مأسسة الفن وإنتاج النقيض... مستشفى/سجن/مؤسسة فنية

2020-03-20 14:00:00

مأسسة الفن وإنتاج النقيض... مستشفى/سجن/مؤسسة فنية
أجساد مشوهة، مجموعة فناء، ٢٠١٩

الطريق نحو ترويض المفاهيم المطلقة شائكة وقاسية، وكل ما ينتج أثناء محاولة الترويض هذه يعيد تعريف هذه المفاهيم بشكل متكرر. فالروح، والحرية، والفن مفاهيم وأوعية خارجة عن منطق الحساب العلمي التقليدي، لذلك ستجد المفاهيم المطلقة شكلاً متجدداً خارج محاولات الهياكل المسيطرة لتأطيرها، أو تحييدها، أو فهمها كمّاً ونوعاً.

المستشفى 

فلننظر إلى المستشفيات، لنرى ما هي الأقسام الموجودة فيها؟ في الطوابق العليا، سنلاحظ قسم جراحة القلب، وقسم الأمراض الباطنية، وقسم الولادة والخُدج وغيرها من الأقسام المحددة شكلاً ووظيفة.

فلننظر الآن إلى الطوابق السفلية عن قرب؟ في مكان ما، بين الأبواب الزرقاء المتشابهة في الأسفل، سنمسك مقبض باب غرفة ثلاجة الموتى!

نلاحظ عند مراقبة التقسيمات المكانية في المستشفى أنه بالضرورة مؤسسة لا معتقدات فيها ولا عواطف زائفة. على تلك المؤسسة أن تكون عملياتية، مهنية، واضحة قدر الإمكان حتى تفلح محاولاتها الجاهدة للحفاظ على أرواح الآدميين قرب أجسادهم الهشة.

فمرض السكري هو مرض السكري أينما حل، وأعضاء الجسد هي أعضاء الجسد أينما حلت. على المستشفى ككل أن يحوي العديد من الأقسام المتخصصة بأعضاء جسد الإنسان حتى يؤدي وظيفته وهدفه المحدد بشكل فعّال، ذلك بما يشمل غرفة مخصصة لأجساد فشل المستشفى في الحفاظ عليها!

للحفاظ على هالة روح الآدمي قرب جسده، على الطبيب تحليل أعضائه الحيوية ودراستها منفصلة حتى يسهل فهمها، عليه اختبار حساسيتها وكيفية التعامل معها. كما عليه نزع كل ما هو مُسقط من مفاهيم مطلقة على الجسد.

علي الطبيب إسقاط الروح عنه.

على الطبيب الحذر، فعليه إسقاط الروح عن الجسد للحفاظ عليهما! 

عمليات الحفاظ على صحة الآدمي وصيانة هفوات ركاكة جسده تنتج بالضرورة أجساد ساكنة، فشلت المؤسسة في إصلاحها أو ترميمها بشكل مؤقت، ولذلك  في الحالة الرتيبة لمجتمع لا يخوض الحرب ستنتج المستشفيات العدد الأكبر من الموتى.

تنتج المستشفيات العدد الأكبر من الموتى كعارض لا مفر منه، فحتمية الموت تتزاوج مع العبء الذي فُرض على فكرة المستشفى ذاتها. لا يمكن لأي شعار، أو تصميم ذكي، أو لون مبهج أن يبعد فكرة الموت عن أروقة المستشفى.

كما قلت، فالمستشفى عمليّ، مهنيّ، واضح، وغرفة الموتى جزء من تركيبته الفعالة.

لا يمكن محاولة علاج المريض دون التنازل أمام حظوظ شفرة الجرّاح.  

المراهنة واجبة!

هل يمكن لمؤسسة معالجة مادة ما، دون المساهمة في إنتاج نقيضها كعارض جانبي؟ في وضعية المستشفى هي حالة حتمية. ولكن ماذا عن المؤسسات الأخرى؟ فلنلقي نظرة على مؤسسات ذات أهداف مختلفة؛ السجون، والمؤسسات الفنية.  

السجن

يقول الشاعر ريتشارد لوڤليس، في قصيدة "إلى أثينا، من السجن"

الحوائط الحجرية لا تصنع السجن،

ولا القضبان الحديدية تصنع القفص.

ملجئٌ للذهن البريء الهادئ،

إذا امتلكت في حبي حريةً،

وفي روحي حرية.

الملائكة وحدها. من تحوم في الأعلى،

تنعم بهكذا انعتاق.

مؤسسة السجن ورغم اختلاف مسمياتها فإن وظيفتها الأساسية هي عزل "المجرمين" المخالفين للعادات وادعاء تأديبهم بعيداً عن المجتمع للحفاظ عليه. هل ادعاء مؤسسة السجن بفعالية التأديب عبر العزل يحقق الهدف الذي أنشأت بسببه السجون؟  

لنلقي نظرة أخرى على القصيدة التي ترجمتها حسبما تواصلت مع صورها الشعرية.

