وطن قومي لليهود... في العريش (وسيناء) 

2019-12-16 13:00:00

وطن قومي لليهود... في العريش (وسيناء) 
St. Catherine's Monastery on Mount Sinai, Egypt.

بيد أن أفكار هرتزل وسواه ومخططات الاستيطان في سيناء وإقامة وطن قومي لليهود فيها مكملة ومتماهية مع جهود يهودية سابقة للاستيطان في صحراء النقب الفلسطينية وشراء أراض فيها. وهذه الجهود تعود إلى سنة ١٨٨٢ عندما زارت بعثة من منظمة "أحباء صهيون" المنطقة لاستكشاف إمكانية شراء وتملك أراض فيها.

تعود البدايات الفعلية لفكرة محاولة الحصول على كيان قومي لليهود في سيناء إلى سنة ١٨٩٨ حين زار تيودور هرتزل، رئيس المنظمة الصهيونية، مصر وفلسطين في أكتوبر من تلك السنة. رتب هرتزل رحلته تلك على عجل حتى يقابل القيصر الألماني وليام الثاني في إستانبول أولاً، ثم في فلسطين لاحقاً خلال رحلة القيصر المُخطط لها إلى الأراضي المقدسة. وبالفعل استطاع هرتزل مقابلة القيصر في إستانبول وشرح له طموحاته بالحصول على تفويض من الدولة العثمانية لإستيطان أراض فيها سواء في سيناء أو فلسطين، ووعده بأن اي كيان يهودي في الشرق سوف يكون تابعاً لألمانيا وسوف يعمل على تفريغ ألمانيا من كل العناصر المشاغبة والثورية (اليهودية) التي تزعج القيصر، الذي راقت له الفكرة نظرياً. استمزج وليام الثاني المُقترح الذي قد يؤدي ليس فقط إلى التخلص من كتلة يهودية كبيرة وتهجيرها من ألمانيا، بل وأيضاً استثمار اليهود في الشرق لصالح توسيع النفوذ الألماني. في وقت لاحق خفت حماس القيصر للفكرة إثر إعلامه بأن مشروعاً كهذا سوف يثير غضب السلطان العثماني وقد يزعزع التحالف معه. 

في رحلته تلك استقل هرتزل قطار "الشرق السريع" إلى إستانبول التي منها سوف يبحر في سفينة ركاب إلى الاسكندرية ومنها إلى فلسطين، برفقة المحامي الصهيوني الألماني ماكس بودينهايمر، بالغ الحماس لفكرة الاستيطان اليهودي. في القطار سأل هرتزل بودينهايمر عن مقدار مساحة الأرض التي يعتقد أن اليهود يحتاجون إليها في الشرق، فأجابه: "مساحة تمتد من ضفاف مصر إلى الفرات، تسيطر عليها مؤسسات خاصة بنا لفترة انتقالية، يرأسها حاكم يهودي. وبعد ذلك، تكون لنا علاقة مع السلطان (عبد الحميد) شبيهة بعلاقته مع مصر. وحالما يصل عدد اليهود إلى ثلثي السكان، تتعزز الإدارة السياسية (لنا)...". إثر إهمال القيصر الألماني، تبعاً لإستشارات سياسية، فكرة هرتزل الذي كان ينشط بهمة في أروقة القصور الأوروبية باحثاً عن دولة كبرى تتبنى مشروعه، ركز الزعيم الصهيوني جهوده على لندن. وقد كانت أنظاره متوجهة دوماً نحو بريطانيا العظمى التي كان وسواه من قادة المنظمة الصهيونية يعتبرونها المثل الأعلى في استعمار أراضي البلدان البعيدة. 

