ترد هذه القراءة درويش إلى سياقه الأدبي والتاريخي وتساءل الهوس في تقديسه الشاعر-النبي أو الشعر-الحكيم. مقالتها تستند على كتابها "تقويض المثقف العربي: النبوة، والمنفى، والوطن" (أدنبره، ٢٠١٧) عن علاقة الجيل الجديد من الكتّاب مع المتن الأدبي الحديث وعن خلعهم النبوءة عن المثقف العربي.
يبدو لمن واكب الردة الذكورية التي دارت حول محمود درويش في الآونة الأخيرة إثر نشر سليم بركات لمقالته عن أبوة الشاعر المزعومة كأنه آت من الماضي السحيق. الطابع الذكوري للنقاش والمغالطة في فهم وظيفة النقد كانتا العلامتين الأبرزين في عتق هذا الخطاب الذي لا يرى في سيرة محمود درويش غير تلك "الفراشات لا تتوانى عن الدوران حول هالته" كما هلّل شربل داغر. الموضوع كما أشارت سحر مندور فضَح ذكورية المثقف العربي وتساوي هويته بـ "الأدب– القضية– الأخلاق– الوعي– الأرض– الوطن،" المبنية على إقصاء المرأة. يتزاوج الحس الوطني لهؤلاء مع ذكوريتهم في كتابات تشبه النقد فيُقذف الحبر للجواب عن سؤال "كيف يتعامل المشاهير مع سوائلهم؟" كما سخر منهم صهيب أيوب. في خضم الجدال على ما إذا كان لمحمود درويش إبنة، أتت مقالة زينة الحلبي عن نبوءة محمود درويش لإعادة الخطاب النقدي إلى حيثياته الأدبية. صدف أن مقالة الحلبي عن درويش نشرت في نفس أسبوع الدوشة الذكورية حول الشاعر. تزامنت هذه الهبة الذكورية التي تستحضر نبوية الشاعر لتثبت أهمية تنظير الحلبي ونقدها للصورة القمعية للمثقف النبي. فمقالتها التي نشرتها على موقع الجمهورية مستقاة من كتابها عن المثقف العربي. وأما درويش، فهو ليس إلا فصل واحد في الكتاب. في هذه المقالة تقرأ الحلبي درويش كما تم استقباله في نص الفنانة عريب طوقان التي تسأل كيف وصلنا إلى هنا، إلى زمن الثورات المجهضة والمستقبل البائس؟ فتطرح الحلبي السؤال التالي: كيف كان المثقف نبيا بالأمس، و"ماذا يعني أن نقول إنّ المثقّف هو «الضمير والوعي» معاً"؟
ترد هذه القراءة درويش إلى سياقه الأدبي والتاريخي وتساءل الهوس في تقديسه الشاعر-النبي أو الشعر-الحكيم. مقالتها تستند على كتابها "تقويض المثقف العربي: النبوة، والمنفى، والوطن" (أدنبره، ٢٠١٧) عن علاقة الجيل الجديد من الكتّاب مع المتن الأدبي الحديث وعن خلعهم النبوءة عن المثقف العربي. بينما ينشغل النقاد الذكور بنسف النقد وتأليه الشاعر، تقدم الحلبي منظور جديد يساعدنا على تحليل تاريخنا النقدي وعلاقتنا بأسلافنا الأدباء و يتيح لنا بربط الأدب المعاصر بمن سبقه من نتاج ثقافي. تتحدى الحلبي في هذا الكتاب المفاهيم الضيقة عن الأنساق الأدبية وعن التصنيف الجغرافي للأدب وتتجاوز أيضا العواصم الثقافية في اختيارات النقاد للمواضيع الأدبية. تربط الحلبي الزمن التاريخي للأدب المعاصر وكتّابه بمن سبقهم من مثقفين وتعتمد منهجية نقدية تساءل إنتاج أدب يكتبه كتّاب عرب في سياق معولم في زمن الاضطرابات الثورية والهجرة القسرية.
