عن الفرق بين فنّ السينما وأفلام الدعاية المُتقنة... «دروس فارسية» نموذجاً

2020-03-19 14:00:00

عن الفرق بين فنّ السينما وأفلام الدعاية المُتقنة... «دروس فارسية» نموذجاً

هذا لا علاقة له بالسينما. لكن، عند حضور السينما، لن تتمكّن النازية والصهيونية الإسرائيلية من إلغاء الفعل الجُرميّ لهما بحقّ أناسٍ ومجتمعات وثقافات وتاريخ وحياة.

قصص وخبريات ومرويات شفهية كثيرة تعتمل في ذاكرة اليهوديّ، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945). الموثّق كثيرٌ أيضاً. المحرقة النازية جريمة ماثلة في التاريخ والوجدان، اليهوديين وغير اليهوديين. قتلٌ يُرتَكب بسبب انتماء ديني أو إثني أو عرقي جريمة عنصرية، يُفترض أنْ يُحاكَم مرتكبوها، أخلاقياً وإنسانياً وقضائياً. لكن الاستغلال الدائم للجريمة على حساب أفعالٍ أخرى، ترتكبها الضحية التي تستغلّ الجريمة، يدعو إلى تساؤل ومحاسبة ونقاشٍ. جرائم النازيّ تُحَاكَم، وعلى جرائم ضحاياه، والجرائم المُشابهة كلّها، أنْ تُحَاكَم أيضاً.

هذه مسلّمات. الآلة الدعائية اليهودية/الصهيونية غير هادئةٍ في هذا المجال تحديداً. تستغلّ السينما لأغراضٍ غير سينمائية أحياناً، وإنْ يغلب الاشتغال السينمائي على نتاجات عديدة، حديثة وقديمة، معنيّة بالمحرقة. نتاجات أخرى تسقط في المبالغة البصرية، وتُسرف في ميلودراميّة بكائية مملّة وساذجة، وتنشغل عن الهمّ البصري، بجمالياته وفنونه وأدواته، فتكون النتيجة متوافقة و"بروباغاندا" باهتة، تتعالى على الجريمة وتأثيراتها، بحجّة أنّها (البروباغاندا) تريد تذكير العالم بالفعل الجُرميّ النازيّ. كأنّ العالم، أو معظمه على الأقلّ، ينسى هذا الفعل، وغيره من الأفعال المُشابهة، وبعض تلك الأفعال المُشابهة نتاج تصرّف أحفاد ضحايا النازيين. لكن، لعلّ العالم ينسى أو يتناسى، فالجرائم المُشابهة تزداد في أمكنةٍ كثيرة، وإنْ في فتراتٍ مختلفة. وتذكير العالم بها ضروري، لكن الانتقاء مُسيء لضحايا يُراد أنْ تُنسى الجرائم المرتَكَبة بهم، لمصلحة المحرقة النازية فقط.

كلامٌ كهذا متأتٍ من مشاهدة "دروس فارسية" (2019) للروسيّ الأميركيّ فاديم بيرلمان (مواليد كييف، أوكرانيا، 1963)، المعروض في برنامج "خاص بالبرليناله، غالا"، في الدورة الـ70 (20 فبراير/ شباط - 1 مارس/ آذار 2020) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي". فيلمٌ يستند إلى أحداثٍ حقيقية، مُوثّقة في رواية "اختراع لغة" (2004) للألماني فولفغانغ كولهاز (سيناريو إلْيَا زوفان). حكاية طريفة (في جوانب منها) رغم المأساة، ونصّ سينمائي عاديّ رغم أهمية القصّة وطرافتها. مسار هادئ لحبكةٍ تُروى تفاصيلها بهدوء بصري غير متكلّف، مع لقطات تُظهر آثار الخوف والألم والقهر والإذلال، الواضحة على أجساد يهودٍ معتقلين في سجنٍ نازيّ، وتُفرض عليهم أعمال السخرة، بانتظار تصفيتهم لاحقاً. مناخ درامي متوافق، في بداياته، مع الحالة المعروفة في التاريخ النازيّ وعلاقة الرايخ الثالث بالمسألة اليهودية، قبل أنّ يتحوّل هذا المناخ، في فصله الأخير تحديداً، إلى نواحٍ وبكائياتٍ مُسرفة بميلودراميّة فجّة ومتصنّعة ومتعالية.
 

