هل تصبح الأقلام قلماً واحداً في "قصص أريحا القصيرة"؟

2020-01-07 00:00:00

هل تصبح الأقلام قلماً واحداً في
RUBA SALAMEH

"ولكن أليس لنسيج الكلمات المميز بأسلوب الكاتب مساهمة في تغيير الأثر؟" إنه سؤال ما زال يتردد في ذهن الكثير من الكتاب.

النزهة (٢٠١٨)، بقلم: مشاركات ومشاركين في ورشة "قصص أريحا القصيرة"

"لم يتمالكا نفسيهما وانفتح النقاش مجددًا بينهما وهما يمشيان على رصيف الشارع بعد أن اشتريا أغراضهما للنزهة (١)، تظهر القوة في ما انفعل من حركتيهما يا صاحبي (٢). دخلا غابة الصنوبر، حيث بدا الصمت أثقل من كلمات علقت بحلقها (٣). بقيا صامتين بنظرات لا يعرفان أين يوجهانها طيلة الطريق حتى سكة الحديد القديمة، أوحى البرق باقتراب المطر (٤). وكم تأملنا بزخّة المطر الخفيفة تلك أن تبقي كفّتي يديهما مشبوكتين كي نتلامس نحن مجددًا وكم تمنينا (٥) لو أنَهما يخلعان ثوب التمرّد فيلقيانه على ما ارتصف من حجارة في طريقهما. لو أنهما يتركان لنا الكلام (٦). سكون مقيت خيّم على المكان (٧)، ثم صرخ يناديها وهي تسرع أكثر فوق المنحدر الترابي (٨)، لكن كل هذا الغضب الدفين كان لا بدّ له أن يتفجّر وكأن منحدر التراب الحاد هذا قادهما إلى منحدر الحب وانطفاء روح البدايات بينهما (٩). بعد أن انتهت هي من النحيب بين الشجيرات، جلست على صخرةٍ مبللةٍ بالمطر الحديث. وأصبحت عندها شجرةً بلا اسمٍ بين أشجار الصنوبر، فما حاجتها للاسم في الغابة؟" (١٠)

النزهة (١٩٩٧)، بقلم: ليديا دايفيس، من ترجمة: ملك عفونة

فورة غضب عارمة قرب الشارع، امتناعٌ عن الحديث على الطريق، صمتٌ في غابات الصنوبر، سكونٌ يقطع جسر سكّة الحديد القديمة، محاولة لإظهار الودّيّة تحت المطر، رفضٌ لإنهاء الجدال فوق الحجارة المرصوفة، صرخة غضب فوق منحدر التراب الحادّ، نحيبٌ بين الشجيرات.

سياق النزهتين

النص الأول أعلاه هو إعادة كتابة جماعية لنص قصير لـ ليديا دايفيس بعنوان: النزهة. عملتُ على إعادة تشكيل النص الأول الجديد من ثمانية نصوص مختلفة لكتاب شباب اشتركوا في ورشة "قصص أريحا القصيرة" وهي سلسلة من اللقاءات الأدبية، والتي تعرف بطرق وأساليب الكتابة، وتستعرض نصوصاً عالمية أدبية مختلفة، بإشراف د. عدنية شبلي، بدأت في مدينة أريحا في خريف ٢٠١٨، توزّعت في ثلاثة لقاءات امتد كل لقاء على يومين، على مدار ثلاثة شهور، تلتها في صيف ٢٠١٩ ورشة ثانية في مدينة رام الله، اتبعت برنامجاً مشابهاً. والجدير بالذكر أن هاتين الورشتين هما جزء من ورشات للكتابة أقيمت في عدة مدن منها بيروت والقاهرة وفرانكفورت، بادرت إليها المؤسسة الثقافية الألمانية KfW يدعهما بنك التعمير الألماني بالكامل، بالتعاون مع معاهد جوته في هذه المدن. وعمل المشاركون خلال هاتين الورشتين على كتابة قصص قصيرة بإشراف د. شبلي، تُرجمَت نصوص مختارة من بينها إلى الألمانية والإنجليزية ونُشرَت في كلتا اللغتين.