تكمن أهمية كتاب الحلبي في قدرتها على انتقاء اختيار وترتيب العلاقات الأدبية بين جيل المعاصرين ومن سبقهم من مثقفين. تتخطى هذه الاختيارات المعتقدات السائدة عن الأدب العربي فتعيد ترتيب أفكارنا حول عن هذه التصنيفات على ضوء تشعب وتفرع أنواع الانتماء في حاضرنا هذا واختلاف أساليب التعبير في المتعلقة بالأدب العربي--في لغات متعددة ومن خلال أنماط أدبية مختلفة. لا مكان بعد اليوم لأنماط وقوالب زمن النهضة، والقومية العربية، والنضالات التحررية الوطنية، وشاعرية تراجيديتها. اليوم وبعد اندلاع الثورات العربية نبدأ مهمة البحث عن قوالب جديدة ومعاني جديدة قادرة على تخيلات سياسية جديدة وغير محددة سلفاً بحدود الوطن الجغرافية.
تعتمد الحلبي على تشبيك ممنهج يربط الأدب المشرقي العربي مع أنساق ثقافية ليس بالضرورة نصّية أو عربية. وتبين من خلال هذا التناص المتعدد الأوجه والمصادر أهمية تجاوز الافتراضات المسيطرة على الدراسة الأدبية والتي تمعن في إبقاء الدراسات الأدبية العربية خارج السياق التاريخي وبفهم ضيق للسياسة. تقوم الحلبي بوصل تاريخ الأدبي المعاصر بجذوره النهضوية التي كانت الحقبة المؤسِّسة في بلورة مفهوم المثقف النبي، ثم تحكم الإطار الزمني بالكاتب العربي المعاصر الذي ينتقد الصورة النهضوية للمثقف على أنه أيقونة متفردة تقود شعبها إلى المستقبل الموعود. تتناول الحلبي كتّابا تتقاطع تجاربهم في الحقل الأدبي، يسخرون ويتمردون على نفس النصوص ونفس المثقفين ويرفضون الانصياع إلى نبوءة المثقف كمرجع للسلطة الأدبية. من خلال منهجيتها التأريخية توضح الحلبي كيف يتقدم الأدب السياسة في قدرته على التخيل وبناء الصور التي تترجم وتتشكل سياسياً في فضاء المخيلة الأدبية. لا تطور الحلبي هذه خلاصة ولكنها تنبثق من قراءة هذا الكتاب في سياق الحركات الاحتجاجية في العالم العربي التي لا تنفك أن تنفجر منذ أواخر عام 2010.
تزاوج الحلبي بين جيل التسعينات من الكتّاب المشرقيين (والكاتبة السعودية صبا الحرز والمخرج الفلسطيني إيليا سليمان) الذين يكتبون بالعربية (وبالانكليزية كالكاتب راوي حاج) مع الأسلاف من جرجي زيدان إلى محمود درويش والياس خوري وادوارد سعيد وجبرا ابراهيم جبرا لتصف معالجات الجيل المعاصر الساخرة لمن سبقهم وتقويضهم لسطوة السلف على الحاضر. يسكن الكتاب المعاصرون زمن ما بعد الكارثة، تلك الكارثة التي تعصف بحياتنا في المنطقة. تناقش الحلبي هذه الزمنية بالنظر إلى التاريخ المشبع بالخسارة المتواصلة منذ النكبة. كما تعرض كان المثقفون الأسبقون يعوضون الخسارات الوطنية من خلال التوظيف الفعّال للأدب في صالح القضايا السياسية، هم يكتبون أدباً ملتزماً ومقاوماً وطامحاً بنصر معنوي. أما الكتّاب المعاصرون فهم مشغولون بلملمة التشرذم الزمني في واقعنا المعاش، ويرفضون اجتراح أي وظيفة وطنية هادفة للأدب ولذلك يقومون بتخريب تصويرات لخط بياني للتاريخ (teleological) عن شعب خاسر ولكنه يظل صامدا كما تصور المثقفون الأنبياء.
