واقعية محمد خان الماكرة الساذجة

2020-07-26 01:00:00

واقعية محمد خان الماكرة الساذجة

تراجعت سوية أفلام محمد خان منذ التسعينيات: بقيت كاشفة ولماحة، ولكنها فقدت شيئاً من سحرها الخالص. لا أعرف السبب. كما تورّط، سامحه الله، في فيلم ممل لا حاجة له عن الرئيس الراحل محمد أنور السادات. باستثناء هذا الفيلم/الغلطة، بقيت كل الأفلام تشع بالواقعية الماكرة. 

"أنا هلعب مع الخسران"

عادل إمام / فارس، فيلم "الحرّيف".

قال داوود عبد السيد، الذي لم يخرج أفلاماً واقعية، "إن الواقعية كانت ساذجة قبل محمد خان". للواقعية، إذن، أشكال مختلفة، وأفلام محمد خان تمثل نموذجاً من المكر الذي يمارسه المخرج بحنكة. المكر يتجلى في شخصياته النسائية الطيبة الحيوية، التي تحاول العيش كما تريد. ينجح خان في تصوير الطيبة الساذجة التي تحارب، وقد لا تنتصر. 

المرأة التي تحاول أن تعيش وفقاً لرغباتها الشخصية، موضوع شغل الواقعيين كثيراً: الروايتان اللتان جسدتا قمة الواقعية في القرن التاسع عشر، "مدام بوفاري" و"آنا كارنينا"، تعالجان الموضوع: تفشل البطلتان، وتنتحران. الواقعية ترضخ لنوع حساس من التشاؤم. الفارق يكمن في نظرة كلية للحياة: الروسي، ليو تولستوي، يحب أبطاله، ويحب الحياة، ويحب روسيا؛ الفرنسي، غوستاف فلوبير، لا يحب شيئاً، إلا الفن. أفلام خان شجية عموماً، ولكنها أقل تشاؤماً؛ ربما لأن العرب نادراً ما ينتحرون. يتكرر الموضوع نفسه ليشكل محور بعض أفلام خان: "أحلام هند وكاميليا" و"زوجة رجل مهم" و"سوبر ماركت" و"بنات وسط البلد" و"فتاة المصنع"؛ وفي بقية الأفلام، بشكل أقل: "عودة مواطن"، "الحرّيف"، "طائر على الطريق"، وغيرها.

تعيش النساء، اللواتي لا يتمتعن بحس سياسي أو نسوي ملتزم عال، أي أنهن بهذا المعنى "عاديات"، كل يوم محاولة التغلب على كل ما يحصل. لسن متمردات، لسن ثائرات. وهنا تكمن عذوبة خان، في رؤيته للعادي الواقعي هذه: العادي الذي يريد ما وراء العادي: ترغب النساء في أفلامه في حياة أفضل، ويسعين ليفهمن العالم، مع إصرارهن على النظر أبعد: العادي اليومي، في أفلام واقعية تماماً، يحلّق وراء العادي، يريد أن يثور ويتمرد بتلقائية. بل، أكثر من ذلك، تعطي النساء معنى للحياة، لهن ولغيرهن أيضاً: للرجال حولهنّ؛ كأنهن، ببساطة وعفوية، يعدن رسم خارطة القيم والمعاني. المعنى الذي يدافعن عنه بسيط مباشر حساس، وواقعي. الواقعية، بمزيج من المكر والسذاجة، تصور محاولة الناس أن يعيشوا حياتهم اليومية بدون أن يسقطوا. 

يتجلى المكر في الحبكة (أو غيابها شبه الكلّي)، في الصورة والابتسامة والمشاهد الخارجية والداخلية الصامتة، في كل جملة قيلت أو لم تُقل: لا يوجد واقعية متروكة وحدها كي تصوّر الواقع: كل شيء واقعي، ولكنه محسوب بدقة ورقة. ولكن السذاجة تملأ أفلامه، إلى درجة نكاد لا نصدّق فيها طيبة هؤلاء الذي نراهم يصارعون على الشاشة، بل نتمنى أحياناً أن يتراجعوا قليلاً ويفاوضوا، أن يستريحوا قليلاً من الهمّ، من الحياة نفسها.

 تتجلى السذاجة، إذن، في الناس: أفضل ما قدمه محمد خان للسينما يكمن في هذه القدرة المذهلة على رسم السذاجة بمكره الحساس، بتصويره غير الساذج للسذاجة: كما نراه في استمتاع ميرفت أمين/ منى -على الرغم من كل شيء- بأغاني عبد الحليم حافظ في "زوجة رجل مهم"، في عشق عادل إمام/ فارس لكرة القدم في "الحريف"، في الشره الهمجي المحبب الصادق للطعام في "خرج ولم يعد"، على سبيل المثال.

على الضفة الأخرى، وعلى العكس مما يتوقع المرء، لا يبدو الرجل شريراً في أفلام خان: أحمد زكي/ عيد في "أحلام هند وكاميليا" وعادل إمام/ فارس في "الحريف"، بل حتى الضابط في "زوجة رجل مهم": متعبون عنيفون، جهلة، سذّج أيضاً. بل، وبواقعية يُحسد عليها، يصورهم كمزيج من الضحية والمذنب. يتتبع خان الرجال في محاولاتهم الغبية النزقة المتعبة للخروج من المأزق: من عالم يحكمه الذكور، ويسحقهم. 

