ذاكرة الأيدي في "إحكي يا عصفورة" لعرب لطفي

2020-06-05 13:00:00

ذاكرة الأيدي في
ليلى خالد

هذا المشهد الختامي المختصر يظهر كافتتاحية غنية بالتفاصيل في فيلم آخر لعرب لطفي بعنوان: "مرآة جميلة"، فنستدرك جميع الدقائق التي قُطعت بالمونتاج من الفلم الذي نتحدث عنه هنا.

معظمهن مدرسات أمسكن بالطبشور في أيديهن فلوثها غباره الأبيض، تلك الأيدي نفسها التي أمسكت السلاح، رزم المناشير وحقائب المتفجرات.

نسوة بألف رجل، وما يحتسب كنقطة لصالح معالجة فيلم "احكي يا عصفورة" لعرب لطفي، أنها استطاعت أن تظهر أيقونات المقاومة الفلسطينية في فترة الستينيات وبداية السبعينيات كنساء حقيقيات ينتمين إلى عالم الواقع الحياتي وليس إلى عالم الواقع الافتراضي وما بني حولهن من أساطير وخوارق.

استوقفتني الأيدي.. أيديهن. 

يدا ليلى خالد، تلك المرأة التي خطفت طائرتين واحدة عام 1969 وأخرى عام 1970، تنحني إلى أسفل مجلى مطبخ بيتها لتعبئ سكراً موجوداً في سطل، وتحضّر الشاي لضيوفها وهي ترتدي ثياب البيت.

لا تشبه أبداً صورتها في الجرائد وهي تضع الكوفية الفلسطينية وتحمل بندقية، فقط قسمات وجهها القاسية تتشابه بين الصورتين.

تتحدث للكاميرا عن طفولتها عام 1948 حين كانت تبلغ من العمر أربع سنوات، ذاكرة ضبابية لطفلة صغيرة لم تكن تدرك حينها معنى التهجير ومغادرة فلسطين إلى الأبد، طفلة تركض مع أطفال آخرين في حديقة بيت خالها في لبنان، وتحاول تسلق شجرة برتقال لتقطف واحدة، تستوقفها الأم قائلة:

- هذا البرتقال ليس لكم.. برتقالكم أنتم في فلسطين..

جملة حددت مستقبل خط حياة ليلى دون أن تدرك ذلك حينها.

أفكر بأصابع ليلى وهي تطرز قطعة كنفا في سكن المعلمات في الكويت، امرأة كباقي النساء باهتماماتهن المنزلية، تستمع للأخبار متيقنة من الانتصار في حرب الـ 67 وتستعجل أصابعها بالتطريز لتعلق قطعة الكنفا في بيتها، في حيفا، لكن الحرب تنتهي بهزيمة بدل النصر وينقلب الأمل إلى عدم القدرة على تصديق الهزيمة.

حيث تجلس ليلى في صالون بيتها في عمان، يظهر زوجها من باب المطبخ منتظراً أن تنهي مقابلتها كمشهد حياتي يومي في حياة أسرة عادية مستقرة، لكن حقائب السفر المرصوفة فوق بعضها في أحد الممرات الظاهرة للمشاهد توحي وكأن ليلى وأسرتها مستعدون للعودة إلى فلسطين في أية لحظة، ورغم صورة البيت بما يحمله من ألفة بأحواض الزرع التي تزين زواياه، ينتقل إلينا كمشاهدين شعور بعدم الاستقرار والمؤقت فيه. 

منزل قائم على ما يحمله من ذاكرة تلك الفترة، تتفرج ليلى مع طفليها الصغيرين على التلفزيون حيث تظهر العملية التي قامت بها، ثم نراهم يقلّبون صفحات مجلة قديمة.

نسمع صوت عرب:

_ شوف ماما كيف عم تنفذ العملية.

أيدرك هذا الطفل الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره ما فعلته أمه حقاً وكيف أثر ذلك على مسار التاريخ؟ 

سؤال طفولي طرحه عليها بعد أن سمع المعلمات في الروضة يتهامسن:

_ هل حقاً سرقتِ طائرة يا أمي؟

كيف ستشرح له ليلى ما فعلته، ولماذا؟

لكن ليلى تصر على جميع مواقفها، فحتى لو مازال طفليها صغيرين على إدراك ما حدث تظل تزرع فيهما فكرة أنهم سيعودون إلى فلسطين يوماً.. فلا يجب لهذه الفكرة أن تموت.

ليلى الأيقونة في فلم عرب امرأة عادية، يداها ترتبان البيت، تساعد طفلها على ارتداء ملابسه، تعتذر عن متابعة التصوير لتفتح الباب لزوجها وتأخذ من يده ما أحضره من أغراض، تحرك السكر في شايه لتضفي الحلاوة على الحياة المؤجلة والمؤقتة خارج أرض فلسطين التي خرجت منها طفلة عام 1948 ولم تشاهدها بعدها سوى مرة عام 1969 من نافذة الطائرة التي اختطفتها وحتى الآن.

أنا أيضاً شاهدت فلسطين مرتين، بدت حينها قريبة جداً بأضوائها المتلألئة على الضفة الأخرى للبحر الميت عام 2007، ومرة من الطائرة حين سافرت إلى الكويت عام 2015، رأيتها تماماً كما رأتها ليلى.