تحاكي الحلبي في عملها أفكار إدوارد سعيد عن المثقف، لا سيما كتابه "صورة المثقف." تشتبك مع فكره، تشاكس وتنتقد مناصرته للمسافة الثقافية القائمة على رفض المثقف للانضمام لأي جماعة أو حزب بعينه. يقوم دور المثقف عند سعيد على جدلية المسافة. فهو يجترح مسافة تفصله عن السلطة، مستوحاة من فكر أنطونيو غرامشي عن المثقف العمومي، public intellectual، من جهة، ومن جهة أخرى يستعير سعيد من جوليان بندا حاجة المثقف للإبقاء على مسافة معينة عن الناس ورفض الانتماء. ولكن كما تظهر لنا الحلبي فهناك بدائل لهذه الثنائية المتناقضة. تفكك الحلبي التوقع لدى غرامشي لأن يكون المثقف مستعدا لتولي مهمة التعليق على المجريات السياسية من أجل تمثيل شعب مقاوم. ولكنها أيضا تفكك وتنتقد احتفاء بندا بالمسافة، لتظهر تفاعل المثقف بتفاصيل الكارثة اليومية وجزئياتها في مجتمعاته.
نقدها الحاذق لمقاربات سعيد يتجسد في المفاهيم التي تأتي بها من خلال اختيارها للنصوص. في الفصل الذي تتناول فيه صبا الحرز خاصة، تفكك الحلبي تعامل سعيد من مفهوم النَسَب، filiation، في مقالته "عن النقد العلماني"، كمفهوم بنيوي عن الانتماء الأبوي. تستقرئ الحلبي الحرز من خلال انتسابها للمذهب الشيعي في المملكة السعودية (وكل ما في هذا النوع من الانتماء من عنف) وتزعم أنها تؤسس علاقات قرابة تتجاوز الحدود القُطرية في انشطار هوياتي لا يمكن تحليله من خلال أدبيات المنظور العلماني القومي المعتمَد لدى المثقف منذ النهضة.
يتسم حاضرنا كما تنظر إليه الحلبي بتراجيديا ما بعد الأوطان، post national، كواقع جديد يتمحور على تفكك علاقات النسَب والانتماء. تنبع كتابات الجيل الجديد من شعور عميق بخسارة الهوية المتماسكة والمتكاملة. هم لا ينفكون باستحضار شظاياها وتبيين شوائبها المتناقضة من خلال اشتباكهم مع من سبقهم من مثقفين عرب سخّروا أقلامهم من أجل الوطن. يتسم الجيل الجديد بهويات وانتماءات متعددة لا تلخص بالسياسة القوية والأمال في الوطن. فهذا الوطن كما تكتب عنه الحرز هو فضاء قمعي عميق التقعيد في قدرته على تأديب أفراده، خاصة النساء والكويريين والمنتمين إلى الأقليات منهم. تظهر الأعمال الأدبية المعاصرة كيف علاقات الانتماء للوطن كاتمة للاختلاف وقامعة للأهواء الفردية. تحاجج الحلبي أن ما قد ترتب في التزام سياسي في الأدب عند الجيل السابق من المثقفين، لا يمكن أن يقارب في زمننا الحاضر إلا عبر النقد: عبر قبول علاقات النسَب الأدبية التي تحدد المتن الأدبي في بادئ الأمر، ومن ثم القيام بتخريبه. تظهر الحلبي أن نقد المثقف النبي في الأدب المعاصر يتعمد تفتيت اللغة ليخرجها من قوالبها الجاهزة في السياسة وفي الأنماط الأدبية. يحتفي المعاصرون بهوياتهم المفككة في رفضهم التزامات سياسية تخط المستقبل بيانياً ولم تعد قادرة على توصيف المعاش في اعتمادها على التسميات القديمة.
