وطن قومي لليهود... في أمريكا: "آرارات كنعان في جزيرة غراند"

2020-06-04 15:00:00

وطن قومي لليهود... في أمريكا:
Grand Island United States Post Office and Courthouse

وقع اختيار نوح على جزيرة غراند بسبب موقعها المميز والاستراتيجي سواء لولاية نيويورك او حتى لامريكا ذاتها، بسبب محاذاتها للحدود الكندية، إضافة إلى خصوبة ارضها واعتدال مناخها.

في سنة 1813 وصل شاب امريكي يهودي في السابعة والعشرين من عمره إلى تونس العثمانية التي كانت تحت حكم عثمان باي بن علي (احد ملوك الاسرة الحسينية)، ليستلم منصبه كقنصل أمريكا في المملكة التونسية. موردخاي مانويل نوح، وهذا اسمه والمولود في فيلادلفيا سنة 1785، كان قد بذل جهودا كبيرة قريبا من دوائر صنع القرار في واشنطن ليظفر بهذه الوظيفة. وكان مما قاله للرئيس الأمريكي آنذاك جيمس ماديسون لإقناعه بمنحه المنصب ان ديانته اليهودية سوف تساعده في مهمته لأنه سيكون في وسط أربعين الف يهودي في شمال افريقيا. بعد سنتين من عمله في تونس عزله وزير الخارجية جيمس مونرو عبر رسالة سوف تطبع مسيرة هذا الشاب السياسية والكتابية والفكرية فيما بعد، حيث قال الوزير إن التقدير الاولي في تعيينه لم يأخذ بالحسبان ان يهوديته سوف تكون عائقا في أدائه وظيفته على اكمل وجه. لا يُعرف على وجه الدقة ما الذي اخفق فيه نوح في تونس، لكن المهم في قصته هو ما قام به بعد عودته الى أمريكا، واستثماره لما تحصل عليه من خبرة وزيارات وعلاقات في أوروبا خلال الفترة القصيرة التي قضاها قنصلا في تونس. 

عززت قصة فشله في منصبه الدبلوماسي والمُسوغ الذي استخدم في إقالته من توجهاته القومية الدينية، وصارت تتنافس مع ليبراليته العامة التي كانت السمة شبه الغالبة لأوائل اليهود المهاجرين من أوروبا والمتأثرين بدعوات الاندماج في "الامة الامريكية". تبلورت عند نوح فكرة أخرى استحوذت على تفكيره، وهي شراء ارض كافية لإقامة كيان يهودي عليها ضمن الشكل الاتحادي الرسمي للولايات المتحدة، وقد يتطور هذا الكيان ليصبح ولاية كما هي بقية الولايات. ولتحقيق هذا الهدف استهدفت جهد نوح تحديدا جزيرة غراند Grand Island التابعة لولاية نيويورك والمحاذية لنهر وشلالات نياغارا على الحدود الكندية، وبالفعل نجح في شراء تلك الجزيرة في سنة 1824. وقع اختيار نوح على جزيرة غراند بسبب موقعها المميز والاستراتيجي سواء لولاية نيويورك او حتى لامريكا ذاتها، وبسبب محاذاتها لكندا، إضافة إلى خصوبة ارضها واعتدال مناخها. كانت الجزيرة أصلا موطن احدى قبائل الهنود الأصليين وقد اشترتها ولاية نيويورك منهم في ظروف ملتبسة، وكانت الولاية مهتمة بإستثمار وإعمار الجزيرة وعدم تركها من دون سكان، وهو الاهتمام الذي استغله نوح في محاولة اقناع قادتها ببيع الأرض له لإقامة مدينة عليها يكون سكانها من اليهود، وقد قدم الى مجلس الولاية طلبا بهذا الامر سنة 1820. وفي سياق محاولات اقناع الولاية ومن حوله بالفكرة ركز على ان مشروعه سوف يجلب إلى الجزيرة التجار والصناع والفنانين وأصحاب المال من يهود القارة الأوروبية، إضافة إلى خبراء الزارعة الذين سيحولون الجزيرة إلى مستعمرة مزدهرة. وأضاف نوح في مرافعاته لاقناع الولاية ببيعه الجزيرة ان وجود مستعمرة يهودية فيها سوف يعني إمكانية الدفاع عن ثغر حدودي متقدم وجاهز ضد أي هجوم بريطاني مستقبلي (من الجهة الكندية) من دون أي كلفة حقيقية على الولاية، حيث ستقوم المستعمرة بهذا الدور. وإثر مناقشة طلب نوح قرر مجلس الولاية تعيين لجنة خاصة لدراسة المُقترح، الامر الذي اعتبرته بعض الصحف آنذاك قبولاً اوليا بالفكرة، ومنها صحيفة ال Albany Daily Advertiser  التي نشرت مقالا في اليوم التالي للقرار يشير إلى اليهود سوف يتمكنون من بناء القدس الخاصة بهم وبناء هيكلهم بأمن وسلام في جزيرة غراند. وعلى الضفة الأخرى للمحيط الأطلسي كانت محاولات نوح تلقى صدىً معقولا لدى أوساط اليهود المتابعين لجهوده.

