كمال الجعفري: الرملة ويافا هما المكان الأول في عملي السينمائي

2020-04-25 00:00:00

كمال الجعفري: الرملة ويافا هما المكان الأول في عملي السينمائي
Credits: Aleks Stota

لا أعرف. ربما سيكون أهالي الحي مصدومين كونهم أصبحوا فجأة ممثلين. تظهر في الفيلم شخصيات توفيت، أو شخصيات معروفة، أطفال كبروا. سأرسله إلى أشخاص معينين ليشاهدوه لا شك. لكن لا أعرف إذا كنت سأنظم عرضاً لأهل الحي.

لا يمكن اعتبار فيلم "صيف غير عادي" لمخرجه كمال الجعفري مجرد قصة رجل ينصب كاميرا مراقبة ليعرف من الذي يقوم يضرب حجر باتجاه سيارته وكسر زجاجها، لأن عملية البحث هذه تصبح رمزية في مشوار تلصّص -نقي من المؤثرات- على حياة يومية تعج بالتفاصيل. 

يعيش العرب الفلسطينيون في الرملة في حي يسمى "الغيتو"، وهناك تحدث معجزة صغيرة تجمع أهل الحيّ في أيام معدودات من صيف العام 2006 وتلخّص جزءاً من حياتهم في شريط مصوّر. مادة تحتمل المزيد من التكوينات الفنية، والتحليلات الإنسانية. يصف الجعفري فيلمه هذا بأنه أفضل فيلم أخرجه حتى الآن، توليفة بصرية ولّدتها مادة قام والده الراحل بتوفيرها، مما يجعل العمل حالة استثنائية.

على الرغم من تشابه الأحداث اليومية لم يترك لي الفيلم مجالاً للعبث بمساره، فجلست وتابعت دقيقة بعد الأخرى منتظرة حدوث شي كبير، غير متوقع، صادم وربما خطير! لكن الحياة لم تخطط مسبقاً لذا واجهت إيقاعاً متكرراً لا يتّسم بأي تفصيل خارق، لكنه نجح مع ذلك في جعلي أتابع حتى آخر النص، ثم أعود في مشاهدة مجدّدة لأبحث عن شجرة التين وسائق الدراجة الهوائية وتحرك الظلال على محور ثابت بين سيارة بيضاء وشارعٍ محاذٍ.

يظهر التاريخ على المواد في الفيلم من العام 2006، متى تعرّفتَ على هذه المواد ومتى قررت تحويلها إلى فيلم؟

عندما عرفت عن وجود هذه المواد في منزل والديّ كان العام 2009 على ما أعتقد. شاهدت المواد وعرفت أن لها قيمة فقررت الاحتفاظ بها، لكن قيمتها ومعناها تغيّرا عندما توفيّ والدي، رأيت أنه من الممكن تحويلها إلى فيلم لأن الأوان قد آن لذلك.

ما هي الدوافع التي تجعل مخرجاً يستخرج مواد أرشيفية ويعيد صياغتها على شكل فيلم سينمائي؟

كانت لدي الكثير من الدوافع، العاطفي منها والمتعلق بوفاة والدي، وشعوري بفقدانه وفقدان الحي الذي ولدت فيه، فقدان المكان وطابعه. الفترة التي تم فيها تصوير المواد، المدينة والناس وارتباطي بهم كلها هي أمور تشجع على تكوين مادة فنية جديدة، خاصة وأني موجود اليوم في مكان مختلف وبعيد عن الماضي. في هذه الزاوية توجد طفولتي ولديّ ارتباط مع هذه التفاصيل، مع ذكرياتي وما أعرفه عن كل شخصية تظهر في الفيلم.

المادة سمحت لي بالتواجد من جديد في هذا المكان، وسمحت لي برؤية تفاصيل ما كنت لأراها لولا وجود الكاميرا وقدرتها الخارقة على تتبع كل التفاصيل، عشت شهراً كاملاً بتفاصيله الدقيقة في هذه الزاوية دون أن أكون هناك فعلياً.


ثم أضفت لكل هذه التفاصيل أصواتاً لتبدو حيوية أكثر؟ حقيقية أكثر؟

طبعا، الكاميرا تسجّل دون صوت، وقمت بإضافة كل صوت لأن طبيعة الفكرة هي فرصة لأقوم بعمل أحبه هو التحري، والأصوات هي عامل مساعد. حياة الناس مثيرة وغنية أكثر مما يمكن أن نتصور ولا يمكن معرفة تفاصيل دون ملاحقتهم والتحري عما يقومون به ضمن روتين الحياة اليومية. هكذا يمكن أن نكتشف عالماً بأكمله. 