منذ تلك الزيارة ظلت فكرة العريش وسيناء على رأس جدول الحركة الصهيونية، وانتقلت إلى مرحلة جديدة سنة ١٩٠٢. ففي تلك السنة وبناء على تعليمات من هرتزل وضع ديفيد تريتش، أحد القادة والكتاب الصهاينة الألمان (١٨٧٠ـ ١٩٣٥)، والذي كان من أشد أنصار فكرة سيناء والعريش، خطة مفصلة بناءً على زيارات للجان استكشافية مسحت المنطقة وقدمت تقارير مفصلة، واستهدفت شمال سيناء والعريش. كان إغراء الفكرة يقوم على أساس قرب الأرض المُستهدفة من "أرض الميعاد" وبكونها زراعية ومغرية للاستصلاح ولإمكانية استجلاب المياه إليها من نهر النيل. عُرف تريتش بكونه واحداً من الصهاينة ذوي الأفكار الاحتلالية الاستيطانية القصوى (Zionist Maximalism) إذ كان يؤمن ويدعو إلى استيطان "فلسطين الكبرى" من قبل اليهود، والتي ضمت بحسب رؤيته فلسطين وشمال سيناء وقبرص معاً. وقد اختلف مع هرتزل و"صهيونيته السياسية" التي اعتمدت سياسة الحصول الأولي على تفويض رسمي من إحدى القوى الكبرى للاستيطان في فلسطين أو غيرها قبل الشروع في شراء الأراضي، فيما رأى تريتش أولوية وضرورة الشروع فوراً في شراء واستيطان أية أراض قريبة من فلسطين حتى لو كان ذلك من دون تفويض أو قبول الدول الكبرى. وكان تريتش قد بدأ بتنفيذ أفكاره هذه سنة ١٨٩٩ عبر إرسال جماعات أولية إلى قبرص. ثم حول اهتمامه إلى العريش وشمال سيناء، وظل مهتماً بهما رغم رفض اللورد كرومر والحكومة المصرية فكرة جلب يهود إلى المنطقة. وفي وقت لاحق أعاد تريتش فتح الملف مرة أخرى رغم الرفض المصري والمعوقات الأخرى، وفي سنة ١٩٠٦ نظم بعثة استكشاف إلى العريش وشارك فيها. ويُذكر أيضاً أن تريتش نفسه دعا لاحقاً إلى تعاون وثيق بين الصهيونية وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وكان رافضاً ومنتقداً لفكرة "الاستيطان البطيء" في فلسطين داعياً إلى هجرات موسعة وفورية إليها.

تخلى هرتزل عن تريتش وشكك في "مبالغاته" وتقاريره التي تستهل فكرة استيطان العريش وشراء أراضيها، وفي سنة ١٩٠٢ اعتمد على غيره. ويقول في مذكراته أنه أرسل اليهودي غرينبيرغ إلى مصر، واستلم منه في نوفمبر من نفس السنة رسالة مختصرة يقول له فيها "إنه من المُحتمل أننا نقف على عتبة الحصول على تفويض بريطاني وإنشاء دولة يهودية". وفي ٢٣ أكتوبر ١٩٠٢ وبعد جهود وتدخل من مؤيدين للصهيونية في لندن، التقى هرتزل مع جوزيف شامبرلين وزير المستعمرات البريطاني وفصل له فكرة إقامة كيان قومي ليهود أوروبا في إحدى مناطق نفوذ التاج البريطاني، وكيف ستخدم مصالحه. أخبره أيضاً عن اتصالاته ومفاوضاته مع السلطان عبد الحميد بهذا الشأن. ثم طرح عليه فكرة منح اليهود ثلاث مناطق دفعة واحدة: قبرص، العريش، وشبه جزيرة سيناء. شامبرلين رد عليه بأنه لا يستطيع التحدث إلا عن قبرص بكونها تقع تحت السيطرة والسيادة البريطانية فعلياً، بينما العريش وسيناء يتبعان ولو ونظرياً السيادة المصرية، برغم وجود اللورد البريطاني كرومر كحاكم فعلي في القاهرة. وحتى قبرص فإنها لن تكون سهلة بكونها مأهولة بالسكان وليس بالإمكان طردهم لإحلال اليهود مكانهم. قدم هرتزل بناء على ذلك رداً يتأسس على احتقار الأجناس والشعوب الأخرى ومثقل بالعنصرية، إذ قال لشامبرلين إنه سوف ينشئ "الشركة الشرقية اليهودية" برأسمال خمسة ملايين جنيه، ويُناط بها استعمار سيناء والعريش وتحويلهما إلى منطقة مزدهرة بجهود سكانها اليهود. وعندها سوف ينشأ اهتمام شديد عند القبارصة لجذب بعض من "مطر الذهب"، أي اليهود، إلى جزيرتهم. وبعد ذلك، أي بعد تزايد أعداد اليهود في الجزيرة، فإن مسلمي الجزيرة سوف يغادرونها، أما اليونانيين فيها فإنهم سيبيعون أراضيهم لليهود طواعية ورغبة في الحصول على الأثمان العالية التي سوف يجنونها، وإثر ذلك يرحلون إلى اليونان أو كريت. هكذا وبكل سهولة افترض هرتزل أن شعوب وسكان المناطق الأخرى سوف يبيعون أوطانهم وأراضيهم طعماً في المال. وضع هرتزل المُقترح في شكل حكم ذاتي يهودي مستقل لكن تحت السيادة المصرية العامة، وقد حول رئيس الحكومة البريطانية آنذاك، آرثر بلفور، المقترح إلى اللورد كرومر المندوب السامي البريطاني في القاهرة لإبداء الرأي. 