لكن قبل تطور تلك الاحداث وشراء الجزيرة بالفعل، من المفيد تتبع جذور الفكرة في رأس الشاب المتحمس ونضوجها، والتي يبدو ان التنظير الديني والقومي لها تولد لديه خلال رحلاته عبر أوروبا خلال وبعد عمله كقنصل لامريكا في تونس. واحدى اهم الرحلات التي كان نوح قد قام بها كانت الى بريطانيا وفيها التقى برجال دين مسيحيين من انصار فكرة إعادة اليهود الى فلسطين، واعتبار ان عودة "الشعب المختار" إلى "وطنه القديم" هي الخطوة الضرورية الاولى لظهور المسيح مرة ثانية. في لندن التقى قساوسة انجليكانيين معادين للرق وساهموا في الحملات لالغاء العبودية، وربط نوح بين تلك الحملات والدعم الذي تحظى به وفكرة "تحرير اليهود" وتجميعهم والدعم الذي يمكن ان تحظى به من قبل نفس الجهات. في نفس الفترة التي نشط فيها نوح في البلدان الأوروبية، كان هناك نشاط "جمعية لندن للتبشير باليهودية في اوساط اليهود"، والتي ترأسها القس لويس وي الذي كان مُتحمسا جدا لفكرة إعادة اليهود الى فلسطين، وقرر ان يسافر إلى روسيا ويقابل القيصر الكسندر لإقناعه دينيا بضرورة تحرير اليهود. وبالفعل سافر وي ومعه وفد ديني عبر أوروبا وقابل القيصر اربع مرات سنة 1808، وتحدث طويلا مع القيصر الذي كان متدينا آنذاك وشاركه الصلاة وتلاوة الانجيل، وناقشا معاً مصير اليهود. وقد اقترح القيصر منح اليهود ارضا في شبه جزيرة القرم، في أوكرانيا، لكن المشروع لم ير النور. الأهم من ذلك ان القيصر وجه دعوة إلى القس وي لحضور مؤتمر القوى الاوروبية الكبرى الذي سوف يعقد في نفس السنة، للترويج لفكرة تحرير يهود اوروبا في أوساط قادتها، ومنحهم حق المواطنة والمساواة في البلدان الأوروبية. كان القس قد اقنع القيصر بأن الخطوة الأولى لإعادة اليهود إلى "وطنهم القديم" تكمن في تأهيلهم حسب مبادئ الحضارة (الأوروبية) والمعرفة العامة، لأنهم لو عادوا الى "ارض إسرائيل" وهم على حالتهم تلك فإنه لن يستطيعوا حتى فلاحة الأرض. اعتبر القس وي انه قام بمهمته المقدسة بعد ان قدم مقترحاته للقادة الأوروبيين، وتوقع ان الامة اليهودية سوف تظهر للوجود خلال ثلاث سنوات بعد ذلك! 

