بالتأكيد، جمهور المهرجانات الذي غالباً هو جمهور خاص، لا يعكس حقيقة ذائقة الجمهور الفلسطيني بالعموم، فجمهور المهرجانات في غالبيته جمهور نوعي، يبحث عن أفلامٍ خارج إطار السينما التجارية التي يفضلها الجمهور بشكل عام.
بحسب ما يعتقد بعض المؤرخين، فقد شهد العام ١٩٣٥ ولادة السينما الفلسطينية في مرحلتها الأولى قبل النكبة، حين قام صانع أفلام هاويٍ في مطلع العشرين من عمره يدعى إبراهيم حسن سرحان، بتصوير أفلام في مدينته يافا، تلاه بسنوات قليلة صناع أفلام فلسطينيون آخرون صوروا أيضاً أفلاماً تسجيلية ودرامية، عُرض بعضها في دور العرض التجارية التي كانت منتشرة في فلسطين في حينها، حيث وصل عددها في نهاية الثلاثينيات إلى أكثر من ٤٥ دار عرض، لا تزال مباني بعض دور العرض تلك قائمة حتى اليوم في عدة مدن فلسطينية.
لكن بطبيعة الحال توقفت مع النكبة تلك المحاولات السينمائية التي كانت تحاول تأسيس صناعة سينما فلسطينية لها جمهورها المحلي وربما الدولي، بعد أن شُرّدَ جزء كبير من سكان فلسطين التاريخية، حمل بعضهم أفلامه في رحلة لجوئه ولم يتبقَ -بحسب علمي- منها شيء حتى اليوم، فكل ما نعرفه عن أفلام تلك الفترة هي مرويات إما من مؤرخين وباحثين أو بعض من شاهدودها، مثل المخرج العراقي قاسم حول الذي التقى في مخيم شاتيلا في لبنان بداية السبعينيات بالمخرج إبراهيم حسن سرحان، وأرى قاسم بعضها من أفلامه التي صورها في فلسطين.
في تلك الفترة، أي بداية السبعينيات، كانت السينما الفلسطينية تولد في من جديد في الشتات، مع قيام المنظمات الفلسطينية المسلحة بتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية التي قامت بدورها باستقطاب مخرجين فلسطينيين وعرب وغربيين، ودعمتهم لإنتاج أفلام عن القضية الفلسطينية، لكن هذه الأفلام كانت تنتج لتعرض في مهرجانات حول العالم ولجمهور المخيمات الفلسطينية، وبقيت معظم إنتاجات تلك المرحلة غائبةً عن الجمهور الفلسطيني كلل، سواء في الداخل الفلسطيني أو في الشتات حول العالم، ولم يشاهدها الكثيرون حتى اليوم، جزء منها اختفى نهائياً، خاصة في عملية السطو الكبير الذي نفذتها قوات الاحتلال على مستودعات أرشيف المنظمات الفلسطينية في لبنان عام ١٩٨٢.
ظلّ الفيلم الفلسطيني غائباً عن جزءٍ كبيرٍ من جمهوره الوطني طويلاً، حتى بدأت السينما تعود لتصور في فلسطين حين قام مخرجون فلسطينيون مثل رشيد مشهراوي وميشيل خليفة مي مصري، بتصوير أفلامهم في فلسطين المحتلة، وبدأ نجم صنّاع الأفلام الفلسطينيين يسطع أكثر وبرز مخرجون أخرون مثل من أمثال إيليا سليمان، هاني أبو أسعد وغيرهم، وصلوا بأفلامهم إلى أهم المهرجانات السينمائية العالمية.
لكن أفلامهم وربما حتى اليوم، لا تزال بعيدة عن الجمهور الفلسطيني العادي، لكونها لم تصل حتى الآن للمرحلة التي تصنع فيها تجارياً ضمن سوق صناعة أفلام قادرة على تسويقها والترويج لها وعرضها تجارياً، فلا تزال الكثير منها تعرض ضمن مهرجانات الأفلام، أو يشاهدها المهتمون عبر الإنترنت في حال قرصنتها أو نشرها بعد انتهاء دورة مهرجاناتها.
