عُرض أمس ضمن مهرجان "أيام فلسطين السينمائية"

"ليل خارجي"... دليلك للتعامل مع القاهرة

2019-10-08 14:00:00

وفي المشهد الذي يبلغ فيه الصراع بين الرجلين مو ومصطفى ذروته لفرض الهيمنة الذكورية على توتو، يدور المشهد في مطعم، وفي الخلفية، تعرض شاشة التلفزيون المعلقة في المطعم مقاطع من قناة ناشيونال جيوغرافيك، وتحديدًا من فيلمها الشهير حول المعارك الدامية بين الأسود اليافعة الباحثة عن مملكة، والأسود المخضرمة حيث يحظى الواحد منها بمجموعة كبيرة من اللبؤات والأشبال.

في أحد حواراته الصحفية، يشير أحمد عبد الله السيد، مخرج فيلم "ليل خارجي"، إلى أن عرض فيلمه في مهرجان القاهرة السينمائي هو العرض الأهم، إذ أن الفيلم قاهري بامتياز، وعلى الرغم من أنه عُرِض في مهرجان تورنتو قبل عرضه في العاصمة المصرية بقرابة شهرين، إلا أن طرحه في المدينة التي أنتجته -بحسب أحمد عبد الله - هو الأهم، لاسيما وأن مقاطع سردية عدّة، مقتبسة من رواية "استخدام الحياة" لأحمد ناجي، تخللت الفيلم، وتلاها الأبطال، تتناول جميعها هذه المدينة الكبيرة القاسية الطيبة.

بحسب الإحصائيات، يبلغ تعداد سكان القاهرة الكبرى (القاهرة والجيزة والقليوبية) نحو 25 مليون مواطن، وفي النهار يتوافد إلى العاصمة ملايين المواطنين من التجار وأصحاب المصالح، لتصل المدينة المكتظة في النهار، إلى قرابة الـ 30 مليون نسمة. وفي زحام القاهرة، بين أحيائها الفقيرة والغنية، بين الطبقات المتنوعة لسكّانها، تدور أحداث فيلم "ليل خارجي"، عندما يلتقي المخرج الشاب مو (كريم قاسم)، المضطر للعمل في إخراج الإعلانات ريثما تتاح له فرصة (إنتاجية) لتقديم فيلم يحقق طموحاته الفنية، ويتجاوز به إخفاق فيلمه الأول "واحد شاي". يلتقي مو بالسائق الخمسيني مصطفى (شريف الدسوقي) المكلف بتوصيل المخرج الشاب في تنقلاته، وكلاهما يلتقيان بفتاة الليل توتو (منى هلا)، لتندلع بعدها سلسلة من المغامرات والأحداث على طريقة أفلام اليوم الواحد، وأيضًا على طريقة أفلام الطريق، وقد منح الطريقُ "ليل خارجي" اسمه.

أراد صناع فيلم "ليل خارجي" طرح قصة تشبه القاهرة، متناقضة مثلها، فيلم ذاتي جدًا مثلما درج أحمد عبد الله السيد في مشواره الفني على استلهام أسئلته وانشغالاته الشخصية، والاقتباس من روحه، (هناك مخرج يواجه مأزق في الفيلمين السابقين لعبد الله: "هيليوبوليس" و "ميكروفون"). وتماهى مع المدينة وناسها، ومع حجم أسئلة المواطن القاهري المسحوق تحت رحى المدينة ذات الإيقاع الصارم، عن علاقته بالسلطة، وعلاقة أهل كل طبقة اجتماعية بالطبقات الأخرى.. 