يعكس أسلوب الحلبي في التحليل هذه التعقيدات، خاصة عندما تتحدى القارئ ليعيد النظر في الأفكار الجاهزة عما يمكننا أن نعده أدباً عربياً. في عصر العولمة، لا تلتقط المعتقدات التي تعود إلى عصر النهضة واقع قد تجاوز أولوية الانتماء الوطني وما نتج عنه من أنماط أدبية مقسمة على أسس جغرافية فارضة القالب الملتزم على الأدب. من خلال قراءة أعمال اللبناني-الكندي راوي الحاج و المخرج الفلسطيني إيليا سليمان تقدم الحلبي منطلقات أخرى للنقد الأدبي وما يجدر تناوله . كما تجادل، في حين أن كتابات وأفلام الحاج وسليمان لا تتناسب مع مفاهيم كلاسيكية للأدب العربي كحقل نصي حصريا يكتب باللغة العربية لا غيرها، فما يجعلهم كتّابا ينتمون إلى الأدب العربي يكمن في مشاكستهم لجبرا وسعيد، ولقدرتهم على توظيف النظرة النقدية إبداعياً في اشتباكهم مع المتن الأدبي السابق والمثبّت من قبل النخبة. تقارب الحلبي سليمان ككاتب من خلال تنشيط المفهوم الفرنسي للكلمة، auteur، والذي يضع السينما في نفس المرتبة المعنوية مع الكتابة. كما أن قراءتها للحاج، الذي يكتب بالانكليزية، تبرهن أهميته في دراسة الأدب العربي لأنه يعتمد على علاقات النِسَب الأدبية وإن كان هذا الاعتماد قلِقاً وجدالياً.
في اهتمامها بالمعاصرة وبتحليل الأدب الحداثوي العتيق من خلال الواقع الراهن تقترح الحلبي نظرية تأريخية تنظر للنصوص المكرسة من خلال تجاوزهم لحظة انتاجهم ضمن حقبة معينة لتساءل قدرتهم على التوريث وعلى تحفيز الخيال المعاصر في إعادة إنتاج وظيفة راهنة للأدب. هذه الوظيفة كما تثبت الحلبي هي وظيفة نقدية بامتياز، ودؤوبة في بحثها عن أشكال وتصنيفات ومفاهيم جديدة لتشتبك مع واقع راهن ومتن ثقافي موروث. من خلال تقفي الأنساب الأدبية تستعمل الحلبي منهجية قادرة على تحديد طرق مغايرة في قراءة الالتزام السياسي، يقترحها الكتّاب المعاصرون خصوصاً في تفاعلهم مع شوائب الانتماء والكتابة عن قضايا غير مريحة قومياً. وبينما يسخر الجيل الجديد من سلفه ويخرب عليه فردوسه القومي، تحدد الحلبي موقع المثقف النبي وتوضح مكانته في شبكة الأنساب الأدبية إن كان من منظور حاضرنا البائس، مبرزة لنا عقم ذلك الدور النبوي في تفعيل سلطته التمثيلية اليوم، لأنه لم يعد ممكناً للمثقف أن يقف منعزلاً مترفعاً عن الجموع، مدافعاً عنهم ومتحدثاً باسمهم في آن واحد. إنما قد أصبح هو السلطة التي يدعونا إدوارد سعيد أن نتوجه إليها بالحقيقة: أي أن نقوضها ونتحرر من قيودها.