النجوم والسينما
في السنوات العشرة الأخيرة من عمر السينما الفلسطينية، حاول بعض المخرجين تقديم أفلام بالمضامين التجارية، في محاولة منهم للتأسيس لسينما تجارية تستقطب الجمهور عبر استقطاب نجوم عرب للعب أدوار في أفلامهم، لأن السينما الفلسطينية لم تكن قد صنعت نجومها الذين يعرفهم جمهورها جيداً، وأذكر على سبيل المثال لا الحصر نجوى نجار في فلم "عيون الحرامية" ورشيد مشهراوي في فيلم "الكتابة على الثلج"، لكن حتى اليوم لا تزال تلك الأفلام تصنع بدعم خارجي، وهذا لا يتوافق مع معايير السينما التجارية التي تصنع باستثمار وطني كما في مصر، وذلك بطبيعة الحال نتيجة قلة الدعم الفلسطيني وربما عدم إيمان المستثمرين والتجار الفلسطينيين بجدوى الاستثمار في هذا القطاع.
لكن نشأت مؤخراً في الداخل الفلسطيني عدة استثمارات بدور سينما تعرض أفلاماً تجارية عربية وأجنبية، وهذا مؤشر جيد من ناحية، ومن ناحية أخرى أصبح في فلسطين كذلك عدة مهرجانات سينمائية تعرض أفلاماً فلسطينية وعربية وعالمية، إلا أن الفيلم الفلسطيني لا يزال في حقيقة الأمر لا يلقى حضوراً لدى الجمهور المحلي، ولم يصل للمستوى الذي يعرض فيه في صالات العرض التجارية التي بدأت تعود للمدن الفلسطينية، ولا يحقق عائدات.
من خلال متابعتي سواء ضمن مهرجانات الأفلام التي عرضت أفلاماً فلسطينية في الخارج أو في الداخل الفلسطيني، يلقى الفيلم الفلسطيني حضوراً أكثر لدى الجمهور الأجنبي أكثر منه لدى جمهوره الفلسطيني داخل الوطن، ولعل ارتباط الأفلام الفلسطينية بالقضية تجعل له جمهوراً أكبر في الخارج، من المتعاطفين مع القضية الفلسطينية أو الباحثين عن سينما بديلة عن السينما التجارية.
في عدد من المرات التي شهدتُ فيها عروضاً لأفلام فلسطينية في مهرجانات مثل مهرجان "مالمو للسينما العربية" في السويد، كنت أرى اقبالاً واسعاً عليها من الجمهور الفلسطيني في الشتات، بالإضافة للجمهور العربي والأوروبي، وأذكر حين كنت مسؤولاً عن تنظيم فعالية "أيام فلسطين السينمائية" عام ٢٠١٨ في مدينة مالمو بالتعاون مع "الجمعية الثقافية الفلسطينية" هناك، أنني تفاجأت بحجم الحضور السويدي والأوروبي الكبير لحضور أفلامٍ عرضت منتصف النهار، وهو غالباً وقت غير محبذ لمرتادي السينما. في المقابل شهدت اقبالاً فلسطينياً أقل على أفلام فلسطينية عرضت عام ٢٠١٩ في رام الله وعدة مدن فلسطينية من خلال مهرجان "أيام فلسطين السينمائية"، في مقابل جمهور أكبر لحضور أفلامٍ عربية ودولية.
كثيراً ما كنت أسمع تعليقات على أفلام فلسطينية، بأنها صنعت للأوروبيين، أو صنعت للمشاهد الغربي وليس المحلي، فهل هنالك أفلام للجمهور المحلي وأخرى للجمهور العالمي؟ وما هي تلك المعايير التي تفرّق بين الاثنين؟ أم أن الجمهور الفلسطيني لا يحبذ سماع حكايته في أفلامه ويميل أكثر للدراما التشويقية التجارية الأمريكية والمصرية؟ أم لأن السينما الفلسطينية لم تصنع حتى الأن نجوماً للسينما التجارية، كون النجم أو البطل الذي يحبه الجمهور هو عنصر حاسم في القصة وفي العمل الفني بشكل عام ومدى إقبال الجمهور لدفع تذاكر لمشاهدة الفيلم!
