عُرض أمس ضمن مهرجان "أيام فلسطين السينمائية"

"صوفيا" وسلطة الكلمات والحكاية

2019-10-07 00:07:00

نكتشف أثناء التحضير للزفاف أن صوفيا تعرضت للاغتصاب، وهذا ما "تقوله" لاحقاً، وأخفت الحكاية كي لا تخسر الأسرة النقود الذي استثمرها مغتصبها في العمل المشترك مع أسرتها، وكأنها خلقت "حكاية" ملائمة للجميع، الجميع فيها "رابح" عدا عمر الذي ورطت نفسها به،

يستضيف المسرح البلدي في رام الله، ضمن فعاليات مهرجان "أيام فلسطين السينمائيّة" فيلم "صوفيا" للمخرجة المغربيّة مريم بن مبارك، الذي نتعرف فيه طوال ساعة ونصف على صوفيا التي يحمل الفيلم اسمها، الفتاة الخجولة، المهمّشة، التي "تحبل" مُخلخلة نظام الأسرة المثاليّة، ذات المشاريع التجاريّة، لنراها وابنتها (أمل) بين مساحتين من الخطر، الأولى هي المشفى التي يُهيمن فيها "القانون"، لا كوسيلة  "للحفاظ على الحياة"، بل لضمان "شرعيّة الحياة"، والثانيّة هي الأسرة المحكومة بأحلامها عن الاستثمارات التجاريّة وسمعتها وسيطها في الحي الراقي الذي تسكنه.

يبدأ الفيلم بنص المادة 490 من القانون الجنائي المغربيّ: "كل علاقة جنسية بين رجل وامرأة لا تربط بينهما علاقة الزوجية تكون جريمة الفساد ويُعاقب عليها بالحبس من شهر واحد إلى سنة "، هذا النص تتردد تبعاته طوال الفيلم، سواء داخل المساحات العامة أو الخاصة، خصوصاً أن هذه الكلمات القانونيّة تتبعها كتلة بشريّة تمارس الهيمنة وتقنّن "اللحم" البشريّ، وتتجلى بالشرطة والمحامين والأطباء، فكلهم خائفون من سطوة ذاك "اللاشرعيّ"، تلك السوائل التي نضجت في الرحم دون "إذن"، حتى المنزل الذي نفاجأ في بداية الفيلم حين نشاهد فيه صوفيا "حامل" يحوي ذات الرعب، إذ سال ماؤها "خارجاً" دون أن يدرك أحد ذلك -سوى قريبتها "لينا"- ودون أن تنطق، وهي تتألّم، تتعرق لكنها تجهز الطعام وتقوم بكلّ واجباتها، فلا شيء يثير الاهتمام، لا بدّ من الحفاظ على "شرف" الأسرة، وعدم لفت الانتباه، ولو كان ذلك يعني أن لا "يخرج" الجنين أبداً.


الرقابة على "الخارج"

النص القانوني السابق يتجلى في سلسلة من الممارسات سواء تلك التي تتبناها صوفيا أو تنتج عن الآخرين، فحين تذهب قريبة صوفيا بها إلى المشفى، ترفض المشفى استقبالها، لأن هناك شرطيّ حاضر، ولأن القانون يمنع ولادة امرأة في المشفى إن لم تكن مع زوجها، ليذهبوا إلى مشفى آخر لتلد هناك، حيث يظهر الرعب مرة أخرى، إذ ترفض صوفيا بداية أن تفتح قدميها لتسمح للجنين بالخروج، وكأن الرعب والخوف يحضران تحت الجلد، يحافظان على "الداخل" وما فيه، يمنعان اللحم من أن يلد أو ينتج آخر لم يُقنن "ظهوره".

