يُعرض اليوم في مهرجان "أيام فلسطين السينمائية"

"عبّاس ٣٦"... الواقع القبيح في خدمة الأفلام الجميلة!

2019-10-07 14:00:00

تكمن أهميّة شريط ”عبّاس ٣٦“ في طرحه لقضية عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم كعنوان كبير، لكن سرعان ما تتجلّى أسئلة أخرى أساسيّة أكثر، حول معنى الأصل والهويّة، وحول كونهما معطيين جامديْن أم قابلين دائمًا لإعادة الفهم والتشكيل، العودة إلى ماذا؟

 تساءلت الكاتبة الهنديّة أرينداتي روي في روايتها ”وزارة السعادة القصوى“ عن كميّة الدماء المحتملة كحدّ أدنى من أجل الحصول على أدب جيّد، حيث أنّ فيضًا وافرًا من الدماء قد يجعل الرواية غير محتملة ويُفسد صلاحيّتها. ليس بالإمكان الإفلات من طرح أسئلةٍ ساخرةٍ وتراجيديّةٍ  كهذه حول تجارب توصيل معاناة البشر في الحروب والأزمات عبر سرديّات أدبيّة أو فيلميّة، تخرج من تحت براثن منظومات قوىً كبرى تهدم الهويّات الأولى وتشكّل هويّات أخرى هجينة أحدث، وتدفع قسرًا مفكّري وشخوص الجماعات المستضعفة لتقصّي معنى الانتماء واستخلاص عِبَر عن جدوى البحث عن الأصل إن كانت هنالك أساسًا صيغة معقّمة لهذه الفكرة.

لدى مشاهدة الشريط الوثائقيّ ”عبّاس ٣٦“ ندرك مدى غنى ومفارقات مآسي الفلسطينيين على تشكيلاتهم المختلفة التي أوجدها بشكل تراجيدي الاستعمار الاستيطاني الصهيوني لفلسطين، وننكشف على غزارة وتشابك القصص الإنسانيّة المسطّرة بالفقدان والدمّ وكيف لها -ويا للمفارقة- أن تصنع شريطًا وثائقيًا مؤثّرًا.

تشكّل العودة ثيمةً رئيسيّة للشريط الذي أخرجته مروة جبارة طيبي للجزيرة الوثائقيّة، بالشراكة مع الصحافيّة نضال رافع التي عايشت قصّة الشريط في منزل طفولتها لتتشعّب هذه الفكرة الرئيسيّة في الفيلم وتتقاطع مع أنماط مختلفة من تجربتَي اللجوء والمنفى لأجيال مختلفة من الفلسطينيين والفلسطينيّات.

اشترت عائلة علي وسارة رافع (والدا المخرجة) عام ١٩٦٩ منزلاً في بناية في مدينة حيفا في شارع عبّاس رقم ٣٦، من مالكٍ أسرائيلي كان قد حصل عليه من قبل حرس أملاك الغائبين، شيّدت هذه البناية وامتلكتها عائلة أبو غيدا الفلسطينيّة عام ١٩٣٦ والتي هُجّر أفرادها من حيفا عام ١٩٤٨، ونزح قسم منهم إلى دمشق. رفضت الأمّ -سارة رافع- التي علمت أنّ عائلة فلسطينية سكنت هذا المنزل من قبلهم أن تغيّر أيًّا من معالم المنزل الأساسيّة واحتفظت بالمخطوطات والصور القديمة الموجودة فيه، علّ عائلة أبو الغيدا تعود يومًا ما إلى بنايتها. تبدأ أكثر لحظات الشريط الوثائقي تأثيرًا لدى عرض رافع  لقطات أرشيفيّة تعود إلى العام ٢٠١٠ عندما التقت فؤاد أبو الغيدا في لندن، الذي اشتهر كلاعب كرة قدم في النادي الأهلي المصري في ستينات القرن الماضي، وهُجّر عندما كان في التاسعة من عمره. تعرّفه بنفسها أمام الكاميرا وعن رقم البناية التي تسكنها في مدينتها... في مدينته، وسط ذهول وبلبلة يعتريان فؤاد والمشاهد معًا لدى قوله: "انتوا؟ لا إحنا هذا بيتنا! كان بيتنا قصدي!"، كفيلةٌ ثواني البلبلة والذهول التلقائيين هذه أن تمنح الفيلم في قسمه الأول وعرضه الافتتاحي للقصّة الرئيسيّة ضوءًا أخضرًا لبناء المزيد من الحبكات الجانبيّة حول الهيكل الأساسي للسردية الوثائقيّة بشكل جذّاب وصادق. 
 