إحدى التجارب التي تم الخوض فيها في ورشة قصص أريحا القصيرة، هي قيام المشتركات والمشتركين بكتابة وإعادة كتابة نص دايفيس. في هذا النص القصير جداً، نلاحظ أنه مروي عن طريق المشاعر والمكان، ويغيب فيه الحوار، أو الشخصيات المحددة، بل نحن نتعرف على مجريات القصة، أو نخلقها بالأحرى، بتفسيراتنا وتخيلاتنا لتدرج هذه المشاعر في الأماكن المختلفة، والتي تبدو كجريان زمني في مواقع تصوير، كجزء من شريط فيديو من فيلم صامت ما. ما عملت عليه دايفس إذن هو ربط الإحساس بسياقه المكاني، فهناك في نصها نجد ثنائيات الـشعور-المكان التالية: الغضب - قارعة الطريق، الرفض -الطريق، الصمت- غابة السنديان، الصمت - الجسر، محاولة اقتراب-الماء، الرفض - الصخور، الغضب مرة أخرى - أشجار الصنوبر، النحيب - الشجريات. إنه تمثيل بياني، للمشاعر الإنسانية المنبثقة في زمن محدد، غير معروف كمدة تقاس، لكنه الزمن الذي لزمهما للانتقال من الطريق وحتى الشجيرات، إنه الغضب المتفجر، ثم الاستقرار والهدوء، ومحاولة فاشلة للتقرب، ثم إعادة استرجاع الغضب بأقصى حالاته، ومن ثم انهيار قمة هذه المشاعر الغاضبة في فعل البكاء والنحيب، كفعل تفريغي، ومن ثم ما الممكن؟ النسيان؟ تجاوز الأمر؟ لا ندري. النص الذي شكّلته من نصوص الكتاب المشاركين في ورشة أريحا (وهم: نسرين صيام، هند شريدة، خضر سلامة، أمير حمد، ربيع عيد، مي كالوتي، عبد المعطي مقبول، رؤى الشيش) اعتمد على استخراج المشاعر بالترتيب نفسه الذي قامت به دايفيس، لينتج هذا النص الجمعي، الذي يعبّر عن كل حالة، بطريقة مميزة من نتاج كاتبها، ولكنه يدمج بين المشاعر كلها، لينتج قصة واحدة جماعية، تقرأ الأصلية بطرق مختلفة وتعبر عنها بضمائر مختلفة، مرة من وجهة نظر أبطال القصة، ومرة من وجهة نظر المشاهد.

ما الممكن رؤيته واستلهامه من تقابل النصين؟

للنصين نفس المعنى تقريباً، ويوشِّيان العقل بصور متقاربة، إن لم تكن متطابقة. أي أن المدلول (المعنى/الصورة) من النص متقارب، بينما الدال (الكلمة/النص) مختلف كلياً. إلا أن تقابلهما، أي النصين، يثير التساؤل حول قيمة النص الأدبي، وإن كانت تأتي من دالاته أم مدلولاته، فقد تتغير قيمة النص الأدبي بتغير دالاته عبر الزمن، كونها أصبحت تعبّر عن مدلولات جديدة في زمن مغاير هو أحدث، حيث لا يمكن لمدلول نص دايفيس في العام ١٩٩٧ أن يحمل المدلول نفسه اليوم، ما يشي أيضاً باحتمال اختلاف قيمته الأدبية جراء ذلك.

يعيد النص الذي قمت بتشكيله من نصوص المشتركات والمشتركين في "قصص أريحا القصيرة" كذلك التساؤل حول إمكانية إلغاء دور الكاتب تماماً من النص، وإلى أية درجة تحتمل النصوص التحرير، محتفظاً في الوقت ذاته بملكيتها لكاتبها. باختصار، ما الذي يجعل النص ملكاً لكاتبه، دالاته أم مدلولاته؟ ملكية دايفيس لشيء ما من النص الجديد ليست محسومة. فقد يرى البعض أن لا سطوة لنصها على النص الجديد سوى الإلهام.

