"مهرجان إيليا للأفلام القصيرة"... أفلام عن الحب، والشيوخ والحروب

2019-09-14 16:00:00

إن الجزء الآخر من العالم ليس مشرقاً كإشراق الكثير من الأفلام، أو تلك التي تتغلب على الواقع بابتسامة، أو ضحكة، أو قطعة موسيقية تدغدغ قلبك، وتتركك تهيم على بحر مشاعرك. إن الصور مؤلمة بحق، إنها قاسية جداً سواء كانت في غزة أو سوريا، أو أي جزء من العالم يعاني من الجبروت، والاستبداد، واللاإنسانية. 

ها هي القدس لا تنام اليوم ، وما زال "مهرجان إيليا للأفلام القصيرة" مستمراً في عرض الأفلام التي يندر أن نجد وسلية لمشاهدتها أو السماع عنها، إن القدس تحيا بسكانها الذين يتحركون ليلاً ليجلسوا على مقاعدهم بصمت لمشاهدة الأفلام، الأفلام القصيرة.

يكبر "إيليا" عاماً آخر؛ فيدخل عامه الثاني على التوالي، إنه يبعث من جديد ليصبح حلم رائديه،  مؤسس ومدير المهرجان يوسف الصالحي، والمدير التنفيذي للمهرجان أكرم دويك؛ فـ "الأحلام الصغيرة يمكن تحقيقها على الأرض، أما الأحلام الكبيرة فهي فقط لمن يستطيع الوصول إلى السماء."

إنني أتذكر بوضوح عدد الذين ارتادوا المسرح الوطني الفلسطيني لمشاهدة الأفلام السينمائية قبل عامٍ تقريباً، مسرحٌ لم يملأه إلا بعض أشخاص يعدون على أصابع اليد، ومعظمهم ليس مقدسياً أو فلسطينياً حتى، إنه حال مؤسفٌ بلا شك وهو الحال الذي يتكرر في معظم الأوقات، ولست وحدي التي تشعر بالأسى على هذا الحال؛ ولكن اليوم الافتتاحي لفيلم "إيليا" كان قد أشعرني بالرضى؛ فالجمهور يملأ معظم المقاعد، يحيي روح السينما في المكان، كما يحيي القدس.

هنا أصف ما أتذكر من مشاعر توجستني خلال مشاهدتي لبعض الأفلام الستين التي عرضت وسيتم عرضها خلال مهرجان "إيليا للأفلام القصيرة"، واثقةً بأن كل ما سيورد هنا قليلٌ في حضرة الأفلام وقوتها. 

إعلان الفكرة… "لماذا لا نستطيع إنقاذ حياتها؟" القصة التي تقشعر لها الأبدان

قبل أن يبدأ عرض فيلم "بطيخ الشيخ" للمخرجة كوثر بن هنية، كنا في رفقة أبٍ في سيارة، يتحرك مسرعاً، نراه في الكادر يهتز لوعورة الطريق، يخفف عن ابنته وجعها، يناديها، يحدثها ليبقيها مستيقظة قدر الإمكان، لكنه وعند وصوله تتلاشى أمامه الحلول؛ فالمستشفى كان قد قصف قبل وصوله. 

استطاع الإعلان أن يزمجر ساخطاً على الحروب، والمدافع، والقوى الدموية في دقيقةٍ كانت كفيلةً أن تحفر أثرها في النفس إلى الأبد.

"بطيخ الشيخ" و" قصق ذهبي"... كوميديا السلطة والحرب

لقد كان فيلم "بطيخ الشيخ" للمخرجة التونسية كوثر بن هنية صاحب النصيب الأول في عرضه في المهرجان. إنه الكوميديا، بل حقيقة بعض الذين يتبجحون بالدين، هذا الفيلم هو عن المناصرة بالخوف والتقليد، والأنانية، إنه عن السلطة والانقلاب… ولكن داخل مسجد في قرية تونسية.

 تبدأ القصة عندما يأتي طفلان بكفن -يغطيه غطاء أخضر أخيط عليه اسم الله- إلى المسجد، ليتضح بعدها أن هذا الكفن هو لأمهما التي أغرقتها الديون -وفقاً لادعاء أحد المصلين- والذي يطالب بحقه مسترداً وحالاً من أطفالها، ليقف "الشيخ" في منصبه كشيخ ليغير الموقف، وينصر الضعيف؛ ولكن نصرته هذه لن تكون لصالحه بتاتاً. تقول مخرجة الفيلم كوثر بن هنية -في أحد حواراتها- :"أردت عمل فيلم كوميدي لكن في ذات الوقت عميق.. كيف يتعرض صاحب السلطة لمخطط شيطاني لإزاحته عن مكانه؟ لأن من يطمع في منصبه يدرك مدى القوة التي سيمتلكها إذا وصل لهذه السلطة”، وتقول هنا أن السلطة التي تقصدها هي الموجودة في كل مكان، وفي كل شركة، وبنك… إلا أنها اختارت أن تكون السلطة المقصودة في فيلمها هي السلطة الدينية المتمثلة في المسجد، والشيخ، والتلميذ.