schindler's list


يُذكِّر هذا بلقطات أخيرة في "لائحة شيندلر" (1993) لستيفن سبيلبيرغ، الفائز بـ7 جوائز "أوسكار" من أصل 12 ترشيحاً، أبرزها في فئات أفضل فيلم (سبيلبيرغ وجيرالد أر. مولن وبرانكو لوستنغ) وإخراج وتمثيل في فئتي أفضل ممثل أول (ليام نيسون) وأفضل ممثل ثان (رالف فينس). جمالية الفيلم، موضوعاً ومعالجة وتصويراً واشتغالات، مرتكزة على بناء درامي متماسك، يميل إلى بعض الانفعال من دون التمادي به. قصّته حقيقية أيضاً: الصناعي المسيحي أوسكار شيندلر (نيسون) وزوجته إميلي (كارولين غودال) يتمكّنان من إنقاذ نحو ألف يهوديّ بولنديّ، بعد إقناع الضابط النازي آمون غوث (فينيس) بحاجة "مصنع شيندلر" إلى اليد العاملة، والمصنع يزوّد النازيين بأدواتٍ يحتاجون إليها.

"السقطة" الميلودرامية الباهتة والنافرة في "لائحة شيندلر" تتمثّل في انهيار أوسكار شيندلر، مع نهاية الحرب العالمية الثانية، بسبب شعور يلمّ به، ويتمثّل بعدم تمكّنه من إنقاذ يهود آخرين من الموت. انهيار بكائيّ مملّ وساذج ومُبالَغ به، كتابة وأداء، ومع هذا لن يحول دون التمعّن في جماليات سبيلبيرغ وحِرفيته، التي تجمع عادة بين مسائل حسّاسة ومهمّة، ومعالجة عميقة ومُقنعة، ومنحى تجاري يجعله في المراتب الأولى في لوائح أغنى السينمائيين الأميركيين. مع فاديم بيرلمان، غير المتمكّن من بلوغ مرتبة الإبهار كما في سينما سبيلبيرغ، يحصل أمرٌ مُشابه: بعد انتهاء الحرب، وفرار الضابط النازيّ كلاوس كوك (لارس أيدينغر) إلى طهران، لتحقيق حلمه بامتلاك مطعم، يعثر جنود وضباط بريطانيون على الشاب البلجيكي اليهودي جيل، الذي يُعرف في المعتقل النازيّ باسم ريزا الفارسي (نَوِل بيريز بيسكايارات). في لحظة ما، يسألهم جيل عن وثائق نازية، له يدٌ في صُنعها، تتعلّق بلوائح اليهود المعتقلين قبل تصفيتهم في اللحظات الأخيرة. لكنّ أحداً لن يعثر عليها لأن النازيين أحرقوها قبيل فرارهم. عندها، وبانفعال ميلودراميّ ساذج ومملّ لشدّة ميلودراميته الفجّة، يبدأ جيل بذكر أسماء نحو 2400 مُعتقل، أمام دهشة البريطانيين وتعاطفهم وتقديرهم الصامت لـ"عبقرية" الشاب وقدرته على الحفظ.

هذا مقصود بالتأكيد. فـ"دروس فارسية" يريد تذكير العالم بأنّ اليهوديّ "حافظ الذاكرة"، ما يعني أنّه المؤتمَن عليها. والعالم، أو معظمه عل الأقلّ، مُدرك ذلك ومتفاعل مع ذلك، فالذاكرة لن تكون يهودية فقط، بل يجب أنْ تكون مُلك كثيرين معنيين بالتاريخ والجغرافيا والثقافة والحياة. ورغم أنّ الفيلم برمّته عاديّ، من دون أنْ ينتقص هذا من تلبيته الشرط السينمائي، فإنّ الميلودرامية، المطلوب منها إثارة عواطف وانفعالات (لعلّها تنجح في تحقيق ذلك مع مشاهدين مختلفين)، تُسيء إلى "الذاكرة" التي يبني بيرلمان نصّه الفيلمي عليها.
 

saul's son


النموذج المناقض تماماً يتمثّل بـ"ابن شاول" (2015) للهنغاري لازلو نيميس، الفائزة بالجائزة الكبرى في الدورة الـ68 (13 - 24 مايو/ أيار 2015) لمهرجان "كانّ" السينمائي. فيلمٌ موغل في كشف الجريمة النازية من دون إظهارها، مكتفياً بملامح وانفعالات، مشغولة بحرفية كبيرة، يُعبَّر عنها بالوجه والعينين وحركة الجسد والتفاصيل الجسدية المختلفة، الحاضنة الأكبر للحسّ الإنسانيّ إزاء الفعل الجرمي النازيّ. لا بكائيات ولا خطابية، ولا قول مباشر وتعبير فجّ. السينما مع نيميس سائدةٌ من بداية "ابن شاول" إلى نهايته، والتأثير طاغٍ إلى ما بعد النهاية.