ترد هذه القراءة درويش إلى سياقه الأدبي والتاريخي وتساءل الهوس في تقديسه الشاعر-النبي أو الشعر-الحكيم. مقالتها تستند على كتابها "تقويض المثقف العربي: النبوة، والمنفى، والوطن" (أدنبره، ٢٠١٧) عن علاقة الجيل الجديد من الكتّاب مع المتن الأدبي الحديث وعن خلعهم النبوءة عن المثقف العربي. بينما ينشغل النقاد الذكور بنسف النقد وتأليه الشاعر، تقدم الحلبي منظور جديد يساعدنا على تحليل تاريخنا النقدي وعلاقتنا بأسلافنا الأدباء و يتيح لنا بربط الأدب المعاصر بمن سبقه من نتاج ثقافي. تتحدى الحلبي في هذا الكتاب المفاهيم الضيقة عن الأنساق الأدبية وعن التصنيف الجغرافي للأدب وتتجاوز أيضا العواصم الثقافية في اختيارات النقاد للمواضيع الأدبية. تربط الحلبي الزمن التاريخي للأدب المعاصر وكتّابه بمن سبقهم من مثقفين وتعتمد منهجية نقدية تساءل إنتاج أدب يكتبه كتّاب عرب في سياق معولم في زمن الاضطرابات الثورية والهجرة القسرية.
تكمن أهمية كتاب الحلبي في قدرتها على انتقاء اختيار وترتيب العلاقات الأدبية بين جيل المعاصرين ومن سبقهم من مثقفين. تتخطى هذه الاختيارات المعتقدات السائدة عن الأدب العربي فتعيد ترتيب أفكارنا حول عن هذه التصنيفات على ضوء تشعب وتفرع أنواع الانتماء في حاضرنا هذا واختلاف أساليب التعبير في المتعلقة بالأدب العربي--في لغات متعددة ومن خلال أنماط أدبية مختلفة. لا مكان بعد اليوم لأنماط وقوالب زمن النهضة، والقومية العربية، والنضالات التحررية الوطنية، وشاعرية تراجيديتها. اليوم وبعد اندلاع الثورات العربية نبدأ مهمة البحث عن قوالب جديدة ومعاني جديدة قادرة على تخيلات سياسية جديدة وغير محددة سلفاً بحدود الوطن الجغرافية.
تعتمد الحلبي على تشبيك ممنهج يربط الأدب المشرقي العربي مع أنساق ثقافية ليس بالضرورة نصّية أو عربية. وتبين من خلال هذا التناص المتعدد الأوجه والمصادر أهمية تجاوز الافتراضات المسيطرة على الدراسة الأدبية والتي تمعن في إبقاء الدراسات الأدبية العربية خارج السياق التاريخي وبفهم ضيق للسياسة. تقوم الحلبي بوصل تاريخ الأدبي المعاصر بجذوره النهضوية التي كانت الحقبة المؤسِّسة في بلورة مفهوم المثقف النبي، ثم تحكم الإطار الزمني بالكاتب العربي المعاصر الذي ينتقد الصورة النهضوية للمثقف على أنه أيقونة متفردة تقود شعبها إلى المستقبل الموعود. تتناول الحلبي كتّابا تتقاطع تجاربهم في الحقل الأدبي، يسخرون ويتمردون على نفس النصوص ونفس المثقفين ويرفضون الانصياع إلى نبوءة المثقف كمرجع للسلطة الأدبية. من خلال منهجيتها التأريخية توضح الحلبي كيف يتقدم الأدب السياسة في قدرته على التخيل وبناء الصور التي تترجم وتتشكل سياسياً في فضاء المخيلة الأدبية. لا تطور الحلبي هذه خلاصة ولكنها تنبثق من قراءة هذا الكتاب في سياق الحركات الاحتجاجية في العالم العربي التي لا تنفك أن تنفجر منذ أواخر عام 2010.