رغم اعتماد البساطة في التصوير إلّا أنّه من الملفت في استهلال الفيلم وجود مشاهد بها من البلاغة والتقاطع مع مشاهد راسخة في السينما والأدب الفلسطينيين تُعلي من القيمة الجماليّة والفلسفيّة لمقدّمة الشريط، التي اعتمدت فكرة الحضور والغياب وحالة الفصام بين الإنسان والحيّز الفلسطينيين في حيفا، خطًا أساسيّا لها، حيث يكتب علي رافع رسالة لفؤاد يوم احتفال الإسرائيليين بذكرى استقلال دولتهم، جالسًا على شاطئ في مدينة حيفا سميّ سابقًا شاطئ العزيزيّة نسبة إلى أحد أثرياء المدينة عزيز خياط الذي أنشأه، واستُبدِل باسم ”دادو“ نسبة إلى قائد الأركان الإسرائيلي في حرب تشرين داوود إيليعيزر، في فضاء ساحليّ مُعسكَر كما هو حال معظم الشواطئ الفلسطينية في الداخل، في عكا وحيفا ويافا: فيض هستيريّ من الأعلام الإسرائيليّة في كل مكان على الشاطئ، في أعنف تجلّ رمزيّ لدولة قوميّة ما تنفك عن التذكير بوجودها رغم امتلاكها الماديّ للحيّز. أمّا من شرفة منزلهم في شارع عبّاس ٣٦ فتضيء سماءَ حيفا مفرقعاتٌ للاحتفال باستقلال دولة الاحتلال، ينزل دويّ صوتها على مسامع سارة وعلي، وأعمارهما تفوق عمر الدولة نفسها، وتتبدّى كأصوات انفجارات لقنابل هجّرت أهل حيفا قبل سبعين عامًا.

عبثيّة الاحتفال الزائف من على شرفة كبيريْن في السنّ في حيفا تعيد إلى الأذهان مشهد والدة المخرج إيليا سليمان الجالسة على شرفتها الناصريّة في فيلم "الزمن الباقي" (٢٠٠٩)، مقعدةٌ بسكينتها وعجزها مقابل صواريخ احتفالية ما من معنى لها في مدن تحتفل سماؤها بنصر عسكريّ أو ربّانيّ، بينما من يمشي على أرضها نتاجٌ حيّ للفقدان والهزيمة. أمّا التقاطع الأكثر مفارقةً وسحرًا فهو ذاك اللقاء الـ"كنفانيّ" الشبيه بزيارة سعيد وصفيّة مع سكّان منزلهم الإسرائيليين في رواية ”عائد إلى حيفا“ والتي للمفارقة الشديدة صدرت عام ١٩٦٩ عام شراء علي وسارة الرافع لمنزلهما في حيفا، مع تعديل جوهريّ ومسجّل بعدسة الكاميرا عام ٢٠١٠ عندما زار فؤاد أبو غيدا منزله في عبّاس ٣٦ وسط حشد مرحّب بعودته، من ضمنهم الممثّلة المسرحيّة رائدة طه صديقة العائلة التي استلهمت من هذا المشهد افتتاحيّة المونودراما ”عبّاس ٣٦“ التي قدّمتها العام الماضي على مسارح عربيّة مختلفة. يعلن علي رافع، رافعًا مفتاح المنزل وإلى جانبه فؤاد، عن استرداد صاحب المنزل مفتاح العودة : ”نحن الضيوف وأنت ربّ المنزل!“، وسط فيض من الدموع وحبّات الرز المهلّلة بتحقيق ولو رمزي لحقّ العودة. 
 


