«وزير إعلام الحرب» لنبيل عمرو... بيان هزيمة وأمل على مرمى السمع

2020-02-28 00:00:00

«وزير إعلام الحرب» لنبيل عمرو... بيان هزيمة وأمل على مرمى السمع

على ماذا تعوّد العرب؟! هنا يأتي السؤال الذي يجر من ورائه عديد الأسئلة من قبيل: كيف يمكننا إيجاد المعنى في الأشياء؟ الحرب والهزيمة، الطارئ والأصيل، الوهم والحقيقة، القوة والادعاء إلى آخره من ثنائيات "يكون فيها الرضا، فعلُ تواطؤ مع الذات" كما يقول الراوي في مقام آخر، ص85.

إن كانت العلاقةُ بين الدال والمدلول، هي علاقةٌ تعسفيةٌ في بعض الأحيان، فإن العلاقة بين رواية «وزير إعلام الحرب» (دار الشروق 2019) وكاتبها نبيل عمرو، هي علاقة وطيدة الصلة يُمكنها أن تدخل في حيز علم العلامات والإشارات أو ما يسمى بعلم ""السيميائية"، ذلك لكون دال العنوان، يدل أو يُوهم القارئ على كنه الكاتب وهو السياسي والإعلامي ووزير الإعلام سابقاً.

والتعامل السيميولوجي مع النص في سياقه اللغوي، لم يأت على سبيل الاقتراح، ولكنه حضر بشكل فاعل من خلال السردية نفسها، والتي بخلافِ ارتباط عنوانها بكنه الكاتب كما أشرنا قبلا. فهي كذلك تقترح قرية "كفر عرب" بوصفها فضاء الحكاية، وهي قرية تقع شمال دلتا مصر، فيما يعد أحد أهم شخوص الرواية الحاضرين في خلفية النص، هو زعيم الأمة جمال عبد الناصر، غير أن اسم قرية "كفر عرب" كما يؤكد أستاذ الأدب المقارن في جامعة بيرزيت الدكتور إبراهيم أبو هشهش، يطلق على قرية "دورا - قضاء الخليل" وهي مسقط رأس الروائي، غير أن الإعلام هي مهنته الأولى.

من هنا يمكننا فهم طرحه البديع وهو يقول على لسان الراوي: "من تأسس وعيه بالأغنيات لا بد وأن يجد نفسه عارياً من اليقين" ص186، وجدلية اليقين والوهم، تعد مسارا أساسيا من مسارات هذا العمل السردي الذي يتخذ من حقبة ما قبل النكسة 1967، وهيمنة صوت العرب "أحمد سعيد" على أفئدة وعقول الجماهير العربية، بمبالغاته الإعلامية الشهيرة في سياق الصراع العربي الإسرائيلي، وصولا إلى ما سميّ بـ "الربيع العربي، وهي جدلية تُعتبر بشكل أو بآخر إحدى إشكاليات وسائل الإعلام الكبرى، باعتبارها أحد اهم أدوات تشكيل الوعي الفردي والجمعي سواء بالوهم أو باليقين، فضلا عن تأثيرها المباشر على السلوك الاجتماعي أو السياسي.

وعلى الرغم من خطورة هذا التأثير، إلا أن الرسالة الإعلامية تبقى بحمولتها الوطنية في القضايا الكبرى، إن صيغت بمهنية ونزاهة وتوزان، قادرة على رسم حدود العلاقة بين الفرد والجماعة، والجماعة والوطن، وهو ما يمكن أن نلاحظه في سؤال " موسى أبو علوان" أحد أبطال العمل للمجموعة المسماة في الرواية بـ" دوّاسي الظلمة": "هل تقبلون الموت كسارقي مواشي، أم كثوار؟"، ص192.

المقاربةُ السؤال هنا، تبدو للوهلة الأولى، مقاربةً ظالمةً أو يمكن وصفها بغير العادلة في أحسن الأحوال، ولكنها مقاربة وظيفية، تأخذنا مباشرة إلى ظلال الروايات الشعبية الشفوية المنقولة من جيل إلى جيل، وكيفية صياغتها وربما تداخل الموروث والمستحدث في طرحها، أو ضمير المنفصل والمتصل، وهو ما ورد في الرواية بشكل مكثف، حيث يظهر صوت الراوي باستخدامه للضمير المتصل، رديفاً لعلامات المكان والزمان.