عدم معرفة الناس في الشارع بوجود هذه الكاميرا ولّد لدي فكرة بأني سأرى حادثاً غير متوقع، ربما جريمة، كنت أشاهد بحالة تأهب!

أنا أعرف الحارة تماماً وأعرف ما يحصل هناك، وعندما بدأت مشاهدة المواد لم أكن أبحث عن حدث خارق، كانت تهمني شاعرية الحياة اليومية مثل الولد الذي يقف مع صديق ثم يفترقان ثم يعود إليه ويعطيه شيء ما ويغادران المكان سوياً، مثير جداً هذا الأمر بالنسبة لي. مشهد كهذا بصيغته الأصلية يملك قيمة سينمائية عالية، ووظيفتي كمخرج مشاهدة مشهد كهذا ودراسته. حتى يتكوّن فيلم يجب أن يضرب رجل حجراً باتجاه السيارة، وعملية إيجاده كانت صعبه، لكن خلال البحث عنه تكوّنت لدي قصص كثيرة عن عدد من الشخصيات، عثرت عن عدد هائل من القصص والتفاصيل. 

محدودية الزمان والمكان لم تخلق لديك شعور بالخوف من بحث المشاهد على حدث ما، استعجال في الوصول إلى حدث ما؟

هاجسي الأول في كل فيلم هو ما الذي أريد التعبير عنه. عملية البناء هي تشكيل فضاء ليتمكن المشاهد من العيش فيه، وكما كل شيء في الحياة هناك من سيُحب وهناك من لا يحب. ما يهمني هو اختيار مشاهد لها معنى بالنسبة لي، علاقة شخصية مع الحرص على أن يجد المشاهد ارتباطاً بالفيلم. صحيح أن للفيلم رمزية متعلقة بفلسطين لكنه يحاور كل إنسان، فهناك جملة تظهر في الفيلم وتقول: إن الحياة يجب أن تتوقف كي نعيد النظر فيها ثم تبدأ من جديد، هذه جملة أو فكرة تحاكي كل إنسان، وهذه مرحلة نعيشها اليوم رغم أني كتبت الجملة قبل الكورونا بكثير.

في نهاية الفيلم هناك نصوص كثيرة وغنية جداً بالتفاصيل والذكريات لكنك اخترت عدم التعبير عنها خلال الفيلم نفسه.

كل فيلم متعلق بالذكريات، لكن هناك تفاصيل مكتوبة لم تكن لها علاقة بسياق الفيلم نفسه. نظرتنا لأشخاص حولنا عادة تكون بلا تعمق والفيلم يأخذ المشاهد في رحلة نحو خلفية كل ما يحدث وكل شخصية وكل تفصيل. أفلامي تعيد صياغة لغة سينمائية وتعامل مع المواد وتطرح طريقة معينة للعمل الفني السينمائي المتعلق بالذاكرة.

ولهذا السبب اخترت أغنية الخلفية "مشوار اسمه الحياة"؟

لأن هذا فعلاً مشوار اسمه الحياة. عند البدء بالعمل على مشروع تتضح تفاصيل كثيرة متعلقة به ليكتشف الإنسان أنه عاش رحلة أو مشواراً. أعتقد أن الكورونا والتغييرات التي طرأت بسببها على حياة الناس تجعل التفكير في مشوار الحياة يتخذ بعداً آخر، كان لدينا حياة مختلفة. هنا يجب أن أذكر صوت ابنة اختي الذي يظهر في الفيلم وهي تعبر عن نظرة طفلة -غير ملوثة بتفاصيل الحياة الكثيرة- لعلاقتها الحميمة مع جدها وتفسيرها للأمور بجملة "كل الناس بتكبر".
 


اختيارك لتقريب وجوه بعض الشخصيات هي محاولة منك لخلق تواصل بيني كمشاهد وبينها؟

بفيلم 80 دقيقة لزاوية واحدة لا يمكن إلا إضفاء تنوّع بصري لإبقاء المشاهد مترقباً ومتابعاً. أنا شخصياً أعرف الشخصيات وتقريب الصورة هو جزء من عملية التحري التي ذكرتها سابقاً. هناك فن تشكيلي في الفيلم، رسم لذاكرة هذا المكان وهذه الناس. استذكار الأحداث والناس عادة هو غير واضح تماماً وبما أن الحديث عن استعادة ذاكرة فهناك تفاصيل قريبة لكنها لا تزال في عداد الذاكرة غير واضحة المعالم مئة بالمئة.