يبدأ "دروس فارسية" باعتقال جيل وسَوقه، مع يهودٍ آخرين، إلى أحد المعتقلات، ذات يوم من عام 1942. في الشاحنة، وفي لحظات سريعة، يتبادل مع شابٍ آخر بعض الكلام، فيُقنعه الشاب بكتابٍ فارسيّ بطبعته الأولى الأصلية، مقابل طعام قليل يملكه جيل. هذا وحده كفيلٌ بإنقاذه من الموت. الآخرون يُقتَلون، وعند "اكتشاف" النازيين أنّ جيل فارسيٌّ (يُخبرهم أنّ اسمه ريزا)، ينقلوه إلى المعسكر، ويستلمه الضابط كوك. عندها، تبدأ اللعبة: كوك يريد تعلّم الفارسية، كي يغادر بلده بعد انتهاء الحرب، إلى طهران. وجيل/ ريزا يريد خلاصاً، أو تأجيلاً للموت على الأقلّ، فيعلّمه لغةً لا يُتقن حرفاً منها.

الذكاء اليهوديّ فاقعٌ في شخصية جيل/ ريزا. يُلقّن النازيّ كلماتٍ تلو أخرى. يدرّبه على نطقها. يجعله حافطاً لها. يحصل اصطدام بينهما، فريزا ينسى معنى كلمة، فيقول إنّ لها معنى آخر. لكن الأمور تستعيد هدوءها لاحقاً. أثناء ذلك، هناك شكوكٌ تنتاب جنوداً نازيين إزاء الشاب. ارتباكات ومحاولات كشفٍ وضغوط. نزاعات داخلية بين جنديات وجنود. عالم متوتر، والحياة فيه قاسية. تنتهي الحرب، ويُغادر كوك إلى طهران، ويكتشف في مطارها أنّ اللغة التي يُتقنها ليست فارسية، فيُلقى القبض عليه بسبب تلعثمه ومحاولته الفرار، بعد صدمة الاكتشاف. البريطانيون يلتقون جيل، الذي يبدأ تعداد الأسماء على مسامعهم.

التفاصيل التقنية محبوكة بشكلٍ مقنع، لكنها عادية وغير مُبهرة. اللغة السينمائية سلسة وبسيطة، من دون أنْ تفقد حيويتها كنصٍ يروي إحدى حكايات الجرم النازيّ. الأداء متساو بين لارس أيدينغر ونَوِل بيريز بيسكايارات. لقطات المهانة التي يتعرّض لها المعتقلون اليهود مشغولة بما يقتضيه فنّ الانفعال، لكن من دون مبالغة فاقعة. بعض توازن يحصل بين معاناة المعتقلين والضغوط التي تُصيب جنديات وجنود نازيين جرّاء تسلّط القيادة وقسوتها. لكنّ المشهد الأخير فاقعٌ في بكائيّته، ومزعج بسذاجته الانفعالية وافتعاله الإنساني والبصري.

الجريمة النازية ماثلة في التاريخ والوجدان والذاكرة. لكن التباكي اليهودي الصهيوني، لابتزازٍ غير منتهي، لن يحول دون تمييز نقدي بين سينما أصيلة وأفلامٍ يُمكن وصفها بالدعائية، وإنْ يكن بعض الدعائي راقياً، فنياً وجمالياً. ورغم الرقيّ الفني/الجماليّ، يصعب التغاضي عن مسألتين اثنتين: الجريمة النازية فعل مُدان، لكنّها لن تحول دون التنبّه إلى الجريمة الصهيونية الإسرائيلية، المستمرّة منذ عام 1948، بأشكالٍ مختلفة، وابتزاز الغرب برمّته أحد تلك الأشكال، تماماً كالجُرم اليومي بالفلسطينيين وفلسطين. 

هذا لا علاقة له بالسينما. لكن، عند حضور السينما، لن تتمكّن النازية والصهيونية الإسرائيلية من إلغاء الفعل الجُرميّ لهما بحقّ أناسٍ ومجتمعات وثقافات وتاريخ وحياة.