تزاوج الحلبي بين جيل التسعينات من الكتّاب المشرقيين (والكاتبة السعودية صبا الحرز والمخرج الفلسطيني إيليا سليمان) الذين يكتبون بالعربية (وبالانكليزية كالكاتب راوي حاج) مع الأسلاف من جرجي زيدان إلى محمود درويش والياس خوري وادوارد سعيد وجبرا ابراهيم جبرا لتصف معالجات الجيل المعاصر الساخرة لمن سبقهم وتقويضهم لسطوة السلف على الحاضر. يسكن الكتاب المعاصرون زمن ما بعد الكارثة، تلك الكارثة التي تعصف بحياتنا في المنطقة. تناقش الحلبي هذه الزمنية بالنظر إلى التاريخ المشبع بالخسارة المتواصلة منذ النكبة. كما تعرض كان المثقفون الأسبقون يعوضون الخسارات الوطنية من خلال التوظيف الفعّال للأدب في صالح القضايا السياسية، هم يكتبون أدباً ملتزماً ومقاوماً وطامحاً بنصر معنوي. أما الكتّاب المعاصرون فهم مشغولون بلملمة التشرذم الزمني في واقعنا المعاش، ويرفضون اجتراح أي وظيفة وطنية هادفة للأدب ولذلك يقومون بتخريب تصويرات لخط بياني للتاريخ (teleological) عن شعب خاسر ولكنه يظل صامدا كما تصور المثقفون الأنبياء.
تحاكي الحلبي في عملها أفكار إدوارد سعيد عن المثقف، لا سيما كتابه "صورة المثقف." تشتبك مع فكره، تشاكس وتنتقد مناصرته للمسافة الثقافية القائمة على رفض المثقف للانضمام لأي جماعة أو حزب بعينه. يقوم دور المثقف عند سعيد على جدلية المسافة. فهو يجترح مسافة تفصله عن السلطة، مستوحاة من فكر أنطونيو غرامشي عن المثقف العمومي، public intellectual، من جهة، ومن جهة أخرى يستعير سعيد من جوليان بندا حاجة المثقف للإبقاء على مسافة معينة عن الناس ورفض الانتماء. ولكن كما تظهر لنا الحلبي فهناك بدائل لهذه الثنائية المتناقضة. تفكك الحلبي التوقع لدى غرامشي لأن يكون المثقف مستعدا لتولي مهمة التعليق على المجريات السياسية من أجل تمثيل شعب مقاوم. ولكنها أيضا تفكك وتنتقد احتفاء بندا بالمسافة، لتظهر تفاعل المثقف بتفاصيل الكارثة اليومية وجزئياتها في مجتمعاته.
نقدها الحاذق لمقاربات سعيد يتجسد في المفاهيم التي تأتي بها من خلال اختيارها للنصوص. في الفصل الذي تتناول فيه صبا الحرز خاصة، تفكك الحلبي تعامل سعيد من مفهوم النَسَب، filiation، في مقالته "عن النقد العلماني"، كمفهوم بنيوي عن الانتماء الأبوي. تستقرئ الحلبي الحرز من خلال انتسابها للمذهب الشيعي في المملكة السعودية (وكل ما في هذا النوع من الانتماء من عنف) وتزعم أنها تؤسس علاقات قرابة تتجاوز الحدود القُطرية في انشطار هوياتي لا يمكن تحليله من خلال أدبيات المنظور العلماني القومي المعتمَد لدى المثقف منذ النهضة.
يتسم حاضرنا كما تنظر إليه الحلبي بتراجيديا ما بعد الأوطان، post national، كواقع جديد يتمحور على تفكك علاقات النسَب والانتماء. تنبع كتابات الجيل الجديد من شعور عميق بخسارة الهوية المتماسكة والمتكاملة. هم لا ينفكون باستحضار شظاياها وتبيين شوائبها المتناقضة من خلال اشتباكهم مع من سبقهم من مثقفين عرب سخّروا أقلامهم من أجل الوطن. يتسم الجيل الجديد بهويات وانتماءات متعددة لا تلخص بالسياسة القوية والأمال في الوطن. فهذا الوطن كما تكتب عنه الحرز هو فضاء قمعي عميق التقعيد في قدرته على تأديب أفراده، خاصة النساء والكويريين والمنتمين إلى الأقليات منهم. تظهر الأعمال الأدبية المعاصرة كيف علاقات الانتماء للوطن كاتمة للاختلاف وقامعة للأهواء الفردية. تحاجج الحلبي أن ما قد ترتب في التزام سياسي في الأدب عند الجيل السابق من المثقفين، لا يمكن أن يقارب في زمننا الحاضر إلا عبر النقد: عبر قبول علاقات النسَب الأدبية التي تحدد المتن الأدبي في بادئ الأمر، ومن ثم القيام بتخريبه. تظهر الحلبي أن نقد المثقف النبي في الأدب المعاصر يتعمد تفتيت اللغة ليخرجها من قوالبها الجاهزة في السياسة وفي الأنماط الأدبية. يحتفي المعاصرون بهوياتهم المفككة في رفضهم التزامات سياسية تخط المستقبل بيانياً ولم تعد قادرة على توصيف المعاش في اعتمادها على التسميات القديمة.