هذا الفيلم شخصي جداً ليس لك كمخرج فقط، للناس التي تظهر فيه أيضاً وهناك ضرورة للحفاظ على خصوصيتهم.

خصوصية الناس لم تنتهك، لأن تفاصيل الوجوه لم تكن ظاهرة والفيلم تعامل معهم بلطف واحترام كشخوص وتمحور حول ما يحدث بالمجمل في يوميات حياتهم. الفيلم بالنسبة لي هو أسلوب تعبير عن محبة لكل الناس التي ظهرت أمام الكاميرا بمن فيهم الشاب الذي رمى الحجر فخلق الإمكانية لهذا الفيلم أن يكون.

توقعت أن ينتهي الفيلم عندما اكتشفنا من رمى الحجر لكنك اخترت أن تستمر بعده.

بعد دقائق من بدء الفيلم يتضح للمشاهد أن القصة ليست إيجاد الشخص، ولا داعي للتوقف عندما نراه وهو يرتكب جريمته. متابعة المشاهدة بعد معرفة الشخص الذي نبحث عنه هي تحدي خضته خلال العمل على تركيبة الفيلم. ويسرني أن يتابع الناس ترقب الأحداث بعد ظهور الشخص ويتوقعوا سيناريوهات مختلفة ثم أعود بهم إلى أحداث عادية وربما رتيبة.
 


احكِ لنا قصة شجرة التين؟ هي شيء رمزي أم مجرد شجرة من خانة الذكريات؟ ولماذا اخترت أن تروي قصتها من خلال نص يظهر في نهاية الفيلم فقط؟

كانت هناك شجرة تين أذكرها جيداً في هذه الزاوية. لكن بما أن الأمكنة تتغير وتبقى صورتها في ذاكرتنا اخترت صياغة هذه الذكرى من خلال النص. إذا أمعنت النظر في نص النهاية فهو فيلم آخر داخل الفيلم يمكنه رؤيته بتشغيل مخيلتك. هناك قصص كثيرة يمكن تحويلها لمادة بصرية وهي مرجع وخلفية للمواد التي شاهدناها في الفيلم. هناك تراكمية في أعمالي منذ 15 سنة وهما الرملة ويافا، أعود إليهما كمكان أول في عملي السينمائي. 

الفيلم يصور مرحلة من الحياة في "غيتو الرملة" الذي خلقته السياسة الإسرائيلية ضد أهل الرملة العرب، لكنك فرضت علينا غيتو وسجنتنا 80 دقيقة في زاوية معينة بزمان معين!

لم أخطط لوضعك كمشاهد في هذه الوضعية، لكن ضمن مشوار الحياة الذي أتحدث عنه من الملفت أن الذين قُتلوا في الغيتو (في أوروبا) يفرضون على حياة الفلسطينيين أسلوب الغيتو حيث تقييد حركة الموجودين فيه وتحديد تصورهم للعالم. عند احتلال الرملة أطلق اسم غيتو على الحي العربي في الرملة وبقيت التسمية معنا إلى اليوم. هذا المكان منسي وهو ليس جزءاً من أي رواية، لم يُكتب عنه وهذه فرصة للحديث عنه من خلال الفيلم. كون الصورة محصورة  بزاوية معينة فهي تعكس قصة شعب محاصر. أنا أيضاً كنت موجوداً في غيتو لأن المواد التي توفرت كانت محدودة أيضاً لكني تمكنت من إعداد الفيلم الذي أريد.

يهمك أن يشاهد أهل الغيتو هذا الفيلم؟ هل سيكون له معنى عاطفياً بالنسبة لهم؟

لا أعرف. ربما سيكون أهالي الحي مصدومين كونهم أصبحوا فجأة ممثلين. تظهر في الفيلم شخصيات توفيت، أو شخصيات معروفة، أطفال كبروا. سأرسله إلى أشخاص معينين ليشاهدوه لا شك. لكن لا أعرف إذا كنت سأنظم عرضاً لأهل الحي.