هذا الرعب الذي تسببه سيادة القانون والجهاز البشري المسؤول عن الرقابة على شرعيّة ما يخرج من الجسد يحضر بشكل آخر ضمن  الأسرة نفسها التي تخاف على سمعتها ومكانتها الاجتماعيّة كون الوالد المفترض للطفلة "أمل"، من حي فقير، وشخص لا يعتمد عليه، وهنا تظهر الحالة الطبيّة النادرة التي أصيبت بها صوفيا، إذ حبلت دون أن تظهر عليها أعراض الحمل إلا لحظة الولادة  وسيلان مائها  في المطبخ،  وكأن الخوف يتحكم بلحمها وبشكله، وتفسر الطبيبة حالتا بأنها خوف من رأي أهلها وموقفهم من حبلها إن عرفو به، هذا الخوف يتجلى في الجسد وقدرته على ضبط ذاته حتى لوكان يحمل حياة ضمنه، وكأن "الجنين" الذي لا نعرف اسمه إلا  قرب نهاية الفيلم وبالصدفة مُصيبةُ من نوع ما، ولطالما هو في "الداخل" فهو في أمان، خصوصاً أنه غير مرئيّ، ولا صوت له، ولا أعراض على الجسد الذي يستضيفه، فهو لا يهدد التماسك الرمزي والقانونيّ للـ"خارج"، الذي يضبطه الأب والأم والشرطي والطبيب والزوج المحتمل .

يظهر الرعب أيضاً في صوت رنين الهاتف، الذي يتكرر حتى الثلث الأول من الفيلم إلى لحظة معرفة أهل صوفيها بالطفل، وكأنه إنذار بالخطر، ومولد لحكايات وأكاذيب متعددة تزداد مع كل رنين إلى حين انكشاف كل شيء، فكل مسافة بين رنين وآخر تزيد من تراكم "الكلام" الذي ندرك كما الشخصيات مدى هشاشته.

 

سطوة الكلام الأدائيّة

تظهر أشكال الصوت والكلام في الفيلم بوصفها محرّكاً لمصائر شخصياته، فصوفيا لا تتحدث بجمل كاملة  في البداية، تنطق كلمات فقط إلى حين اعتراف عمر بالطفل وتبرئتها، لتسأل حينها لماذا؟ لماذا حدث ما حدث؟ خصوصاً أن الاعتراف يتم صوتياً، عليها أن تنطق وتحدد كيف حدث ما حدث،  فكلامها قانونيّ لا مجرد وصف للحقائق، هو أسلوب لتفادي الحبس، فهناك حكايتين عليها الاختيار بينها لوصف علاقتها مع "عمر"، وكل واحدة منها ذات عقوبة قانونيّة مختلفة إما تنتهي بحسب عمر أو حبسهما سوياً.

الكلمات والحكايات التي تخفيها صوفيا تهدد عمر نفسه، كوننا نعلم لاحقاً أنه لم يمسّ صوفيا، إذ كذبت على الشرطة، وتقول إنها اختارته لأنه اهتم بها، لكنه يحتقر زواجه منها كونها "ورطته" بنفهسا، إذ لم يستمع أحد إلى "حكايته" كونها لا تمثل أي حقيقة، هو المُستغل بناء على سلطة حكاية صوفيا، التي أرادت له أن يكون رجلاً يتحمل المسؤولية كونها أعجبت به، وترغب أن تكون زوجة وحبيبة له، لكنه يحتقرها، بل ويرفض حتى " تسميّة" الطفلة باصقاً على وجه صوفيا.

نكتشف أثناء التحضير للزفاف أن صوفيا تعرضت للاغتصاب، وهذا ما "تقوله" لاحقاً، وأخفت الحكاية كي لا تخسر الأسرة النقود الذي استثمرها مغتصبها في العمل المشترك مع أسرتها، وكأنها خلقت "حكاية" ملائمة للجميع، الجميع فيها "رابح" عدا عمر الذي ورطت نفسها به، لتبدو البنية الذكوريّة والقانونيّة والاختلافات الطبقيّة لا فقط عدوانيّة تجاه جسد المرأة وداخلها، بل أيضاً تجاه الرجل المهدد بالحبس إن لم "ينطق" الكلام الصحيح  أو لم ينطق على الإطلاق.