بالنسبة لتعريف النص بحسب الفيلسوف رولان بارت، يقوم النص على عدة عوامل أو أبعاد وهي: البعد المادي، والبعد الزمني، والبعد الاجتماعي، والبعد السيميائي، دون أن يقدم تعريفاً للنص. في كتابه "درس السيميولوجيا" يوضح بارت هذه النزعة في عدم إيراد تعريف للنص لأن ذلك "معناه السقوط ثانية في المدلول" (١١)، أي يخشى بارت أن يصبح تعريف النص منحصراً في معناه/مدلوله، مولياً أهمية موازية لبعد النص المادي، ألا وهو فضاء الكلمات والأصوات المنسوجة والمشكّلة للنص (لاحظ أن كلمة "نص" بالفرنسية والإنكليزية تأتي من الجذر texte وهو نفس الجذر الذي تتشكل منه كلمة textile أي نسيج). يعني كل هذا أن النص يتكوّن من كلا البعدين وأكثر، بحسب الأبعاد التي تم ذكرها سابقاً. بالتالي من الممكن الاستشفاف بأن النص الأساسي لدايفيس هو نص مختلف عن النص المصاغ من معناه، وإن تشابه مدلولهما. أما بالنسبة لتبعية النص لكاتبه، فلنرى أولًا ما هي رؤية بارت، رائد فلسفة "موت الكاتب"، في هذا الصدد. بحسبه النص هو بالأساس الأثر الذي تتركه الكتابة؛ في حين أن الأدب يعد أدباً بقدرته على التحرر والخلخلة والزعزعة، لذلك هو لا يفرّق بين كتابة أحد من الكتاب عن الآخر، فلا "فرق بين سيلينCéline وهوغو Hugo، وبين شاتوبريان Chateubriand وزولا Zola ،" من حيث مسؤوليتهم عن الشكل، أو البناء المادي، فالمهم هو الأثر الذي يتركه الأدب. موقف بارت هنا يعيد إلى الواجهة ما أورده من قبل جاك لاكان، المحلل النفسي الذي كان له أثر كبير على بارت. يقول لاكان في كتابه «وظيفة اللغة في التحليل النفسي» أن الدالات تطفو فوق المدلولات وتخلق بناءً تحته من الممكن أن تتغير جرّاءه المدلولات وتتحرك (١٢). أي يضفي لاكان أهمية أكبر على البناء المادي للنص. وهكذا يمكن القول بحسبه، بأن النصّين مختلفان تماماً، لأن حتى المعنى/الأثر/الصورة/المدلول، من الممكن أن تتغير جميعها وتتحرك بتغير المبنى اللغوي/الدال. ومن الممكن أن نأخذ الموضوع لدرجة أشد تطرفاً معلنين بأنه ليس لديفيس أية سطوة أو علاقة بالنص الجديد، جاعلاً من سؤال "من أين جاء النص الجديد؟" يتردد متلاشياً في البعيد.

"ولكن أليس لنسيج الكلمات المميز بأسلوب الكاتب مساهمة في تغيير الأثر؟" إنه سؤال ما زال يتردد في ذهن الكثير من الكتاب.

هوامش
١- من نص الكاتب ربيع عيد
٢- من نص الكاتب عبد المعطي مقبول
٣- من نص الكاتبة مي كالوتي.
٤- من نص الكاتبة رؤى الشيش.
٥- من نص الكاتب ربيع عيد.
٦- من نص الكاتب عبد المعطي مقبول.
٧- من نص لهند شريدة
٨- من نص للكاتبة مي كالوتي
٩- من نص الكاتب ربيع عيد
١٠- من نص للكاتب أمير حمد
١١- من ورقة للباحث المغربي محمد أمغار
١٢- http://csmt.uchicago.edu/glossary2004/text.htm