وقد أرسل كرومر في القاهرة لجنة استكشافية سنة ١٩٠٣ للمنطقة لدراسة الاقتراح على الأرض، وخلصت إلى أن استصلاح الأرض قد يكون صعباً لمهاجرين قادمين من أوروبا، لكن برغم تلك الصعوبة فإن الإمكانية قائمة إذا تم نقل مياه النيل إليها. واقترحت اللجنة البدء في مزارع صغيرة بغرض التجربة وقبل الشروع بفتح الباب لهجرة أعداد كبيرة من اليهود. تحمس هرتزل للمشروع بشكل كبير ورأى فرصاً كبيرة لتحققه على الأرض. وفي لقاء مهم آخر له مع شامبرلين في إبريل ١٩٠٣ أعاد طرح الفكرة معه. في ذلك اللقاء أخبر شامبرلين هرتزل أنه في الأشهر الماضية زار مناطق عديدة من الإمبرطورية ومنها مصر، وهناك التقى كرومر وتحدث معه حول المقترح. وأشار إلى أن تقرير البعثة التي أرسلها كرومر إلى العريش لم يكن إيجابياً، فرد عليه هرتزل بأن سيناء والعريش "بلد فقير، لكن نيتنا أن نعمل منها شيئا آخر". ثم قدم هرتزل مرافعة لافتة لشامبرلين مشدداً على الفائدة السياسية التي ستجنيها بريطانيا من إنشاء الكيان اليهودي في العريش. وقال إن الأراضي هناك لا تساوي شيئاً وليس ثمة أحد مستعد لأن يدفع فلساً من أجل شرائها، سوى نحن (اليهود) لأن لنا أهدافاً سياسية. ثم ركز على أن كياناً يهودياً سوف يكون في خدمة الإمبرطورية البريطانية وأنه "يجب أن يكون مفهوماً بأننا سوف نضع أنفسنا تحت راية بريطانيا فقط، وليس تحت الراية المصرية... وعندما نكون تحت راية بريطانيا في العريش، فإن فلسطين سوف تؤول إلى دائرة النفوذ البريطاني أيضاً". ثم تابع هرتزل مرافعته بأن بريطانيا لن تدفع شيئاً في كلفة الأرض وإن المال اليهودي سوف يتكفل بذلك، وكان قد رصد ميزانية خمسة ملايين جنيه لغرض استيطان سيناء. ولدفع شامبرلين للموافقة على الفكرة والحماس لها، قال هرتزل إن إضافة مستعمرة جديدة لبريطانيا سوف تُعتبر إضافة مجيدة في سجل شامبرلين نفسه.

بيد أن أفكار هرتزل وسواه ومخططات الاستيطان في سيناء وإقامة وطن قومي لليهود فيها مكملة ومتماهية مع جهود يهودية سابقة للاستيطان في صحراء النقب الفلسطينية وشراء أراض فيها. وهذه الجهود تعود إلى سنة ١٨٨٢ عندما زارت بعثة من منظمة "أحباء صهيون" المنطقة لاستكشاف إمكانية شراء وتملك أراض فيها. وقد كتب رئيس البعثة آنذاك، ز. د. ليفونتين أن هناك عناصر عديدة إيجابية تسهل فكرة الشراء والتملك، منها رخص الأراضي، وتوفر مساحات واسعة غير مأهولة يمكن الحصول عليها من دون صعوبة، وبعدها عن الأماكن المقدسة الخاضعة لمراقبة وتنافس الدول الكبرى، وقربها من البحر. وبالفعل أثمرت تلك الجهود في الحصول على عرض بالغ الإغراء للجمعية سنة ١٩٠٣ من قبل باشا القدس التركي (خلال حكم السلطان عبد الحميد!) وجهه إلى مناحم يوسيشكن، أحد قادة منظمة "أحباء صهيون" خلال زيارته الثانية للنقب. وقد تضمن العرض منح المنظمة نصف مليون دونم من أراضي بئر السبع بسعر بخس. ولم يصدق يوسيشكن العرض وأرسل مباشرة إلى هرتزل في فيينا طالباً موافقته على العرض، إلا أن هرتزل رفض ذلك بانتظار أن يحصل على قبول كلي وعام من قبل إستانبول لشراء الأراضي في فلسطين كلها وليس فقط في صحراء النقب.