كُتبت هذه المادة قبل اعتداء "المقاومة" للمرة الثانية على المتظاهرين في رياض الصلح ببيروت

عن "المقاومة" و"الخطوط الحمراء"

2019-11-01 11:00:00

عن

يتغير شكل التساؤل كلما حلّقنا لأعلى، فوق مدينة عربية، إلا أن الثنائيات وعنفها يبقيان. في بغداد تقف طائفية أخرى تدعي تفسير المشهد باستحواذها للثنائيات، في القاهرة ثمة طائفية مختلفة من ناحية المضمون، جعلت مفهوم الوطن دوغمائيًا و عسكريًا، يبرر كل هذا العنف والفساد، تبريراتٍ لا محل نقدي لها، سوريا كذلك، واليمن وغيرها.

عندما اندفع شباب "حزب الله" فجرًا ليفضّوا تجمعات المتظاهرين والمتظاهرات في بيروت، بالعنف، كانوا يهتفون: "مقاومة.. مقاومة!"، فيما رد عليهم المتظاهرون والمتظاهرات: "لا للأزعر". ليس هذا المشهد استثناءً من حيث كثافته، ولا تكراره عربيًا وبالذات بعد أن أخرجت 2011 أسوأ ما فينا، بقدر ما فعلت مع أجمل ما فينا كشعوب عربية. لا بد هنا للمشهد أن نتأمله بأدواتٍ تحليلية ونقدية، وبالذات مع تكرار عبارات تتبنى أشكالًا مختلفة من الحظر، بعيدًا عن النوايا والدوافع، كعبارة "المقاومة خط أحمر!"، "الجيش خط أحمر"، والكثير غيرهما في كل مرة يقرر شارع ما في مدينة عربية ما أن يتظاهر ويعترض، ضدّ سلطةٍ ما!

 ولو كان لنا أن نتخيل أنفسنا محلقين فوق لحظة الحدث ومكانه في بيروت، وارتفعنا رأسيًا إلى الأعلى لاتّسع المشهد والمشهود حينها؛ لنجد أن المنطقة كلها تشهد مواجهة محمومة بين العديد من الثنائيات التفسيرية، وأن الكثير، إن لم يكن جل، ظواهرنا الاجتماعية والثقافية والسياسية، بكل مشاهدها، هي أعقد مما تدعيه تلك النماذج من قدرة على التفسير والتفكيك (وبالطبع إعادة التركيب)، ومن تلك النماذج التفسيرية الثنائيّة؛ احتلال ومقاومة، ممانعة وتطبيع، إسلامي وعلماني، وتقدم وتخلف، البلد أو الفوضى، وغيرها الكثير.

ولنكمل صعودنا الرأسي، بقدر ما نرتحل أفقيًا في كل ما يحدث حولنا ومعنا في مجتمعاتنا العربية، لنرى حينها أن المشهد العربي على المستوى السياسي والثقافي والاجتماعي، يمكن أن يخضع لأكثر من قراءة، إلا أن الأهم في ذلك هو المسافة النقدية بين القراءات المختلفة للمشهد نفسه. فالأنظمة التي تفتتح سجنًا في كل شهر، وتطلق أزلامها لتفتش الهواتف الذكية للمارة في الشوارع والميادين، وتدفع المليارات لشركات المراقبة والأجهزة الأمنية، هي أنظمة بقدر ما قد يدّعيه المشهد من قوة وسطوة وهيمنة إلا أنه يكشف عمق التهديد الذي تعانيه تلك الأنظمة، وإلا ما لجأت إلى كل ذلك!

بالعودة إلى بيروت يمكننا تأمل بؤرة أساسيّة -وإن لم تكن الوحيدة- لصراع الثنائيات التفسيرية في مجتمعنا، ونعني موقف "المقاومة" متمثلًا -وليس متمثلةً- في حزب الله، ورده على مظاهرات بيروت.

ثمة متلازمة خطابية في العديد من خطابات الأمين العام للحزب، والخطاب الرسمي لحزبه، ونعتقد أنها لازمة خطابية وسياسية في الفضاء السياسي اللبناني ككل، كجزء من الدعاية السياسية، مفادها أن اللبناني "يعرف عدوه"!، وعليه فالحزب يبني سياساته.