في معظم أفلامه قصص حب: أغلبها فاشل، أو، بأفضل الأحوال، مرتبك مشوش: لا يوجد قصة حب بسيطة وناجحة ومشجعة. الفاشل منها يموت بقسوة: كما في "زوجة رجل مهم" و"فتاة المصنع"، والمرتبك يقول إن الحب لا يعني أن يعيش الناس في "تبات ونبات": كما "في الحريف" و"أحلام هند وكاميليا". الحب أشبه بكارثة، أو عاصفة: غير ممكن وحزين وبائس. القصة الوحيدة الناجحة تقتضي خروجاً كاملاً من جلدك، كي تستسلم للعالم الجديد الذي يعيش فيه الحب، أي في "خرج ولم يعد".

بالطبع، خان أقرب إلى تولستوي الواقعي: يحب شخصياته، يحبها ويتعاطف معها ويغضب منها. ينتشر بين الكثير من الواقعيين نوع من الحياد العاطفي، أعلى من شأنه فلوبير وطبّقه بجدية إميل زولا. كما نراه بوضوح في "الواقعية القذرة"، وفي أعمال أليس مونرو: على العكس تماماً، تولستوي، كخصمه دوستويفسكي وقبلهما إيفان تورغينيف، يتورطون عاطفياً مع أبطالهم: كذلك يفعل ياسوناري كاواباتا ومواطنه ياسوجيرو أوزو. خان واحد من أولئك الذين يحبون الناس، ويحبون الحب، عارفاً أن الناس متعبون تائهون مشوشون، وأن حبهم مرهِق مرهَق قاس حزين شرس.

على العكس من داوود عبد السيد، الذي يرسم صورة شاملة للبلد مليئة بالرموز، يكتفي محمد خان بصور شخصية بسيطة لأشخاص عاديين: بالرغم من ذلك، تكاد تعكس واقعية محمد خان لا-واقعية داوود عبد السيد: في النهاية تتكامل الصورتان: الصورة التي يرسمها عبد السيد تتطابق مع صورة خان لمصر. 

تراجعت سوية أفلام محمد خان منذ التسعينيات: بقيت كاشفة ولماحة، ولكنها فقدت شيئاً من سحرها الخالص. لا أعرف السبب. كما تورّط، سامحه الله، في فيلم ممل لا حاجة له عن الرئيس الراحل محمد أنور السادات. باستثناء هذا الفيلم/الغلطة، بقيت كل الأفلام تشع بالواقعية الماكرة. 

لا يوجد تفاؤل ساذج وبطل يعي هموم الطبقات أو يجب أن يعيها، وغير ذلك من خزعبلات الواقعية الاشتراكية، التي ترد في بعض أفلام صلاح أبو سيف. كذلك، واقعية خان تفترق عن واقعية يوسف شاهين المبكرة اليسارية، البسيطة والمباشرة. محمد خان أعاد تعريف الواقعية: لا شيء بسيط ولا شيء مباشر، حتى في الشكل الذي يبدو بسيطاً ومباشراً. ولكن، في معظم أفلامه، تفاؤل يطلّ في النهايات بخجل وتردد، كأنه بطل مثخن بضربات الرماح. يتشابك التفاؤل بالتشاؤم: في الرقصة الأخيرة لفتاة المصنع، في مشهد هند وكاميليا تلعبان كالأطفال على شاطئ البحر، في الكرة القماشية التي يصارع من أجلها الحريف كي يسجل هدفاً للخاسرين في حياة لا ينجح فيها الطيبون والشكاكون: يتشابك التفاؤل بالتشاؤم: أليس هذا هو الواقع الحي؟

بدون موضوعية إطلاقاً، ولأسباب شخصية بحتة، أعتقد أن "خرج ولم يعد" أجمل أفلامه: الفيلم الذي يعرض للريف والمدينة بسحر وجمال لا مثيل لهما، يغرق في محبة جارفة للبساطة، في كل تفاصيله المسلية والكوميدية والكئيبة. ليلى علوي/خيرية، الفتاة الريفية الجاهلة الأمية المرحة الصلبة، أقل شخصياته النسائية وعياً بالظروف وأقلها رغبة بالصراع والحرب: تكاد تكون زوجة الرجل المهم، التي تعيش على الطرف الآخر تماماً من الحياة، هي أيضاً الوحيدة التي لا تحاول الحرب أبداً، بل تترك بساطتها وحبها يفيضان كأشعة الشمس على رجل لا يفهمهما إطلاقاً. كذلك، بل أكثر، خيرية تشعّ بالحياة كأنها نهر عارم تملأ الأرض طيبة وخضرةً وجمالاً وموسيقا وطعاماً وسلاماً، بدون جهد أو نية أو رغبة: خير صاف محض جارف عارم، لا يشبه في شيء عالمنا المفتقد تماماً لما تمثّله خيرية، التي تتحول إلى رمز، كأن ذروة نجاح السينما الواقعية تصير رمزية، في لحظة نادرة فريدة صادقة، لالتقاء الواقع بالحلم!