العبور العالق في مشهدية الآفاق... قراءة في أعمال الغصين والمالحي (مقال لياسمين قعدان)

2020-02-14 16:00:00

العبور العالق في مشهدية الآفاق... قراءة في أعمال الغصين والمالحي (مقال لياسمين قعدان)
بلا عنوان، طارق الغصين

أما عمل طارق الغصين المعروض، والذي تركه دون عنوان، فإنه يتقاطع مع العمل السابق للمالحي في مفاصل عديدة، أهمها يكمن في البحث عن معبر، ولكن المعبر يتمظهر في عمل الغصين على عكس عمل المالحي، إذ ويشير إليه بواسطة منافذ بصرية ممكنة وواضحة تخترق الحدود المجردة في الصورة.

الكتابة باستيهام شعوري تشكل إثر عملية العبور التي حدثت أثناء التنقل في معرض "اقتراب الآفاق"، في ممرات المتحف الفلسطيني؛ إنها عملية العبور كلحظة تلقٍّ تُستشعر بالتوازي مع ما تقدمه الأعمال الفنية المعروضة، وترتيبها في المعرض، وهي، إن صح التعبير، محاولة لإعادة تملك سلطة الحركة نحو العبور، واجتياز عناصر التشكل، وصولًا لما بعد المشهدية، وعبورًا في متخيل اجتماعي من أجل سلب سلطة التشكيل التي يملكها الاستعمار على المكان، وسيطرته على تدفق حركة الأجساد، إنها عملية عبور تأتي بعد التوقف أمام عملي جواد المالحي "بعدين، (2018)"، وطارق الغصين "بلا عنوان، ( 2007،2008)"، اللذين يمثلان العبور العالق بحركتين مختلفتين، فالأول علق في مشهدية الانتظار لعبور متخيل وغير واضح المعالم، والثاني لا ينفك عن محاولة تخيله للعبور بجسده وهويته، بين شقوق الحدود المركبة بتصويراته المتكررة.

يتناول معرض اقتراب الآفاق موضوع المشهد الطبيعي، وتمثيلاته المتغيرة، ومحددات الاقتراب والابتعاد عن المكان والزمان ضمن الواقع الاستعماري، والتشوهات الحاصلة في علاقتنا مع المشهد الطبيعي بتغيراته. 

تنطلق التأملات في العملين المذكورين، والمعروضين في هذا المعرض، من فكرة متوازية لدى ميرلوبونتي ودولوز، وتعني أن "المعنى مباطن في المحسوس"، ذلك كون العمل الفني عبارة عن نظيرين متلازمين بين المدرك والمعنى، واللذين يستدعيان ما يسميه دولوز "صيرورة الترحال". 

في البداية، ربما تجدر الإشارة إلى أن اختيار هذين العملين للنقد لم يكن بقصدية اختيار المجموعة المعنونة في دليل المعرض بـ”المسافات وكل ما تبقى”، وإنما نتيجة لحضور اللايقين المرافق للحظة التصادم والتلقي من قبل العين الناظرة إلى العملين، والذي، أي هذا اللايقين، يظهر كحالة من تشوه في المشهد الطبيعي المقدم في العملين المذكورين لكل من طارق الغصين وجواد المالحي. 

يقدم دولوز الفن على أنه طريقة ماهرة لمد خطوط الحياة ورسمها، مضيفًا أنه لا بد ألا يستشهد الفن بعالم متعالٍ، بل بعالم نعيشه انطلاقًا من تكرارات الحياة اليومية. انطلاقًا من هذا التقديم، يمكن اعتبار العملين المشار إليهما هنا على أنهما يأتيان من بُعد "مفلسطن" في الإطار التاريخي والمعايش الراهن، ومن تكرارات الحياة الفلسطينية في أزمة استعمارها، مع اختلاف كل منهما في تقاطعهما مع "لحظة التعايش"، بين الفنان الذي يرسم مخيال المكان البعيد عنه، والفنان المأزوم من قربه من المكان نفسه. 