 لكن مع ذلك، عندما يتظاهر اللبناني الذي "يعرف عدوه" ضد سياسات الحزب، مطالبًا بحقوقه ورافضًا لمنظومة المحاصصة الطائفية التي باتت ترفد مفهوم اللبناني عن لبنانيته حد الاقتتال، وأدت بالبلاد إلى كل هذا الفساد، تصبح تلك المعرفة عن المواطن ولديه، مطعونًا بها. وتصبح تلك المظاهرات تهديداً للمقاومة والدولة والأمن الاجتماعي والسلم الأهلي وتعري كتف لبنان -بمصطلحات السيسي الذكورية الأبوية- أمام قوى الشر والإمبريالية العالمية، وعلى اللبناني حينئذٍ أن يتعلم درسه بالعصا، وما ترمز إليه، كما أوضحت صور الهجوم "المقاوِم" على المظاهرات.
 

 

ثمة قصور مفاهيمي ما في الثنائيات التفسيرية التي تقوم على "إما أو"، فالعلاقة التي تقوم على تلك الثنائية هي علاقة إجمالية، كلٌ في معنى واحد لا يفتح مجالًا للمفاوضة ولا التأويل ولا حتى التفكيك والتركيب، لكن الأهم أنها تفسر الظاهرة (اجتماعية أو ثقافية أو سياسية) بشكلٍ اختزالي، لا يقبل الأدائيّة التداولية بين المتلقين، فيحيلها إلى عنصرٍ واحدٍ. 

لهذا القصور المفاهيمي وجهه الخطير، وهو العنف، وهذا العنف يمتد من مقولة "المقاومة خط أحمر" وصولًا إلى تدخل تلك "المقاومة"، ضد أهلها في لبنان وسوريا، حفاظًا على ذاك الخط الأحمر. ولنتأمل هذا العنف على مستوى نقدي:

إذا كانت فلسطين قضية أخلاقية إنسانية، تمس المواطن العربي بشكلٍ يتخطى الحدود الدولانية ويشكل مكونًا أساسيًا من الوعي الجمعي العربي والمخيال السياسي، حتى على المستوى الإجرائي السياسي، كالانتخابات البرلمانية مثلًا، وهي فعلًا كذلك (كاتب هذه السطور شهد في ميدان التحرير يوم تنحى مبارك أعلام فلسطين ترفرف بجانب العلم المصري). ألا تصبح المقاومة حينها سؤالًا وجوديًا وأخلاقيًا إنسانيًا عربيًا، بالمعنى المعاش اليومي؟ وبالذات أن السؤال السياسي اليومي في العالم العربي لا ينجو من ربط عضوي بمفهوم الحق بداية من فلسطين وصولًا إلى مقولة الثورات العربية (عيش، حرية، عدالة اجتماعية)، وصولًا إلى مواقف الرموز السياسية والفنية والإعلامية وحتى الرياضية؟ ولا أدلّ على ذلك من هتاف المتظاهرين والمتظاهرات في بيروت لفلسطين والمخيمات واللاجئين الفلسطينيين والسوريين؟

يصبح التساؤل هاهنا مشروعًا، بل لا مفر منه، ولا بذخ لدينا لنتجاهله، وبالذات في سياق ثوري يعلن رفضه القاطع مع السابق عليه من معايير ومعاني ورموز وسياسات أثبتت فشلها وعنادها حدّ الدم، حتى لو كانت باسم فلسطين: هل فلسطين ولبنان اللذان يقاوم باسمهما ولأجلهما حزب الله يختلفان عن فلسطين ولبنان اللذات يهتف من أجلهما وباسمهما الثوار؟! وإن فرضنا أن ثمة اختلاف هل يستدعي ذلك الخلاف التدخل في سوريا وإطلاق أيدي الحزب ضد المتظاهرين والمتظاهرات؟

يتغير شكل التساؤل كلما حلّقنا لأعلى، فوق مدينة عربية، إلا أن الثنائيات وعنفها يبقيان. في بغداد تقف طائفية أخرى تدعي تفسير المشهد باستحواذها للثنائيات، في القاهرة ثمة طائفية مختلفة من ناحية المضمون، جعلت مفهوم الوطن دوغمائيًا و عسكريًا، يبرر كل هذا العنف والفساد، تبريراتٍ لا محل نقدي لها، سوريا كذلك، واليمن وغيرها.

مفاهيم الوطن والمقاومة والتحرر والحرية، ليست مفاهيم أيديولوجية، ومتى صارت كذلك تحولت إلى شكل ثنائي للعلاقة المفاهيمية، يصل مداه العنيف عندما يتحول إلى "التعريف بالسلب"، ويغدو هو الأساس الهوياتي والمحرك الأساسي للمعنى والوجود، ونعني به أن تتعرف الذات إلى نفسها بما هو ليس منها، فيصبح الأبيض، أبيض -فقط- لأنه ليس بالأسود، حينها تفقد الذات سؤالها الأساسي: من أنا؟ ولماذا أنا "أبيض"؟ لكنها كذلك تستحوذ على البياض ليتحول حينها البياض إلى منظومة تصنيف رقابية لا بنية تداولية فيها، إنما فقط شكلًا حاكميًا رأسيًا عنيفًا للعلاقة مع البياض، لا يفتأ أن يتأخر عن حراك ثوري عربي، قائم على تحرير المعاني ودمقرطة الحوار عنها وفيها!  