حلف المهزومين

ليس حلفًا بالمعنى الحرفي للكلمة، وإنما هو تجمع ناتج عن مصادفة التقاء الثلاثي، وفق معادلة قاهرية تتناص في الفيلم مع رواية "استخدام الحياة" لأحمد ناجي، وذكرها أبطال الفيلم في معرض حديثهم عن الرواية الممنوعة: "مقابل ما تفعله القاهرة بساكنيها، لا تمنحهم سوى صداقات حتمية موثوقة، لا بحرية الاختيار بل بضرورات القدر". هكذا يجتمع المخرج الشاب الانطوائي المهزوم أمام معايير سوق السينما التجاري، بالسائق المهزوم هو الآخر أمام طاحونة الحياة، والذي إن غاب يومًا عن العمل لن يجد قوت يومه، ومعهما بنت الليل المهزومة دائمًا وأبدًا وأسيرة الاحتياج والعوز. يقرر الثلاثة قضاء ليلة ماجنة وسهرة حتى الصباح، ويخوض ثلاثتهم رحلات إلى المطعم، ومروج المخدرات، ومخفر الشرطة، وشقة توتو، ويتورطون في شجارات مع الآخرين ومناوشات بينهم الثلاثة.

تبدو هزيمة المخرج الشاب مو، تعبيرًا عن هموم طبقة نخبوية في المجتمع القاهري، وتبدو أسباب إحباطه نوع من الرفاهية لأبناء الطبقات الدنيا، فالمخرج الشاب المنسحق تمامًا أمام شروط سوق السينما في مصر، والمكتئب بسبب انفصاله عن حبيبته، عينة دقيقة اختارها السيناريست شريف الألفي لتجسيد هموم إحدى فئات المجتمع، مقابل هموم أخرى يعانيها السائق مصطفى وفتاة الليل توتو، ويتجلى همهما لحظة دخول الثلاثي إلى مخفر الشرطة، حيث يستطيع مصطفى بمكالمة هاتفية الاستنجاد بأحد معارفه المهمين ليتوسط له لدى الضباط، كي يخلوا سبيله، ويترك وراءه توتو ومصطفى، ليواجهوا همهما.

فئة ثالثة يطرح "ليل خارجي" زاوية لرصد سلطتها، وهي فئة "البلطجية"، عن طريق شخصية بذرة (عمرو عابد)، فتوة المنطقة الذي يعشق توتو ويتعرض لكل زبائنها، إلا أن الإجابة عن هذا السؤال جاءت سريعة ومتمثلة في شخصية الحاج محمد (صبري عبد المنعم) الذي يمثل صوت الحكمة الشعبية التي تُحترم بناءً على عامل السن أو عنصر الزمن، سلطة التقادم والكهولة التي تحيل الأعراف إلى قوانين.

رغم الصراعات الكثيرة، الرئيسية والفرعية، لا يمكننا الجزم بالمنتصر والمهزوم فيها إجمالًا، وهكذا هو الحال مع الحياة الرمادية في المدينة، فلا المخرج الشاب أنجز فيلمه المرتقب، ولا السائق مصطفى ظفر بليلته الموعودة التي سيستعيد فيها شبابه، ولا توتو حظيت بزبون يدفع لها أو عاشق يعوضها عاطفيًا. لا شيء سوى هذه الليلة المثيرة.   
 


فيلم على التخوم

منذ العرض الأول للفيلم (المعروض حالياً ضمن مهرجان "أيام فلسطين السينمائية")، طُرح السؤال المعتاد: "ليل خارجي" هو فيلم مستقل أم تجاري؟ وعلى الرغم من أن السؤال يجرنا لمنطقة التصنيف، وهي بطبيعة الحال ليست المفضلة عندي، إلا أن أحمد عبد الله نفسه اختار لفيلمه أن يقف عند التخوم بين النوعين، فالفيلم وظروفه الإنتاجية تجعلنا نبادر بتصنيفه ضمن تيار السينما المصرية المستقلة التي نشأت بعد العام 2000، إلا أن مشاهدة "ليل خارجي"، بأحداثها المتماسة مع الواقع، الميالة للشكل الرائج والبناء السائد، تجعلنا نتراجع ونقول بأن الفيلم تجاري على الأرجح، يسهل تلقيه على المشاهد التقليدي غير الطليعي ولا المُدرّب.

إلا أن صنّاع الفيلم، اختاروا نثر غمزات فنية على امتداد العمل، واستخدام لغة سينمائية متطورة لا تشبه الأداء النمطي في الصناعة السينمائية المصرية التجارية، فعلى سبيل المثال، لا موسيقى تصويرية في "ليل خارجي"، ويتم الاستعاضة عنها بأصوات تسجيلية من إذاعة "نجوم إف إم"، وهنا المفارقة، إذ أن نجوم إف إم ذاتها إذاعة تجارية جدًا، ومعنية بمعدلات الاستماع أكثر من اهتمامها بفنية وجودة ما تعرضه، لتبدو المعادلة الفنية هنا: "التجديد عن طريق استخدام القديم" أو "الهدف فني والوسيلة تجارية".