يعكس أسلوب الحلبي في التحليل هذه التعقيدات، خاصة عندما تتحدى القارئ ليعيد النظر في الأفكار الجاهزة عما يمكننا أن نعده أدباً عربياً. في عصر العولمة، لا تلتقط المعتقدات التي تعود إلى عصر النهضة واقع قد تجاوز أولوية الانتماء الوطني وما نتج عنه من أنماط أدبية مقسمة على أسس جغرافية فارضة القالب الملتزم على الأدب. من خلال قراءة أعمال اللبناني-الكندي راوي الحاج و المخرج الفلسطيني إيليا سليمان تقدم الحلبي منطلقات أخرى للنقد الأدبي وما يجدر تناوله . كما تجادل، في حين أن كتابات وأفلام الحاج وسليمان لا تتناسب مع مفاهيم كلاسيكية للأدب العربي كحقل نصي حصريا يكتب باللغة العربية لا غيرها، فما يجعلهم كتّابا ينتمون إلى الأدب العربي يكمن في مشاكستهم لجبرا وسعيد، ولقدرتهم على توظيف النظرة النقدية إبداعياً في اشتباكهم مع المتن الأدبي السابق والمثبّت من قبل النخبة. تقارب الحلبي سليمان ككاتب من خلال تنشيط المفهوم الفرنسي للكلمة، auteur، والذي يضع السينما في نفس المرتبة المعنوية مع الكتابة. كما أن قراءتها للحاج، الذي يكتب بالانكليزية، تبرهن أهميته في دراسة الأدب العربي لأنه يعتمد على علاقات النِسَب الأدبية وإن كان هذا الاعتماد قلِقاً وجدالياً.
في اهتمامها بالمعاصرة وبتحليل الأدب الحداثوي العتيق من خلال الواقع الراهن تقترح الحلبي نظرية تأريخية تنظر للنصوص المكرسة من خلال تجاوزهم لحظة انتاجهم ضمن حقبة معينة لتساءل قدرتهم على التوريث وعلى تحفيز الخيال المعاصر في إعادة إنتاج وظيفة راهنة للأدب. هذه الوظيفة كما تثبت الحلبي هي وظيفة نقدية بامتياز، ودؤوبة في بحثها عن أشكال وتصنيفات ومفاهيم جديدة لتشتبك مع واقع راهن ومتن ثقافي موروث. من خلال تقفي الأنساب الأدبية تستعمل الحلبي منهجية قادرة على تحديد طرق مغايرة في قراءة الالتزام السياسي، يقترحها الكتّاب المعاصرون خصوصاً في تفاعلهم مع شوائب الانتماء والكتابة عن قضايا غير مريحة قومياً. وبينما يسخر الجيل الجديد من سلفه ويخرب عليه فردوسه القومي، تحدد الحلبي موقع المثقف النبي وتوضح مكانته في شبكة الأنساب الأدبية إن كان من منظور حاضرنا البائس، مبرزة لنا عقم ذلك الدور النبوي في تفعيل سلطته التمثيلية اليوم، لأنه لم يعد ممكناً للمثقف أن يقف منعزلاً مترفعاً عن الجموع، مدافعاً عنهم ومتحدثاً باسمهم في آن واحد. إنما قد أصبح هو السلطة التي يدعونا إدوارد سعيد أن نتوجه إليها بالحقيقة: أي أن نقوضها ونتحرر من قيودها.