هام: العميد والمخرج بركات لا يجعلان العمل الفني مجموعة أفكار متشابكة مملة، كما أفعل أنا هنا. على العكس: يعرف كلاهما كيف يجعل الفن والأدب أكبر من الأفكار.)

أرى أن خاتمة العميد أفضل بكثير من خاتمة بركات، لسببين: الأول، أنها متسقة مع سياق القصة، التي تتصاعد باستمرار إلى خاتمة مفتوحة، بعد التحول الدراماتيكي للشخصيتين. أما مقتل البطل بعد توبته فغير مقنع. أميل إلى أن بركات كان يهادن السلطة السياسية في اختياره لهذه النهاية. على الجهة الأخرى، هل كان طه حسين، بوعي أو بدون وعي، يهادن السلطة أيضاً: هل كان للنهاية التي يتصالح فيها الفقير مع الغني رسالة سياسية غير ثورية؟ لا أعرف. ولكنني لا أميل إلى ذلك. أعتقد أن السبب الثاني الذي سنناقشه الآن، هو الذي جعل العميد يختار هذه النهاية، وليس محاولة المهادنة مع السلطة الملكية. 

ربما، يرى العميد طيبة أصيلة في الطبيعة البشرية: طيبة يمكن إنقاذها حتى في أحط الشخصيات وأكثرها خسة ووضاعة: وهذا يتفق مع حياته وآماله وأعماله. الخير والحب ينقذان حتى الشرير. أما بركات، بخاتمته الباهتة، فيوجه رسالة مدرسية تقليدية حول معاقبة الشر. 

شتان بين النهايتين. 

على أية حال، بنظرة واقعية على أحوالنا، نجد أن النهاية الحقيقية لـ «دعاء الكروان»، النهاية الواقعية، مختلفة تماماً عن نهاية الفيلم والرواية. النهاية الواقعية هي أن يقع المهندس في حب آمنة، لا مشكلة في ذلك. هذا نراه كل يوم وكل ساعة. لا تستسلم آمنة له. أي أنها لا تمارس الجنس معه. أيضاً هذا طبيعي، ونراه كثيراً. ولكنهما ينفصلان. لا يعيشان معاً. يعود كل منهما إلى حياته: يتزوج المهندس فتاة غنية من طبقته، وتتزوج آمنة فقيراً مثلها. وينتهي الأمر كله. 

أو، إن أردنا أن نكون أكثر صراحة، وكان البطل والبطلة أكثر شجاعة، سيمارسان الجنس، مستخدمين الاختراع العجيب، "الكوندوم"، لتفادي الحمل، ثم ينفصلان، بعد اللجوء إلى عملية رتق غشاء البكارة، المنتشرة هذه الأيام في مجتمعاتنا. هذه النهاية عصرية تماماً: لم يكن كلا الأمرين ممكناً في زمن العميد أو بركات. وبهذا، لن يكتشف أحد الأمر، ولن تقع حوادث قتل جديدة، إلا إذا تسرب الخبر بطرق أخرى.

النهاية الحقيقية هي أنه لم يحصل تغيير يُذكر، أن القصة ما زالت تتكرر كما هي، حرفياً، وبكامل تفاصيلها، إلى يومنا هذا. ما زالت قضايا الحب والجنس قبل الزواج ومحاولة الذكور الإيقاع بأكبر عدد ممكن من الإناث، ثم التخلي عنهن بعد الجنس، من أكبر مشاكلنا. 

الفيلم الأخير لمحمد خان، «فتاة المصنع»، يعود إلى هذا الموضوع، في عز الثورة المصرية: اختار خان، بذكاء نادر يُحسد عليه، وبحساسية طبعت معظم أعماله، أن يتكلم عن موضوعة «دعاء الكروان» بدلاً من السياسة. كأن «دعاء الكروان» التي كُتبت في عهد الملكية، وتحولت إلى فيلم في عهد الناصرية، الذي تبعه الانفتاح الاقتصادي ثم فساد فاحش في عصر مبارك، وصولاً إلى ثورة فاشلة، ما زالت صالحة لحياتنا اليوم: ما زالت آمنة تدافع عن نفسها، وحيدةً، في وجه أهلها وفي وجه المدن الغادرة وأغنياء فاسدين وسلطات سياسية ودينية وقانونية تظلمها بدون رحمة. 

النهاية الحقيقية، إذن، لـ «دعاء الكروان»، هي أن يفشل الحب. 

هذا هو حاضرنا، الذي كتبه طه حسين قبل ما يقرب من ثمانين سنة، متفائلاً بمستقبل مختلف لما يأت بعد. 


في الملف كذلك:

الرّوائي في السينما... ٥ أفلام أحبّها لسليم البيك

أسئلة الاقتباس العربي: صعوبة إنتاج أو سينما مؤلّف؟ لنديم جرجوره

السينما للجميع، والأدب أيضًا... خمسة تأملات في السينما والأدب لريم غنايم

السينما في الرواية... اللعنة والغنيمة لكمال الرياحي

القرف... محاولات لفهم عضو جسديّ مفاهيمي بلا حدود (كلمةً وصورة) لعمار المأمون