أتُنتِج صُور "انتفاضة 17 أكتوبر" اللبنانية سينما جديدة؟

2020-01-03 00:00:00

أتُنتِج صُور
Maryam SAMAAN

فالتقاط اللحظة زمن حدوثها، بأية وسيلة متوفرة، أهمّ من أي شيء آخر. الاستفادة لاحقة. التراكم البصريّ، وإنْ يكن غير مُستَخدَمٍ كلّياً، يبقى أرشيفاً لذاكرة التضاد الحادّ بين ثورة/ انتفاضة مدنية وسلمية وعفوية، وبطشٍ عنفيّ دمويّ، يريد (البطش) تغييب كلّ دليل على فعله الجُرميّ،

تُذكّر "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019) اللبنانية ببدايات "الربيع العربي" في دولٍ مختلفة، تحديداً في مصر وسورية، إذْ يستعين شاباتها وشبابها بهواتفهم الخلوية لتصوير تفاصيل كثيرة، تحصل معهم في الساحات والشوارع، أثناء مواجهتهم تنانين السلطة برؤوسها المختلفة. فالهواتف الخلوية تبقى الأداة الأبرز والأهمّ في توثيق اللحظة، ونقل الموثّق إلى وسائل تواصل عديدة، كي ينتبه العالم إلى الفعل الجُرميّ الحاصل في تلك البلدان، مع أنّ العالم (الأنظمة والحكومات والمؤسّسات الرسمية) غير مكترثٍ بالفعل الجُرميّ هذا، رغم الصُور والتسجيلات والوثائق التي تؤكّده، فمصالح الدول أهمّ من مطالب وحقوق شعبية محقّة.

الفعل الجُرميّ في لبنان متنوّع: وقاحة المتسلّطين على البلد وناسه في التعامل مع مطالب وحقوق شعبية محقّة وأساسية، ما يؤدّي إلى عنفٍ ماديّ يمارسه "شبيحة" زعيمٍ أو أكثر، مع تدخّلات أمنية وعسكرية رسمية بين حينٍ وآخر ضد المنتفضات والمنتفضين، لمصلحة الـ"شبّيحة"؛ أو إلى عنفٍ معنويّ يمارسه مصرفيّون، هم الأقوى تسلّطاً في مواجهة الانتفاضة اللبنانية، بغطاء كامل من سياسيين نافذين ومسؤولين ممسكين بالسلطة. هذا من دون تناسي التواطؤ، المفضوح غالباً، لوسائل الإعلام، المنخرطة بكلّيتها في مواجهة الانتفاضة، وإنْ تميل إلى الانتفاضة أحياناً، فبهدف مناكفة السلطة أو بعضها لتحقيق مكاسب مختلفة.

وإذْ يتبدّل ردّ الفعل السلطوي في سورية ومصر إزاء سلوك مدني عفوي سلمي، من إزدراء وتخوين إلى بطشٍ يتحوّل إلى حربٍ وحشية ضد بلد وناسه (سورية)، أو إلى قمع يوميّ في جوانب الحياة وأساسياتها (مصر)؛ فإنّ المواجهة السلطوية في لبنان تُنفّس غضبها بعنفٍ مباشر يُشارك فيه عسكريون وأمنيون، من دون تطوير هذا العنف إلى حربٍ وتدمير وإقصاء وتغييب. فالقوى الطائفية والحزبية والاقتصادية (المصارف أساساً) متيقنة من قدراتها (وديمومة قدراتها) على إحباط الانتفاضة وناسها، بمخالفات قانونية فجّة.

في مناخٍ كهذا، تستخدم شابات الانتفاضة اللبنانية وشبابها الهواتف الخلوية لالتقاط كلّ ما يُمكن التقاطه، وبثّه مباشرة على وسائل التواصل الاجتماعي. فالإعلام اللبناني منخرطٌ في مواجهة الانتفاضة والمنتفضات/ المنتفضين، لمصالح تربطه بالنظام الحاكم، وأفرقائه جميعاً. وهؤلاء غير مكتفين بالصُور والتسجيلات الحيّة، أي المبثوثة مباشرة لحظة الحدث نفسه، إذْ يبرز بعضهم في تفنيد صُور وتسجيلات مفبركة تزوّر وقائع وحقائق، بنشر هذا البعض معطيات قانونية وعلمية، وتوثيقات تفضح أزلام النظام الحاكم وفساده، وتستدعي من أوقاتٍ ماضية (وبعضها قريبٌ زمنياً) ما يكشف أكاذيب متحدّثين باسم السلطة وأزلامها والقوى الحاكمة، فالصُور والتسجيلات توثّق، والتوثيق كفيلٌ بتحصين الوقائع من النسيان.