وبالنظر إلى الحكاية الشعبية الشفوية في الرواية، نجد عمرو في سرديته يعالج عدة قضايا لا تمس القضية الوطنية الفلسطينية وحسب، ولكنه أيضا اشتغل على بُعد التراكيب الاجتماعية، وكذا البُعد القومي وتعاملنا الذهني معه، والأهم، البُعد الإعلامي وعلاقته بما وقع من أحداث في زمن الرواية، ولا يزال في زمن ما يسمى بـ "الربيع العربي"، فها هو استنباط أبو علوان بعد أن أوقف نعيم "الحلاق" دماً نزّ من جرح سطحيّ بأن حك الجلد بالشبّة، اختفى الدم والتأم الجرح قال الحلاق، فعلق أبو علوان: "العرب يا صديقي بحاجة إلى أطنان من الشبّة كي يتوقف نزيف جراح قلوبهم، رد الحلّاق: لا تقلق ستشفى جراحهم بسرعة فهم متعوّدون" ص113.

على ماذا تعوّد العرب؟! هنا يأتي السؤال الذي يجر من ورائه عديد الأسئلة من قبيل: كيف يمكننا إيجاد المعنى في الأشياء؟ الحرب والهزيمة، الطارئ والأصيل، الوهم والحقيقة، القوة والادعاء إلى آخره من ثنائيات "يكون فيها الرضا، فعلُ تواطؤ مع الذات" كما يقول الراوي في مقام آخر، ص85.

عمرو، وعلى لسان الراوي، حاول أن يرسم خطاً فاصلاً ما بين خطابي النصر والهزيمة، فاقترح عنوان "ليلة انقلاب الأثير"، وهي ليلة "الأكاذيب التي تكشفها الحقائق"، وهي نفسها ليلةُ ترنح المعنى في استبدال الحرب للحب بالخوف، لنجد بلاغة الفعل في مُعاناة الأثير من الفراغ الذي أحلّ أغاني من قبيل "السح الدح امبو" و"حبة فوق وحبة تحت" مكان أغاني كوكب الشرق "مصر التي في خاطري" و "أنت عمري" و"أهلا بالمعارك" لعبد الحليم حافظ.

هذا الفراغ إن أردنا تأويله، سنجده وقد جسدته الرواية في قصة غياب عبد المجيد منذ خمسين عاما، وهو الذي ذهب إلى الحرب ولم يعد، ولم يمت، ولم تُعرف أثاره، وتبدو شخصية عبد المجيد وكأنها تشير إلى "العرب"، لتكبر شقيقته "جميلة" التي تحيل إلى "فلسطين" فتتزوج وتنجب و"تسمي عبد المجيد الصغير، تشبثا بالذكرى من قبيل إجراءات منع النسيان" ص141، وكأننا بالروائي يشير إلى ما يمكن تسميته بالموات العربي طيلة خمسين عاماً، هي زمن احتلال إسرائيل للجزء المتبقي من فلسطين منذ العام 1967. بخلاف كارثة تحول الشعار، فمن شعار تحرير فلسطين، بات الشعار "إزالة آثار العدوان".

والإحالة وفق هذا التأويل تشير إلى انزياح المعنى الذي خلق شرخاً بين ماض وحاضر، وهو شرخ عميق، لا يمكننا التغافل عنه، وكذا الراوي وهو القائل: "حين لم يعد (عبد الشقي – وزير إعلام الحرب في الرواية) – قادراً على رفع نداء الله (....) كان الجدار الخلفي للسقيفة الطينية حاجزا ارتفع كثيرا ليفصل ماضي عبد الشقي عن حاضره"، ص152.

بقي أن نشير إلى البنى الحكائية لسردية "وزير إعلام الحرب" والتي اتسمت ببساطتها المفرطة، إلا أنها قدمت لنا "عمرو" الذي درس الحقوق في دمشق، وتخصص في الإعلام في القاهرة، وصدر له العديد من المؤلفات منها "ياسر عرفات وجنون الجغرافيا"، "أيام الحب والحصار"، "صوت العاصفة"، و"محمود درويش حكايات شخصية"، قدمته لنا السردية هنا، بوصفه روائياً مختطفاً لصالح السياسي، وهو ما أكد عليه الكاتب والأديب الفلسطيني الراحل خيري منصور في مقام سابق قائلا:" لقد سرقت منا السياسة مثقفاً واديباً يافعا كان من الممكن أن يكون راوي الحكاية الفلسطينية وسادنها الأول".

وعلى الرغم من وجع تبدل الأدوار في الحياة كما في الرواية، كأن يصبح الروائي سياسي، والمناضل والمطارد، مستشار أمن على سبيل المثال لا الحصر، ولأن "الإقرار بالهزيمة، لابدّ أنّ تترتب عليه إجراءات جراحية لا مناص من الإقدام عليها"، ص160، سنجد الروائي الذي يقر على لسان أحد أبطاله "مهنتي بعد الآن هي وطني"، ص164، يدفع بعد سؤاله الاستنكاري: "هل تقبلون الموت كسارقي مواشي، أم كثوار؟، باتجاه نهاية مفتوحة في إجابة تقول: "لن نتعجّل العمل، ولكن لا بد أن نعمل"، ص192. وكأني به وزير إعلام أقر بالهزيمة لينادي بالأمل على مرمى السمع.