وفي المشهد الذي يبلغ فيه الصراع بين الرجلين مو ومصطفى ذروته لفرض الهيمنة الذكورية على توتو، يدور المشهد في مطعم، وفي الخلفية، تعرض شاشة التلفزيون المعلقة في المطعم مقاطع من قناة ناشيونال جيوغرافيك، وتحديدًا من فيلمها الشهير حول المعارك الدامية بين الأسود اليافعة الباحثة عن مملكة، والأسود المخضرمة حيث يحظى الواحد منها بمجموعة كبيرة من اللبؤات والأشبال.

غمزة ثالثة، ذات طابع ما بعد حداثي، إذ تستمد قيمتها من عناصر خارج العمل، متمثلة في استعانة المخرج ببعض الأسماء الناشطة في حقول فنية أخرى، مثل الروائي أحمد ناجي صاحب رواية "استخدام الحياة"، والذي ظهر بدور سائق تاكسي يوصل مو من المخفر إلى البيت ويتركه المخرج الشاب دون أن ينقده أجره، والآخران هما الشقيقين قنديل، فنان الـ "ستاند أب كوميدي" علي قنديل، والصحافي ورسام الكاريكاتير محمد الشهير بـ "أنديل"، وتجدر الإشارة هنا إلى تعرض أحمد ناجي نفسه للسجن بدعوى خدش روايته للحياء العام واحتوائها على "ألفاظ خارجة". أما "أنديل" فيقيم خارج مصر منذ فترة قريبة، وهذا الابتعاد من تبعات انتقاداته اللاذعة في أعماله الفنية عمومًا وفي برنامجه "أخ كبير" تحديدًا المذاع على الإنترنت. وتبدو هذه الغمزة هنا على شكل رسالة تقول: "القاهرة.. تكرم فنانيها المنبوذين".

أداءات 

فاز الفنان شريف الدسوقي بجائزة أفضل ممثل في مهرجان القاهرة السينمائي عام 2018، وواقعيًا، كان الدسوقي مفاجأة الفيلم وعموده الفقري لا لجهة الأداء فحسب، بل وحتى دراميًا تنبني عليه القصة إذ في سيارته كانت البداية والكثير من الأحداث. وشريف رزق ممثل مسرحي سكندري، وهو الأقل شهرة بين نجوم الفيلم، إلا أنه حاز على المساحة الأكبر من الإجادة والقبول.

الممثل كريم قاسم، والذي عرفه الجمهور المصري منذ فيلمه الأول "أوقات فراغ" عام 2006، يسير في درب معروف وواضح: الكيف أهم من الكم، يصعب أن تجد لكريم قاسم عملًا بلا معنى، وهو يطرح نفسه لا كممثل جيد فحسب، وإنما كفنان مثقف أيضًا، يجيد انتقاء "الورق" الذي يرسم مشواره الفني، ويبدو أن قاسم قد بلغ أعلى نقطة في مسيرته في "ليل خارجي".

أما منى هلا، ورغم بعض هنّات الانفعال الزائد في أدائها، إلا أنها نجحت في تقديم دورة الغانية المرحة، بنت الليل المتآلفة مع عملها والمحبة له كما يحب كل المصريين وظائفهم لا لأنها كانت حلماً لهم منذ الطفولة، بل لكونها مصدر أكل عيشهم. جسدت التناقض الإنساني في أوضح صوره، القوة والضعف، الإعجاب والنفور، النضج والطفولة..

وأخيرًا تبقى الإشارة إلى الفنان الشاب أحمد مالك، في دور "جيمي" ابن شقيقة مصطفى وصديق الجميع، فقد بات حضور مالك في أي عمل، سينمائي أو درامي، بمثابة ضمانة جودة، وإشارة على تمتع العمل، على الأقل، بالحد الأدنى من المعايير الفنية.