سيرة الكتب المنفيّة

2019-11-29 12:00:00

سيرة الكتب المنفيّة
Jackson Pollock, Number 34

سيرةُ مكتبة المنفيين لا يُمكنُ أن تنفصل عن سيرهم. هي سيرة واحدة ورحلة واحدة. فالكتابُ لا يموتُ بموتِ كاتبِه، لكنه قد يفعلُ عند موتِ مقتنيه وحامله. وهو على ذلك، يُمكنُ أن يعيشَ المنفى معه أيضًا.

صيف العام ٢٠١٢، في الثامن عشر من آب تحديدًا خرجتُ من سوريا. لأسبابٍ لوجستية بحتة لم أحمل في يدي سوى حقيبة صغيرة تحتوي على بعض الملابس، فالخروجُ في ذلك الوقت لم يبدُ أنه سوف يمتدّ طويلًا، ولا حاجة لإثقالِ الرحلةِ مجهولةِ الوجهة والمنتهى بأمتعةٍ زائدة. على ذلك، لم يكن من متسع للتفكيرِ بالكتب أو بالمكتبات. كان ذلك ترفًا بالنسبةِ للهاربين. ولكنني على الرّغمِ من هذا، حملتُ في حقيبة يدي كتابًا واحدًا، وقد كانَ ديوانًا شعريًا، وهذه مصادفة ليست قدريةً تمامًا، كحالِ بقيةِ المُصادفات فيما بعد. كان ديوانُ أبي العلاء المعرّي «سقط الزّندْ» هو ذلك الكتاب الذي حملتُهُ معي من سوريا. وإذا كانَ شرط المكتبةِ وجودُ بيتٍ تحملُ حيطانُهُ رفوفها، فإنّ "سقطَ الزّندْ" كان بداية نفي هذه القاعدة. والقيام بما هو طبيعيّ في ظرفٍ غير طبيعيّ، وشرطٍ مُنعدم! لا بيتَ ليحملَ المكتبة، فلتصنعِ المكتبةُ البيتَ إذن، ولتحملْهُ في ترحالها!

وصلتُ بيروت قبل الظّهر. لعلّ أكثر ما لفت انتباهي حينذاك، أنّها وبرغمِ حركيّتِها الدؤوبة، انتسبتْ في داخلي إلى نمطِ المُدُن التي تتمتّعُ بكسلٍ صباحي لذيذ. كانَ جواد، وهو صديق من السويداء، يعملُ في مكتبةٍ صغيرةٍ في فرن الشبّاك. لا تحوي المكتبةُ كتبًا كثيرة، حتى أكادُ لا أتذكرُ أنني رأيتُ كتابًا واحدًا فيها، ويكادُ «سقط الزّندْ» يكون الكتاب الوحيد الموجود، وهو في حقيبتي لا على أحدِ رفوفها. لكنّ المكتبة كانت أقربَ إلى السنترال، حيثُ توجدُ عدةُ كابيناتٍ منفصلةٍ على مساحةِ أحدِ جدرانِها، في داخلِ كل منها هاتفٌ أرضيّ، يستخدمُهُ غالبًا العمّالُ الأجانبُ للتواصلِ مع ذويهم.

كسل المدينة الصباحي وندرة وجود الكتب في سنترال جواد، جعلاني أبحث عن أيّ شيءٍ يُقرأ، فوقعت يدي على كتابٍ على شكلِ مجلّة، من إصدارات "دار النهار" عن الراحل غسّان التويني. وبما أنّ شعورًا جديدًا اجتاحني في بيروت، لم أكن قد خبرتُهُ حتى قبلَ ساعتين فقط من وصولي إليها: البُعد! وعبارة "أنا الآنَ بعيدْ" تطنّ في أذني طوال الوقت، وبما أنّ البُعد محرّض، فقد كانت مغلفاتُ الرسائلِ ثاني ما أحملُهُ من هذا "السنترال" الذي يدّعي أنّهُ مكتبة. بعدَ كتابِ غسان التويني. وبانضمام المغلفات والمجلة إلى «سقط الزّندْ»، فقد وصلتُ الإسكندرية، بكتابين والكثير من الظروفِ الكلاسيكية القديمة، المُقلّمة بإطارٍ ملوّنٍ بالأحمر والأزرق.

لم أعتد قراءة الكتب على جهاز الكومبيوتر. الكومبيوتر دخلَ إلى بيتِنا متأخرًا أصلًا، نواحي العام ٢٠٠٥. وبناء عليه ظلّت القراءةُ بالنسبة لي عمليّة تحتاجُ عدّة حواسّ، من بينها للأسف: حاستا اللمس، والشمّ. لاحقًا تخلّيتُ عن حجّةِ "الحواسّ" وما عادَ مجديًا إخفاء سخريتي من النظرية، فاكتفيتُ بألّا أحبّ. لا أحبّ القراءة من شاشةٍ مضاءة. هذا مبررٌ كافٍ للسعيِ وراء الكتب حتى قبل السعيِ وراءَ بيتٍ يحتويها، بل في عزّ لحظةِ الخسرانِ، وفي عزّ سؤال نادين لبكي الشّهير: وهلأ لوين؟!