****

تجلس تيريز هلسة متربعة على فرشة في منزلها، لا تبدو متأنقة للقاء، بل امرأة عادية جداً تدخن سيجارتها وتمسك يدها بترمس القهوة المرة لتصبها لضيوفها، ومن لا يعرفها لن يستطيع تخيل أن هذه المرأة الصغيرة قد خطفت طائرة سابينا البلجيكية عام 1972 مع ثلاثة من زملائها، قُتل اثنين منهم أمام ناظريها، أصيبت بطلقتين وضربة سكين، وبالمقابل أطلقت النار على بنيامين نتنياهو الذي دخل الطائرة متنكراً بلباس الصليب الأحمر وأصابته، أطلقت النار عليه بيدها نفسها التي أمسكت بترمس القهوة وحركت السكر في الشاي وهدهدت أطفالها الثلاثة، لكنها لا تذكر ذلك.

حكم على تيريز بثلاث مؤبدات دفعة واحدة، لكنها رغم ذلك كانت متأكدة أنها ستخرج من السجن في يوم ما، وهذا ما حدث بالفعل حين أُفرج عنها في صفقة لتبادل الأسرى بعد عشر سنوات فاستطاعت أن تكمل حياتها كامرأة وأم، ولم تتخلى عن العمل السياسي النضالي بل سارت بالتوازي في كلا المهمتين.

امرأة صلبة جداً رغم هشاشة بنيتها استطاعت استعادة ما تبقّى من حياة وأمل بعد كل ما عايشته في سجنها الطويل وبقيت متوازنة.

****

رشيدة عبيدة امرأة بوجه ضاحك وعينين خضراوين مشاكستين، لا تستطيع الكلام إلا والبسمة ترتسم على شفتيها، ورغم ما تبدو عليه من وداعة ظاهرية فإن هذه المرأة التي تجلس أمامنا الآن مع زوجها وابنها شاركت في زرع المتفجرات داخل السوبر سول في القدس الغربية عام 1968.

تحدثنا رشيدة عن قصة حبها مع صبحي، الرجل الذي أصبح زوجها الآن، تضحك عيناها وتلامس يدها يده كلما أرادت التأكد منه عن تفاصيل تواريخ وسنوات وأحداث، ويعود بريق الحب لينير عينيها كلما التفتت إليه رغم مرور أكثر من خمسة وعشرين عاماً على بداية قصتهما.

كانت تعمل في البحرين كمدرسة، مثل ليلى، حين تحدثت مع حبيبها صبحي بعد النكسة وقال لها:

- علينا أن نصنع الحدث، لا أن نقف متفرجين عليه..

جملة واحدة رسخت في ذهنها فتركت البحرين، دخلت إلى الأراضي المحتلة، تدربت وشاركت في العملية العسكرية.

أربع شخصيات نسائية أخرى حكين حكاياتهن لنا ولعرب، عائشة ورسمية عودة، وداد قمري وأمينة دحبور، قامات كبيرة في تاريخ النضال الفلسطيني أجريت اللقاءات معهن في مكاتب رسمية أو مقرات كما ظهر من خلال الأفيشات المعلقة خلفهن، فافتقدت لحميمية المنازل بتفاصيلها والجو الأسري، ولكنها لم تُنقص من قيمة قوة وتأثير حكاياتهن.

مشهد الفلم الأخير حيوي جداً حيث يجمعهن بيت ليلى خالد، تلك الوجوه التي عرفناها من خلال الفيلم وأخرى لا نعرفها، جلسة نسائية حميمة، يدخّن ويشربن القهوة، أنيقات بتنانيرهن، تقوم بواجب ضيافتهن ليلى، لكن ليت المشهد استمر أطول لنتمكن من اكتشاف تفاصيلهن الإنسانية التي غفلنا عنها في المشاهد التي صوّرت في المكاتب.

هذا المشهد الختامي المختصر يظهر كافتتاحية غنية بالتفاصيل في فيلم آخر لعرب لطفي بعنوان: "مرآة جميلة"، فنستدرك جميع الدقائق التي قُطعت بالمونتاج من الفلم الذي نتحدث عنه هنا.

ابن ليلى يرتدي بيجاما ويلتصق بامرأة ما واضح أنه يعرفها بشكل جيد بينما أمه تحضر صحن فطائر من المطبخ، إحداهن تعبئ الماء في رضاعة طفلها، يدور نقاش سياسي بين النسوة بينما الأطفال في أحضانهن، فمعظمهن ورغم انتهاء فترة النضال المسلح ما يزلن يتبوأن مناصب قيادية في جبهة التحرير الفلسطينية أو مناصب أخرى تصب جميعها في هدف واحد: حق العودة إلى فلسطين.

قد يستغرب القارئ لم لمْ أذكر أي شيء بخصوص بنية الوثائقي الذي أكتب عنه، اللقطات، المدة وما إلى ذلك من معلومات تقنية، أو نقد سينمائي. لم أنوي ذلك منذ البداية فما لفتني في الفلم المنظور الآخر للمرأة والطريقة التي قدمت بها عرب لطفي ضيوف جلستها الحميمية، سلسلة متناقضات تكسر الصورة النمطية للمرأة المناضلة.

فالأيدي التي تطرز الكنفا، تحب، تعانق، تحضر الشاي وفطائر الزعتر وتعتني بالأطفال هي ذاتها التي تمسك الطبشور فيتحول العلم بين أيديهن لسلاح، أيديهن التي تحمل السلاح بواقعيته المباشرة في ذاكرة لمسية متناقضة كلياً مع دفء أيديهن.