إنها لحظات تكرار واحدة، ولكنها تختلف من ناحية انضغاطها الزمني والدلالي عند كل منهما، في تمثيل الأزمة الهوياتية من خلال المشهد الطبيعي داخل الأعمال الفنية. ففي كلا العملين، وبالرغم من عرضهما في معرض "اقتراب الآفاق" على أنهما جزء من تمثيلات المشهد الطبيعي، إلا أن المشهد الطبيعي يختفي منهما، بل إن كلا العملين يظهران حالة من البحث عن المشهد الطبيعي، أو الخارج عن "الطبيعي" تبعًا لواقع الفنانين، ففيهما محاولة لرسم معالم العلاقة مع المكان، أو المشهد المتشظي بفعل الاستعمار الذي يضبط فضاء التدفقات داخل فلسطين، وبالتالي يخلق مجموعة مكثفة من المعازل، التي تفصل الأجساد لتتمركز في خواءات سياسية واقتصادية وقانونية وثقافية، بحيث تتشكل مشهدية ناقلة لحالة من شبه الوعي بالسلطة على الجسد وعلى حركته بين الحدود.

يقدم المالحي في العمل المشار إليه، "بعدين”، حالة معاصرة للاستجابات الحسية للواقع، ويأتي التأويل الأول هنا من العنوان "بعدين"، والذي يحمل جغرافية ذات بُعد زمني لا يقيني، بعد محو بعض تفاصيل المكان ما يوحي بفقدان بُعده الثالث المكاني، كما ويحمل شحنة لراهنية الواقع الفلسطيني الاجتماعي، المتمثلة بحالة "اللاسلم - اللاحرب" كفضاء بَينيّ (Liminality) يعايشه الفلسطينيون منذ العام 2006، بفعل تراجع المشروع السياسي الفلسطيني، والانسحاب منه. هذه الحالة التي خلقت إدراكات لمؤقتية دائمة، يُظهرها المالحي في خلفية رمادية بينية تمثل مشهدًا متكررًا للحياة الفلسطينية، يتوسطها ثلاثة رجال لا تختلف ألوانهم عن ألوان المشهد الرمادي خلفهم، ويمثلون حالة من انتظار الحدث؛ أياديهم مرتخية ومتصلبة في الوقت ذاته، يجلسون خارج الزمان والمكان، منتظرين العبور من هذه المرحلة إلى مرحلة أخرى، دون أن تكون هذه المعالم “الأخرى" ظاهرة في اللوحة، وهو ما يجعل هذا العبور عالقًا ولا يقينيًا في المشهد البيني. ويبقي المالحي فعل العبور هذا دون حركة أو محاولة لكسر اللون، بل يصبح فعلًا مشلولًا، ومسلوبًا من الجسد، وغير قادر على تحريك المكان والزمان.

إذن، تختفي من المشهد أنواع الحدود المكانية والزمانية، لكن أشكال الرجال الثلاثة تجعل المتلقي يموضعهم في الفضاءات العامة اليومية، دون تصوير هذه الأخيرة في اللوحة، وذلك جراء ألفة تكرارات الواقع المعاش البصري الفلسطيني، الذي يصطدم به الفنان والمتلقي سوية. إلا أن الحدود الزمانية - المكانية تظهر بشكل حاد في عنوان اللوحة "بعدين"، وهنا يظهر الإسقاط السردي المرافق للعمل الفني، والذي يكمل معانيه لحظة الخلق والتلقي المقابل. في كتابه "الكلمات والأشياء"، يقترح ميشيل فوكو أن اللغة موضوعة في العالم، وهي تشكل جزءًا منه في الوقت ذاته، وكذلك، فإن الأشياء نفسها تخفي لغزها وتظهره على شكل لغة، ولأن الكلمات تقدم نفسها للناس كأشياء فيتوجب فك رموزها. أما عن تحليل العلامات، فيضيف أن "كل تحليل للشارات هو فك رموز ما تريد الشارات قوله. وبالعكس، فإن إيضاح المدلول لن يكون شيئًا آخر سوى التفكير في الشارات التي تدل عليه". بالتالي، فالمعنى ما هو إلا مجموعة من الشارات المنتشرة، والشبكة الكاملة للشارات تترابط وتتمفصل حسب التقسيمات الخاصة بالمعنى. لذا، تظهر لوحة المالحي هنا كصورة، وعنونتها كنص، وتشكل مجتمعة مجموعة من التقاطعات بين الأشياء ومدلولاتها، والتي تتشابك نحو خلق معنى آخر.
 