"المقاومة خط أحمر" هذه المقولة بالأساس ممارسة استحواذية أبوية، لا تُمارس فقط على فكرة المقاومة، إنما على كل مظاهر النقد أو على الأقل التداول الواقع فيها/عليها:

ما هي المقاومة؟

من هو المُقاوم؟

ماذا نقاوم؟

كيف نقاوم؟

لماذا نقاوم؟

لكن ماذا لو تخطينا ذاك الخط الأحمر؟
 


"المقاومة" كمعنى هنا يتحدد من خلال طبيعته المادية الأولى كأي معنى آخر، في ظل بيئة عربية يتكثف السياسي فيها في/من خلال كل شيء. وتلك الطبيعة المادية الأولى هي المادة الذهنية التي يشكلها الاجتماع التاريخي، في علاقته بالحسي المادي المُعاش، أي أن كل مقاربة لنا مع مفهوم المقاومة الذي يمثله حزب الله، هي مقاربة تنطلق بداية من المادي المعاش. ما يدفع بالسؤال النقدي إلى فضاء العلاقة بين الحزب والمواطن اللبناني مباشرة، وهو ما يرفد -شاء الحزب أم أبى- النتيجة التي أتت بعبارة "كلن يعني كلن ونصر الله واحد منن"، بمضامينها الكثيفة التي دفعت بشباب الحزب إلى استدعاء الأخلاقي المتجاوز في "المعنى/المقاومة" لمواجهة المادي المعاش.

المشكلة في هذه الحالة تكمن في مقولة المقاومة عن المقاومة من خلال هذا اليومي المعاش، وكيف أن رفض الحزب لمطالبات الحراك، سيدفع بمعنى المقاومة إلى النقد، ما يستلزم من الحزب شكلًا من أشكال المواجهة ما بعد الثنائيات لمواكبة هذا النقد، وهو ما فشل فيه الحزب في ساحتين إلى الآن: اللبنانية والسورية معًا، ولكن الأخطر أن سياسات الحزب تلك تدفع بفلسطين كمقولة أخلاقية لمواجهة السؤال الأخلاقي اليومي للحراك السوري واللبناني وحتى العربي ككل، وذاك موغل في فداحة الدم!

تلك الأسئلة التي تحظرها مقولة "الخطوط الحمراء"، تنطبق من حيث فاعليتها على مفاهيم وموضوعات الوطن والحرية والتقدم وتقرير المصير وغيرها، ولعل المطالبات الديموقراطية التي نادى بها ولا يزال الحراك الثوري العربي تشمل كذلك الأدوات النقدية والمناظير الإدراكية التي يُنظر بها إلى تلك الموضوعات، لا من أجل تفكيكها كما يهاب المؤدلَجون ممن يرون الحزب هو المقاومة، أو فاقدو الإيمان في الشعوب وتحركاتها، حتى لو كان ذلك باسم الثورات والشباب، فعبارة "الخط الأحمر"، تعتبر الثورة والتفكيك حدثًا موسميًا أو لعبة سياسية انتقائيّة، لا أكثر ولا أقل!

هذا المشهد المغرق في الألم والباذخ موتاً وعنفاً، وإن كان صلاة أساسية في محراب التشاؤم، إلا أنّ ثمة قراءة تفاؤلية مقابلة؛ فكل هذا الاستقطاب لا بد له من أن ينهار بكل تلك الكثافة الثقيلة، ولا بد لكل هذا الشد بين الثنائيات التفسيرية أن يفككها، لتتحرر فلسطين والمقاومة والوطن من الاستحواذات المفاهيمية الهشة والاختزالية التي تعتمد عليها الأيديولوجيا والأنظمة والمؤسسات والأحزاب، وليحدث ذلك لا بد من ممارسة نقدية تجاه ما نظنه مسلماتٍ وثوابت وخطوط حمراء، وبذا تكون المقاومة، لأي شكل من أشكال الاستلاب، كي لا يضيع الوطن أكثر!

المقاومة ليست خطًا أحمر!

الوطن هو ما نتشاركه بيننا لا ما يسحوذه أحدنا، ولا ما يُلقى إلينا!