نتجه من شمال القارة الإفريقية إلى لبنان عام 1985 في فيلم "قصف ذهبي" لكاتبه ومخرجه باتريك إلياس. إنها قصة الثنائي يمنى ومروان، لقد كان يفترض من ذلك اليوم أن يكون "يوم السعد" لكليهما، ولكن قصف كنيسة عرسهما سيعيق أن يصبح هذان الاثنان زوجين؛ فينبغي إيجاد الحل لإتمام هذا الزفاف حتى في حضرة الموت، الذي تبدأ معه حياة أخرى. 

إن كاتب ومخرج "قصف ذهبي" لا يسخر من الحرب الأهلية فحسب، إنه يسخر من الطبيعة البشرية، والمال، وانقسام أبناء الدين الواحد إلى طوائف تقف في وجه الحب الذي يلطخ فستان الزفاف الأبيض بالدمار، وعلينا أن نضحك في النهاية أليس كذلك؟

"ونس"و"عشر دقات جرس"...عن الحب والمشيب

الزمن الجميل… حالةٌ يشعر بها كل واحد فينا، الزمن الجميل لا يختص فقط بعينة واحدة؛ فلكل جيلٍ زمنه الجميل، وشغفه الجميل، وحبه الجميل. إنها التجاعيد، التي نواجهها بالحب، والولاء، وإنه الـ "ونس" لكاتبه ومخرجه أحمد نادر. يتقدم العمر بالزوجين محمود وهنية، تملأ التجاعيد وجه كل واحد منهما، كما يسري التعب، والإرهاق في أوردتهما. ولكنهما يشاهدان الفيلم المصري "حبيبتي" على التلفاز دوماً، الفيلم الذي يبدو أنه يروي حكايتهما ويقودها، يخلقان الضوضاء المريحة والمؤنسة في المنزل، يتشاجران على إحضار السباك للحنفية، ويتشاجران على العشاء. إنه المشيب الذي لا بد أنه لا يرحم أحداً كما لم يرحم أيهما، ولكنها الحياة. 

لطالما سمعنا أن الزوج سيكون الونس والسند في هذه الحياة التي سيتركك فيها الجميع، ولكن إلى أي حد؟ 

كيف سيترك الزوج محبوبته التي تقدم بها السن، فجنت عليها الحياة ما جنت، أرهقها الزمن، فما شاء القدر إلا أن يرزقها حفيداً يبلغ من عمره عشر سنوات لا يعرف عقد رباط حذائه ليعيش معها، ويجاريها، ولكن العالم البشري في الخارج يرمي بقوته على الضعفاء فقط… إن فيلم " عشر دقات جرس" لمخرجه إيلي رزق… يحكي قصة حب الأجداد، جسّد الحب الذي أمر به الله على الأرض، بعيداً عن الكنائس ورجال الدين وتناقض القول والفعل.

من غزة إلى سوريا… أوجاع مشتركة 

إن الجزء الآخر من العالم ليس مشرقاً كإشراق الكثير من الأفلام، أو تلك التي تتغلب على الواقع بابتسامة، أو ضحكة، أو قطعة موسيقية تدغدغ قلبك، وتتركك تهيم على بحر مشاعرك. إن الصور مؤلمة بحق، إنها قاسية جداً سواء كانت في غزة أو سوريا، أو أي جزء من العالم يعاني من الجبروت، والاستبداد، واللاإنسانية. 

فيلم "غزة" يكفيك أن تسمع الاسم حتى تدرك حجم المعاناة في كل كادر، وكل وجهٍ وكل صرخة. الفيلم الوثائقي "غزة" لمخرجيه جاري كين، وأندرو ماكونيل، يقف على آثار الدمار والعجز ليجلدك بينما تتسلح شخصياته بالقوة والأمل. أي أملٍ هذا؟ هل سيصبح العالم أفضل، يخدعوننا دوماً أنهم سيجعلونه أفضل، ولكن هنيئاً لنا فعلاً، إننا في القرن الحادي والعشرين والدمار يزداد يوماً عن الآخر. 

"ماريه نوستروم" "Mare Nostrum" تعني "بحرنا" عند ترجمتها من اللاتينية إلى العربية. "ماريه نوستروم" فيلم دراما قصير لمخرجيه السوريين أنس خلف ورنا كزكز، فيلم يصفعك بالمشاعر والصمت؛ فالكلام لم يعد يجدي نفعاً. إن "ماريه نوستروم" لا يحكي قصة الأب وحده (زياد البكري) وابنته (زين خلف) مع البحر، بل يروي قصة السوريين مع البحر، وعلى الشواطئ… "ماريه نوستروم" يحكي قصة السوريين مع بحرهم الذي لم يأويهم حتى إلا بانتصارهم عليه.