كأنّ الصورة والتسجيل يتكاملان معاً في كشف المستور، أو بعضه على الأقلّ، رغم المواجهة الحادّة لما يُعرف بـ"الثورة المضادة"، الحاضرة في بلدان "الربيع العربي" أيضاً، بأشكالٍ متنوّعة.

الصُور المُسجّلة بالهواتف الخلوية، إنْ تكن فوتوغرافية أو فيديوية، تبقى جزءاً من معركة، تُصرّ شابات الانتفاضة اللبنانية وشبابها على سلميّتها ومدنيّتها وعفويّتها. فالأهمّ كامنٌ في كشف السلوك المعتمَد من نظام حاكم، ومن حلفاء له ومتعاونين معه وأصحاب مصالح مشتركة وإياه، ومن "شبّيحته" أيضاً. هذا أساسيّ، لذا التوثيق حاصلٌ، ولا بُدّ من الاستفادة منه لاحقاً، في أفلامٍ وثائقية أو روائية، أو الاكتفاء به كتوثيق بصري ـ سمعي يُحفَظ للذاكرة والتاريخ. التجربة السورية، مثلاً، لا تزال ماثلة في الأذهان والوعي المعرفيّ إلى الآن. فالكمّ الهائل من الصُور والتسجيلات الفوتوغرافية والفيديوية، دافعٌ (من بين دوافع أخرى أيضاً) إلى تحقيق أفلام وثائقية، كـ«ماء الفضّة» (2014) للسورييّن أسامة محمد ووئام سيماف بدرخان، و«بلح تعلق تحت قلعة حلب» (2013) للّبناني محمد سويد، وأفلام أخرى ترتكز عليها أو تستفيد منها أو تستوحيها. الفيلمان المذكوران يعتمدان على صُور وتسجيلات توثّق يوميات الخراب السوري في حمص وحلب، المُرسلة إلى المخرِجَين أسامة محمد (بدرخان صاحبة الصُور والتسجيلات البصرية، التي تُشكّل العماد الأساسي لفيلمها مع محمد) ومحمد سويد (الحاصل على الصُور من شبابٍ عديدين)، ويؤكّدان أهمية تلك المواد البصرية ـ السمعية في صناعة سينما وثائقية، تحفر عميقاً في الوجدان والوعي، وتمنح المُشاهد جمالية اشتغال سينمائي، وإنْ يكن الموضوع قاسياً ومؤلماً.

فهل تتحوّل الصُوَر والتسجيلات اللبنانية إلى وثائقيات بصرية، يُمكن الركون إليها لاحقاً في اشتغالات سينمائية مختلفة، خصوصاً أنّ الإعلام المرئيّ لن يكون مرجعاً موثوقاً به، فالتلاعب واضحٌ في مهنته إزاء "انتفاضة 17 أكتوبر"، رغم أنّ تسجيلات لديه مكتفية بالتقاط أحداثٍ وتفاصيل، تُمكّن (التسجيلات) المهتمّ من تنقيتها من ألاعيب المؤسّسات الإعلامية، ونواياها الخبيثة، وارتباطاتها المرتكزة إلى مصالحها؟

تساؤل كهذا ينسحب على السودان والعراق والجزائر أيضاً، تماماً كانسحابه السابق على مصر وليبيا واليمن والبحرين، رغم الاختلاف الجذري بين تلك الدول سينمائيّاً، فالعمل السينمائيّ شبه منعدم في بعضها (ليبيا واليمن والبحرين). وإذْ تتعطّل السينما في السودان أعواماً مديدة، لأسبابٍ لن يختفي منها السياسي والتسلّطي القامع، فإنّ «أوفسايد الخرطوم» (2019) لمروى زين يكشف نبض الشارع السوداني أيام الحكم العسكري الإسلاميّ المتشدّد، ملتقطاً بعض ما يُمكن اعتباره ركائز انتفاضة شعبية مدنية عفوية. بينما للعراق والجزائر تاريخ حافل بالإنتاجات السينمائية، التي تعاني اهتزازات كثيرة واشتغالات عديدة، ما يؤشّر إلى إمكانية الاستفادة الفعلية من الصُور والتسجيلات الموثّقة لغليان الشارع وناس البلد.