وفي زيارات لاحقة لاكثر من بلد اوروبي وبعد تبلور فكرة المدينة اليهودية في جزيرة غراند وشرائه لها، وخلال لقاءاته مع يهود تلك البلدان كان يكرر على مسامعهم ان أمريكا تفتح أبوابها لليهود المضطهدين في أوروبا، وان "دولة يهودية جديدة" تعادل فلسطين في المساحة سوف تقوم في الولايات المتحدة، وتحت حمايتها. وفي سنة 1824 كانت معظم أراض الجزيرة قد بيعت تحت اشراف مجلس البلدية واشترى نوح من خلال احد المستثمرين الوسطاء ما يعادل الفي هكتار تحتوي اهم المواقع في الجزيرة والتي يمكن ان تُقام عليها مدينة تجارية. وفي شهر سبتمبر من نفس العام ذهب نوح ومعه مئات من مؤيدي الفكرة إلى الجزيرة واقاموا احتفالاً حظي بتغطية إعلامية كبيرة آنذاك لتدشين الحجر الأساسي ل "مدينة آرارات كنعان"، وهو الاسم الذي اختاره نوح. وآرارات هي المدينة القديمة (التي تقع اليوم في شرق الاناضول قريبا من حدود أرمينيا) والتي تقول الاسطورة ان سفينة نوح رست عليها بعد الطوفان! كما شهدت مدينة بافالو القريبة من الجزيرة حضورا احتفاليا لنوح حيث رافقته فرق موسيقية في مسيرة اتجهت نحو كنيسة المدينة، ومعها اعلن قيام "مدينة لجوء اليهود" في الجزيرة المجاورة. وفي مشهد يستدعي اسطورة الطوفان استأجر نوح مركبا ابحر فيه الى ارارات ووضع على ظهره أنواع مختلفة من الحيوانات والطيور، واسماه "سفينة نوح".

منح موردخاي نوح نفسه لقب ومنصب "قاضي إسرائيل" وزعيم آرارات، التي كانت ما زالت قيد التأسيس، واعتبرها المدينة التي تقوم فيها "حكومة الشعب اليهودي تحت رعاية وحماية دستور وقانون الولايات المتحدة"، وان رعاية الرب هي التي مكنته من إنشائها في أمريكا - "ارض اللبن والعسل". كما اصدر "اعلان استقلال" خاص به وبمدينته. وفي نفس الوقت أكد نوح ان هذا لن يعني نسيان الحلم اليهودي القديم بالعودة الى الأرض المقدسة، ارض الأجداد، حينما تسمح الظروف. ثم نصب نوح نفسه قائدا وراعيا ليهود العالم، وبدأ بإصدار تعليمات وفرمانات لجالياتهم، واعتبر ان زعمائهم في أوروبا نواب له، كما طالبهم بالصلاة في الكنس باللغة العبرية. ومن طرائف قراراته انه اصدر قرارا يحظر تعدد الزوجات على يهود شمال افريقيا الشمالية، وقرارا اخر اعتبر فيه الهنود الحمر في أمريكا من سلالة القبيلة الإسرائيلية الضائعة وبالتالي ضرورة أعادتهم إلى "شعب الله المختار". 

لم تحظ طموحات نوح وقراراته سواء في التوجه نحو إقامة مدينة آرارات كمركز ليهود العالم، او اعلانه تزعمهم وقيادتهم بموافقة او استحسان المنظمات والاصوات اليهودية المؤثرة سواء في امريكا او أوروبا. وتباينت المواقف من مشروعه ومن شخصيته أيضا، وهاجمه العديد من القيادات اليهودية واعتبره كثيرون تافها ومغرورا. واصدر بعض حاخامات المانيا وبريطانيا بيانات اتهمته بخيانة الوعد الإلهي لأنه تجرأ على محاولة بناء الامة اليهودية قبل عودة المسيح. بيد ان تأثيره وكذلك إعادة الإعتبار له في التفكير الصهيوني اللاحق حظي بإهتمام كبير، خاصة في المرحلة الثانية من حياته وبعد فشل مشروع آرارات. ففي هذه المرحلة ركز نوح جهوده على "عودة اليهود الى ارض الميعاد" ودعوة الدول الكبرى الى ضرورة مساعدة اليهود المضطهدين للحصول على وطن لهم كبقية أمم العالم. وفي عام 1844 وبعد ان اصبح ذا تأثير ونفوذ كبير كرجل اعمال ومؤسس لصحف عديدة وغيرها، صار يدعو لإغتنام فرصة ضعف الدولة العثمانية وارهاصات سقوطها، واحتلال مصر من قبل بريطانيا بما يسهل الوصول إلى فلسطين ومنحها لليهود. وإلى حين حصول ذلك دعا الى إمكانية الحصول على موافقة السلطان العثماني لإصدار تفويض يسمح لليهود بشراء فلسطين والبدء في إقامة مستوطنات زراعية فيها.