بعدين- جواد المالحي


أما عمل طارق الغصين المعروض، والذي تركه دون عنوان، فإنه يتقاطع مع العمل السابق للمالحي في مفاصل عديدة، أهمها يكمن في البحث عن معبر، ولكن المعبر يتمظهر في عمل الغصين على عكس عمل المالحي، إذ ويشير إليه بواسطة منافذ بصرية ممكنة وواضحة تخترق الحدود المجردة في الصورة. إلا أن الاختراق ذاته يبقى عند الغصين في الوعي، وليس في حركة الجسد، لأن الجسد خلال لحظة تواجده في أعماله يبقى عالقًا ولا يعبر، أو يلقي بأثره الأزرق خلفه كمحاولة للعبور، حتى حد اختفاء هذا الجسد في المحاولة وبقاء أثره، وكأن العبور ممكن، ولكن الوصول لا يكتمل. إن الأزمة التي يصورها الغصين في أعماله الفنية تأتي مع محددات اجتماعية يرتبط فيها الفرد المخرج عن حدود وطنه، الذي يحاول تمثيل أزمة فقدانه باستخدام صحراء مفروضة، وخارجة عن ذاته المراد العبور إليها؛ هذه الصحراء الجافة التي فُقِدت فيها الذات بالرغم من تبليلها بالأزرق. يحاول الغصين أن يجانب لهويته مكانًا آخر بمسافات غير قابلة للقياس، ويعلقَ في وجهة يظن أنه اختارها. فتعيين الهوية بمركزيتها، أو بهامشيتها، أو بتثبيتها، هو على الدوام عودة لصورة الهوية التي تحمل علامة الانشطار في المكان الآخر الذي منه تأتي. إن ذلك الجو من الارتياب أو انعدام اليقين المؤكد الذي يحيط بالجسد، يشهد في نهاية المطاف على وجود هذا الجسد، ويهدد أوصاله بالتمزق. يمكن القول إن الغصين يصارع هنا سلطة الحد على جسده، وعلى تشكله الهوياتي، بحدية أنواع الفصل المادي وغيره، راسمًا كل شائكية عدم القدرة على الالتفاف، أو الزحف، طارحًا حفرًا في الأرض، أو انهيارات قد تشكل حلًا أو قبرًا. ويبقى السؤال هنا عائمًا بين فلسطنة الحد، أو عالميته، وما إذا أصبح التحليل للمحور الأول في العمل ناجم عن فعل مشاركته في المعرض، تبعًا لأنه تركه دون عنوان.