تعرّج جبارة طيبي ورافع في الفيلم على مدينة القدس مسقط رأس سارة -والدة نضال- التي عاصرت القدس قبل النكسة، واسشتهد على أثرها والدها، تردّد الأمّ على مسامع ابنتها وهي تتجوّل معها في أزقّة البلدة القديمة: ”لمّا أمشي في القدس بحسّها كلها شهداء“، تستقبل نضال  فيها دينا أبو غيدا حفيدة أصحاب البناية في حيفا والقادمة من واشنطن مع زوجها وابنتيها، والتي كانت طرف الخيط الذي أوصل المخرجة بفؤاد أبو غيدا. يتزامن وجود دينا مع التظاهرات الجارفة ضد وضع البوّابات الإلكترونية على مداخل البلدة القديمة، لتحول دون دخول المصلّين إلى باحة المسجد الأقصى، في توثيق لحالة الفصل العنصري القائمة في فلسطين. تبدأ المخرجة تَتَبّع عدة دوائر من الشتات والمنفى في انتقالها من مدينة لأخرى، تنتقل مع دينا إلى الناصرة حيث يسكن أهل زوجها المهجّرين من صفوريّة، حيث بنوا بيتهم في الجانب المطلّ من الناصرة على صفوريّة، حالة الأطلال والشوق إلى الأصل حاضرة بشدّة في الشريط، حيث اعتمد الإخراج مسلكًا تقليديّا في اعتماد اللحظات التاريخية الفارقة التي سطّر فيها الموت حياة ووجدان الفلسطينيين نقاطَ اتّكاء تساعد في تكوين أرضيّة تاريخيّة زمنية للفيلم وكذلك مداميك سرديّة تدفع الشريط قُدمًا في حبكته، حيث تبدأ من ذكرى النكبة، ثمّ زيارة العائلة إلى شاطئ الطنطورة، القرية التي شهدت مذبحة مروّعة في النكبة، مرورًا بالنكسة وزيارة العاصمة البريطانية يوم ذكرى وعد بلفور، في تسلسلٍ كهذا قد يتحوّل الشريط إلى رزنامة تواريخ وطنيّة، لكن ما كسر تقليدية خيارات كهذه، هو الصدق والحساسّية الشديدة للشخصيات الوثائقية، تحديدا فؤاد أبو الغيدا وزوجته، وكذلك الانتقال بين مدن العالم، بين الدوحة ولندن وواشنطن، وربط اضطهاد ”المدن“ لبعضها، فبلفور في لندن منح حقًا للصهيونية على أرض لا يملكها، وكذلك ترامب في واشنطن نقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلّة، أما فؤاد ودينا ونضال فتداخلت حيواتهم وقصصهم بسبب قوى كبرى شكّلت تاريخ فلسطين وتحكّمت بحركة الناس وانتقالهم الجغرافيّ. 

تكمن أهميّة شريط ”عبّاس ٣٦“ في طرحه لقضية عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم كعنوان كبير، لكن سرعان ما تتجلّى أسئلة أخرى أساسيّة أكثر، حول معنى الأصل والهويّة، وحول كونهما معطيين جامديْن أم قابلين دائمًا لإعادة الفهم والتشكيل، العودة إلى ماذا؟ هل يتحقق حلم العودة لدى الرجوع إلى نفس المنزل؟ هل هذا هو سقف طموح الفلسطينيين؟ أم أنّ الأهم هو تشييد منزل وطني جامع قائم على أسس متينة لا تختصر الإنسان بحيّزه الماديّ؟ من أصدق في انتمائها للمنزل في شارع عبّاس، نضال أم دينا؟ وهل بالإمكان تحويل حالة الحّب بين الأفراد الفلسطينيين في الشريط حول قضيّة إنسانية إلى حالة تكاتف جماعيّة تشمل قطاعات كبيرة تحقق طموحًا وطنيًا مستقبليًا لا يغرق فقط بالنوستالجيا والحنين إلى الفردوس المفقود؟