في مقابل الصُور والتسجيلات، تشهد "انتفاضة 17 أكتوبر" حضور سينمائيين لبنانيين فيها، كتابة وتصويراً ومتابعة ونقاشات وطرح أفكار، تصبّ كلّها في ما يُفترض به أنْ يكون لصالح الانتفاضة. بعض هؤلاء ينشر تعليقات فيسبوكية يومية، تتراوح بين السخرية والنكتة والمناقشة والتحليل وتقديم خلاصة اختبارات وتجارب، ويكتب بعضٌ آخر مقالات تختزل نقاشاتٍ تدور بين المعنيين والمهتمّين والمشاركين، وتطرح عناوين يُفترض بها أنْ تُفيد الانتفاضة وشاباتها وشبابها، وبينهنّ/بينهم سينمائيون يهتمّون بالصورة ودورها، وبالتسجيلات البصرية ـ السمعية وأهميتها.

فالتقاط اللحظة زمن حدوثها، بأية وسيلة متوفرة، أهمّ من أي شيء آخر. الاستفادة لاحقة. التراكم البصريّ، وإنْ يكن غير مُستَخدَمٍ كلّياً، يبقى أرشيفاً لذاكرة التضاد الحادّ بين ثورة/ انتفاضة مدنية وسلمية وعفوية، وبطشٍ عنفيّ دمويّ، يريد (البطش) تغييب كلّ دليل على فعله الجُرميّ، ما يدفع الأنظمة الباطشة إلى إلقاء القبض على حامل الهاتف الخلوي، وتحطيم الهاتف الخلوي، قبل أنْ يُصوّر الجلاّد أفعال التعذيب في سجونه، وبثّها علناً، بهدف ترهيب الناس المُسالمين، الذين يُطالبون بحقوقٍ مهدورة.

هذا حاصلٌ في لبنان، منذ 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019: كلّ اعتداءٍ على مدنيّ منتفض سلمياً يُصوّر فوراً، ويُبثّ فوراً على وسائل التواصل الاجتماعي. كلّ مُعتدٍ، إنْ يكن رجل أمن أو عسكرياً أو بلطجياً/ شبّيحاً، يُصوّر أثناء ارتكابه فعلته الجُرمية، وتُبثّ التسجيلات فوراً على الوسائل نفسها، وتُستخدم (وإنْ لاحقاً) في تكوين ملفات قضائية. كلّ تزوير يُبثّ علناً لتشويه الانتفاضة والمنتفضات/ المنتفضين، يواجَه بتسجيلات وصُور موثّقة تكشف التزوير وتُدين، ضمناً، المزوّر. كلّ افتراء أو احتيال أو كذبٍ، يُراد منها إنهاك "انتفاضة 17 أكتوبر" اللبنانية، توَاجَه بحقائق ووقائع مؤرشفة بصرياً. هذا يعني أنّ الصورة، الفوتوغرافية أحياناً والمتحرّكة غالباً، سلاحٌ وحيدٌ بأيدي منتفضات "17 أكتوبر" ومنتفضيها، في مواجهة وحشية النظام الحاكم، غير المُصدّق بأنّ رعيته تنقلب عليه، وغير الموافق على مطالب محقّة، لأنّ موافقته تعني نهايته.

لاحقاً، ينتقل الأمر إلى داخل المصارف، التي تحرم المودعين الصغار من الأموال، مخالِفةً القوانين كلّها من دون تردّد، بل بكل وقاحة وتعجرف. فالصُور والتسجيلات وثائق تُدين موظّفين ومدراء فروع تابعة لمصارف تمنع المودعين الصغار من سحب ما يريدونه من أموالهم الخاصّة. مواطنون ـ مودعون يُصوّرون ويوثّقون أفعال هؤلاء، فيُصبح التسجيل الحيّ وثيقة تحصّن اللحظة من النسيان، وتدعم حقوقاً مهدورة، وإنْ يندر أنْ تؤثّر التسجيلات على المصارف، فتحول دون استمرارها في تعنّتها وعنجهيتها وتشاوفها على الناس، ودون استمرارها في مخالفة القوانين، في ظلّ انعدامٍ شبه تام لقضاء يحمي الناس ويُعاقب المخالفين.

الوقت باكرٌ للبدء بتحقيق أفلام، وإنْ تكن تسجيلية أو وثائقية على الأقلّ، عن "انتفاضة 17 أكتوبر"، وعن شاباتها وشبابها. فرغم أنّ سينمائيين عديدين يستغلّون حالاتٍ كهذه، فيُصوّرون ويوثّقون ويحتفظون بكثيرٍ من صُورهم وتسجيلاتهم، إلاّ أنّ الانتقال إلى مرحلة الإنجاز السينمائي لا يزال باكراً جداً. الصُور والتسجيلات موجودة، أقلّه على المستوى الفرديّ، والمقبل من الأيام كفيلٌ بتبيان ما إذا يُمكن لتلك الوثائقي البصرية ـ السمعية أنْ تُساهم في تحقيق أفلامٍ، أم تبقى مجرّد وثائق بصرية تؤرشف اللحظة، وتحصّنها من النسيان.