يحاورنا ديفيد هارفي في “حالة ما بعد الحداثة” عن محاولة السيطرة على الواقع، من آلية انضغاط الزمان والمكان في أعمال الفن ونقل الصور، ومن خلال تأسيس لغة وصور تتمكن من التعبير عن ذلك الواقع، ومنح الأمل بالسيطرة عليه، كجزء من تغير المشهدية في الحالة الثقافية. ففي هذا الانضغاط للحظية الزمانية والمكانية، يأخذ المعنى للمكونين السابقين بالتغير نحو الحركة وليس السكون بمعناه التأريخي، من خلال صيرورة الترحال لدلالات الإدراك وتمثلات معاني الواقع، وهو ما يظهر عند كلا الفنانين. فالعملية التعبيرية بصيرورتها، كذلك تبعًا لدولوز، هي "صراع ومقاومة... صيرورة... رسم لخرائط... وطرق للهروب"، ترسم كل مراحلها بشكل حلقات متداخلة لا تنتهي، لكون الترحيل وخروج المعنى عن الكادر غير متوقفة مع كل لحظة زمنية للرؤية، بل تأتي معها تكرارات مختلفة ممكنة. إن عملي الغصين والمالحي يحاكيان بدورهما تكرارات لمحاولات العبور نحو سبر الهوية وتجاوز حالة الفقدان، لإيجاد معبر يقيني يوصل الذات إلى مبتغاها، ألا وهو لحظة تعيينها في المشهد. وقد لا يقتصر الأمر على العملين المذكورين هنا فقط، وإنما على فكرة المعرض بأكمله، معرض "اقتراب الآفاق"، وحتى على وجود "المتحف الفلسطيني" في واقع مستعمَر، وذلك في محاولة تخيل سلب سلطة الاستعمار على تشكيل المشهد الفلسطيني الطبيعي، لتحقيق لحظة التعيين الفلسطيني على معنى الحركة، واستشراف الأفق، وذلك من خلال التركيبة الفنية واللغوية المعروضة داخل هذا المعرض، والتي تتجلى في حركة المعاني المنقولة عبر الأعمال الفنية، وفعل الترتيب اللغوي والمقاربات الفنية التي يقدمها المعرض، والتي نقلت للمتلقي المتنقل والممتلئ بكل دلالات تشكل الأعمال وترتيبها المعرضي، ليتملك بها ومعها سلطة الحركة، على الأقل ما بينها. 
 

عودة إلى برج بابل- جواد المالحي



هوامش

جواد المالحي ولد في القدس في عام 1969، ويعمل في مجالات الرسم والتصوير الفوتوغرافي والفيديو والتركيب الخاص بالموقع، وغالبًا ما يكتشف المجتمعات المهمّشة وعلاقتها مع بيئتها. حصل على درجة البكالوريوس في الفنون الجميلة من كلية وينشستر للفنون في بريطانيا.
طارق الغصين (1962)، هو فنان تشكيلي كويتي مقيم في دولة الإمارات العربية المتحدة من أصل فلسطيني، اشتهر بأعماله الفوتوغرافية التي تبلورت في البحث عن الهوية، وعلاقة الكائن بالمكان، سواء بأبعاده الواقعية أو الافتراضية.
دولوز، جيل، سياسات الرغبة، تحرير أحمد عطية، دار الفارابي، بيروت، 2011، ص 214.
دولوز، جيل، المرجع السابق، ص 219.
أليساندرو، بيتي، وآخرون، حالة الاستثناء والمقاومة في الوطن العربي، تحرير ساري حنفي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2010، ص 44-49.
مفهوم "Liminalty"، من خلال مراجعته الأنثربولوجية والسوسيولوجية لفهم المشاهدات والحوارات المعاصرة، يستخدم للتعبير عن مرحلة الانتقال بين المراحل الثابتة، من خلال فضاء مفاهيمي أو حدود مؤقتة يبتعد فيها الأفراد والمجموعات عن مجتمعهم. ففي البنية يكون المشاركون قد خسروا رمزيتهم الاجتماعية السابقة ولكنهم لم يجدوا تمثيلًا لرمزيتهم الحالية. راجعSkjoldager, Kim, and others, Liminality, Ecumenica (1-2). 2014, www.academia.edu
فوكو، ميشيل، الكلمات والأشياء، ترجمة مطاع صفيدي وآخرون، مركز الانماء القومي، بيروت، 1990، ص 52.
فوكو، ميشيل، المرجع السابق، ص 76.
فوكو، ميشيل، المرجع السابق، ص 76.
بابا، هومي، موقع الثقافة، ترجمة ثائر ديب، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2004، ص 110.
هارفي، ديفيد، حالة ما بعد الحداثة، بحث في أصول التغيير الثقافي، ترجمة محمد شيا، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2005، ص 402.
دولوز، جيل، مرجع سابق، ص 240.

كُتب هذا النص في إطار ورشة كتابة بعنوان "نقد الفنون البصرية: معرض اقتراب الآفاق نموذجًا"، من تنظيم المتحف الفلسطيني وبإشراف الكاتبة عدنية شبلي.