بالتأكيد، جمهور المهرجانات الذي غالباً هو جمهور خاص، لا يعكس حقيقة ذائقة الجمهور الفلسطيني بالعموم، فجمهور المهرجانات في غالبيته جمهور نوعي، يبحث عن أفلامٍ خارج إطار السينما التجارية التي يفضلها الجمهور بشكل عام.
أذكر أنني حين كنت طفلاً منتصف ثمانينيات القرن الماضي، كنت أذهب بصحبة أفراد من عائلتي لمشاهدة أفلامٍ تجارية أمريكية في واحدة من دور السينما التجارية في مدينتي نابلس، سينما العاصي، التي أحرقت في الانتفاضة الأولى، ومنذ الانتفاضة لم يعد هنالك دور سينما في الكثير من المدن الفلسطينية، وفقد فلسطينيو الضفة وغزة فرصة مشاهد أفلام على الشاشة الكبيرة، وبالتالي بدأت تصاغ ذائقتهم التلفزيونية أكثر، حتى عادت بعد أوسلو دور السينما بشكلٍ جزئي من خلال المراكز الثقافية المحلية من جديد، وشيئاً فشيئاً افتتحت دور عرض تجارية، لكنها باعتقادي لم تنجح حتى الأن في إعادة المشاهد العادي الفلسطيني لصالة السينما، أو إعادة ثقافة الذهاب إلى السينما للمواطن الفلسطيني داخل الوطن.
هل لدينا جمهور سينما في فلسطين؟
في أكتوبر الماضي ٢٠١٨، كنت ضمن الطاقم الإعلامي لمهرجان "أيام فلسطين السينمائية"، وكانت تجربة مدهشة بالنسبة لي، حيث كانت أولى دورات المهرجان التي أحضرها، ولم أكن أتوقع أن يكون لدينا في فلسطين مهرجان بهذا التنظيم والنوعية في الأفلام المعروضة والضيوف المختارين بعناية من صناع أفلام منتجين ومخرجين ومختصين من عدة دول حول العالم، أيضاً أدهشني الحضور المحلي الكبير الذي جاء من كل أنحاء فلسطين تقريباً وملأ قاعات العروض في المدن التي توزعت عروض المهرجان عليها في الضفة وغزة والقدس والداخل المحتل عام ١٩٤٨.
الأهم من ذلك أن إدارة المهرجان في "فيلم لاب"، قامت العام الماضي ولأول مرة، بما اعتقدته شخصياً، مغامرة خطيرة ستقلل من حجم الحضور، بأن جعلت التذاكر مدفوعة لكل العروض، لكن المفاجئ أن الصالات في غالبية العروض كانت تمتلئ، وفي بادرة مميزة خصص ريع التذاكر كاملاً في العام الماضي، ليكون جائزة لدعم فيلم فلسطيني في مرحلة الإنتاج. وكذلك فعلت إدارة المهرجان هذا العام حيث خصصت ريع تذاكر المهرجان لدعم واحدة من عدة أفلام فلسطينية تتنافس على جائزة الإنتاج، بحيث يساهم كل مشاهد بدعم إنتاج فيلم، وهو ما تسعى إدارة المهرجان من خلالة من إعادة الجسور بين الفيلم الفلسطيني وجمهوره، والمساهمة في زيادة نسبة المساهمة الوطنية في إنتاج الفيلم الفلسطيني.
أعتقد بأن الجمهور الفلسطيني لا يعرف الأفلام الفلسطينية كما يعرفها الجمهور العالمي، وربما لم نؤسس بعد لصناعة سينما متكاملة قادرة على صناعة أفلام تجارية تحقق عائدات في شباك التذاكر المحلي، فأفلامنا لا تزال تعتمد على الدعم الأجنبي وقد يبدو بعضها مجاملاً لشروط المانحين لدعم مراحل الإنتاج، وهو ما يقال عنه غالباً بأن أفلامنا تُصنع للجمهور الغربي، لكن المتابع عن قرب، يرى آمالاً بأن المعادلة بدأت تتغير، بفضل مبادرات وفعاليات مثل ما يقوم به "أيام فلسطين السينمائية".