حين وصلتُ إلى السويد نيسان ٢٠١٣ قادمًا من مصر، كانت المكتبةُ التي بدأت بـديوان "رهين المحبسين" تحتاجُ حقيبةً لوحدِها! فقد كان الحصولُ على الكتب في مصر أمرًا يسيرًا في المتناول. ثمّ إنّ أولَ مُستقر حقيقي بعد سوريا كان فيها، وكانت بعدُ في فترةٍ انتقاليةٍ حيويّةٍ من حياتِها، والأنشطة الثقافية جزء أساسي من حياة المدينة، وعلى ذلك فقد كانت ملجأ لبعض العرب الهاربين من سطوةِ أنظمتهم مع بدايات ازدهار الربيع العربي، ما أتاحَ لي أن ألتقي كثيرين منهم. كان من بينهم عماد. صديقي عماد الأحمد، الذي كان قادمًا من رحلةٍ آسيوية بدأت في دبي فعُمان فإيران فماليزيا فجدّة فالقاهرة آملًا أن يغادرها إلى ليبيا، كان يحتفظُ بحقيبتين كبيرتين تغصّان بالكتب، ينقلهما معه حيث ينتقل (قبل أن يُقلعَ عن هذه العادة بُعيدَ مغادرة كل منا: أنا إلى السويد وهو إلى إسطنبول).

لم نكن قد التقينا منذُ مغادرتهِ سوريا عام ٢٠١٠، ولأنّ القاهرة مدينة آمنة، فقد كان طبيعيًا أن نجدَ حلّاً غيرَ مكلفٍ ماديًا لنقضي سهرتَنا الأولى بعد انقطاعٍ طويل. تناولنا العشاءَ في مكانٍ ما وسطَ البلد، شربنا ستيلّا، ومشينا في شوارع القاهرة أكثرَ من ساعتينْ دون وجهةٍ محددة، حتى وصل بنا المطافُ إلى مقعدٍ خشبيّ متهالكٍ، يكادُ يلمسُ النّيل، اشترينا كأسين من الشاي من عربةٍ صغيرة تقفُ على مقربةٍ، وجلسنا نحكي...

قرأنا في سهرتِنا تلك ديوانَ «سقط الزّندْ» كاملًا، وفرغنا منه ومن جلستنا عند السابعة من صباح اليوم التالي. أكرمني عماد، بعد إلحاحٍ شديدٍ مني طبعًا، بمنحي بعضَ الكُتب من حقيبتهِ المتنقّلة، مُتخففًا من أثقالِهِ ومُلقيًا عليّ ما يشبهُ نبوءةً ظلّت شاقّةً حتى اليوم: ستظلّ تنقلُ الكتب!

بدأتْ في مرحلةِ مصر أيضًا تظهر على رفوف المكتبة كتب جديدة، وهي الكُتبُ المُهداة. فزيارات الأصدقاء الكثيرة، الأمسيات، معارض الكتاب، كل تلك كانت تحملُ غالبًا كتبًا موقّعةً من أصحابِها. هكذا صار للكتبِ أصحابٌ غيري إذن! وقد كان هناك قبل ذلك مسافة فاصلة بين الكُتُب وأصحابِها، لكأن صاحبَها من يقتنيها لا من يكتبها.

مضى على مجيئي إلى هنا سبع سنوات. البيتُ الذي أسكنُه الآن في وسط مالمو، هو البيت السادس عشر لي في السويد. بدّلتُ قبلهُ خمسة عشر مسكنًا، توزّعت على الخريطة بين «أوبسالا» ٧٠ كيلومترا شمال العاصمة ستوكهولم، حتى مالمو في أقصى الجنوب. ظلّت الكتبُ هي الكراتين الوحيدة التي أنقلها، غير حقائب ثيابي خلال هذه الرحلة. كنتُ أفصحُ عن مخاوفي لأصدقائي من شراء أثاثٍ لأي بيتٍ أسكنه، وظللت أحاولُ أن أسكنَ في بيوتٍ مفروشةٍ سلفًا، كأنني لم أرد بناء علاقةٍ مع أيّ مكانٍ منذُ اكتشفتُ سهولةَ أن يخسرَ المرء مكانه. كنتُ أتجنبُ ما يُمكنُ أن يقيّدني، ولو عاطفيًا! والشيء الوحيدُ الذي حافظتُ على علاقتي بهِ هو الكتب، رافقتني الكُتبُ في كلّ تنقّلاتي وصار وجودُها علامةً أساسية يمكنُ من خلالها تمييز المكان الذي أعيش فيه. بات شراء الكتبِ بندًا أساسيًا على جدولِ أعمالِ أيّ زيارة لبلدٍ عربيّ، أو لمعارض الكتب العربية في أوروبا. تزوجتُ الآن وآوت كتبي المترحّلة إلى مكانٍ أخيرًا، لكننا: أنا وهي، نجهلُ ما إذا كان مكانًا نهائيًا. هو لا يبدو كذلك، لكنّها تعوّدت على الترحال على أي حال. وأنا استسلمتُ لنبوءة عماد.

سيرةُ مكتبة المنفيين لا يُمكنُ أن تنفصل عن سيرهم. هي سيرة واحدة ورحلة واحدة. فالكتابُ لا يموتُ بموتِ كاتبِه، لكنه قد يفعلُ عند موتِ مقتنيه وحامله. وهو على ذلك، يُمكنُ أن يعيشَ المنفى معه أيضًا.