يحاول  الشاعر الالتفاف على التعريف التقليدي لما هو سجن، فيتجاوز الحجر والحديد لما هو فوق-فيزيائي، فرغم إنكار الشاعر لمركبات السجن إلا أنه تخلى عن حرية جسده الفيزيائية وقايض المادة بالمادة ليتجاوزها، فصارت حينها المقاربة منطقية بين صومعة الناسك (الملجئ) وبين السجن، رغم اختيارية الصومعة وإجبارية السجن إلا أن الرابط المشترك بينهما هو تحييد الجسد. 

الحرية مصطلح مطلق خارج الجسد، والروح كذلك مطلقة خارجه، وبهما بنى الشاعر كياناً له منعتق عن المادة، وشبه كيانه المُحدث بكيان الملائكة التي تستقيم فكرتها خارج المادة والجسد أيضا.  تحررت روحه منفصلة عن ما هو مادة، أكانت تشكل المادة السجن أم تشكله هو.

لربما يخلق السجن نقيض هدفه في الحالات المشابهة، أو عوارض مفاجئة. ماذا لو كان السجين انطوائيا؟ ماذا لو كان ناسكاً؟ هل إقصاء الجسد له منفعة تأديبية أم فرصة للتحرر منه؟ ربما يخلق التعميم فرص شاذة للمختلفين عن ما هو سائد!

المؤسسات الفنية (مركز ثقافي، متحف، قاعة عرض، ...الخ)

الفن كما أحب أن يكون هو المرشح الذي يدفعنا إلى رؤية الواقع من زوايا مغايرة، سامحاً لنا باستكشاف مواقعنا من وجودنا وأسبابه، يخالف الرأي السائد بالضرورة ويحرض بشكل دائم على التغيير، هو محفزٌ مستتر في الأشياء، هو قراءات فردية مرتبكة وواثقة في الآن ذاته، هو إعجازي القراءة مستحيلٌ لولا سطوة الوقت.

هل يمكن لأي مؤسسة أن تمارس الفن بهذه الصورة؟ 

ما هي المساحات الرمادية بين المأسسة والفن؟ إن أخذنا بعين الإعتبار أن على المؤسسة الفنية توضيح المعايير الإدارية، والمالية، والفنية المتبعة بشفافية توافق هياكل السيطرة التقليدية. المؤسسة الفنية مجبرة على حساب إنتاجها وتقييم جودة عملها بشكل دائم، كيف لها أن تتماشى والفن إن كانت كذلك؟ 

المأسسة إن صح القول، سعي جماعي نحو تحقيق هدف معين وفق معايير تنظيمية خاصة بمجال الهدف، سواء أكانت المؤسسة مستشفى، أم سجن، أم مؤسسة فنية. يحضر تساؤل عن نوع الفن المتبنى إن كان نتاج سعي جماعي؟ هل الفن هو عدو المؤسسة بالتعريف؟ هل الفن قاصرٌ على القيام بذاته؟ هل هو رهين المشاريع الشمولية، أم هو مناورة داخلها؟

إن كانت هذه المؤسسات صانعة للفن أو الثقافة أو حتى مساهمة فيهما، فأنها حسب ظني تنتج العوارض بصورة أكثر رعباً من الأمثلة السابقة؛ المستشفى، والسجن. فالأهداف المرسومة للمستشفى والسجن أكثر وضوحاً وعملية من هدف المؤسسات الفنية، التي تتلاطم بين أمواج هياكل السيطرة التقليدية ورياح التغيير الحتمية المتمثلة بالفن.

لا أحاول النظر باستقطاب محدد الإجابات إلى وجود المؤسسات الفنية، كما أني لا أملك القدرة على إنكارها أو دعم وجودها، ولكن قلقي نابعٌ من عدم قدرتي على قراءة العوارض الجانبية التي تنتج عنها بشكل حتمي. 

الطريق نحو ترويض المفاهيم المطلقة شائكة وقاسية، وكل ما ينتج أثناء محاولة الترويض هذه يعيد تعريف هذه المفاهيم بشكل متكرر. فالروح، والحرية، والفن مفاهيم وأوعية خارجة عن منطق الحساب العلمي التقليدي، لذلك ستجد المفاهيم المطلقة شكلاً متجدداً خارج محاولات الهياكل المسيطرة لتأطيرها، أو تحييدها، أو فهمها كمّاً ونوعاً.

تحاول المستشفيات الحفاظ على الروح عبر ترميم هشاشة الجسد لتنتج الموتى بالضرورة،

وتحاول السجون عبثاً عزل "المجرمين" لتصبح صومعة النسّاك، حيث تتجلى حرية الانطوائيين.

وتحاول المؤسسات الفنية "تبني" الفن، ولكني خائف أبحث عن العوارض الجانبية!