«ساعي بريد نيرودا»... حِيَل سكارميتا لاستخدام "شاعر نوبل" كشخصية روائية

2020-07-29 12:00:00

«ساعي بريد نيرودا»... حِيَل سكارميتا لاستخدام

وعبر هذه الحيل والتقنيات تمكّن أنطونيو سكارميتا لا من مجرد توظيف بابلو نيرودا كشخصية روائية، وإنما أنتج رواية هي واحدة من عيون الأدب المكتوب بالإسبانية، وعلامة بارزة في الآداب العالمية.

صدرت رواية "ساعي بريد نيرودا" مع عنوان فرعي "صبر متأجج" للتشيلي أنطونيو سكارميتا (1940)، لأول مرة في العام 1985، وصدرت ترجمتها العربية الخاصة بدار ممدوح عدوان في 2018 بتوقيع المترجم السوري الراحل صالح علماني.

سكارميتا، في "ساعي بريد نيرودا" قدم توليفة صعبة، إلا أنها تمكّنت من تحقيق ما يسمى بـ"المعادلة الذهبية"، فالكاتب التشيلي المخضرم اختار أن يستخدم الرمز الأكبر الأيقوني للأدب التشيلي، الشاعر بابلو نيرودا (1904-1973) الحائز على نوبل في الآداب عام 1971، كشخصية روائية، وكإحالة رمزية كبرى لحقبة معينة في تاريخ الدولة الأمريكية الجنوبية. ولأن إقحام شخص كنيرودا في سياق عمل درامي مسألة تبدو كمخاطرة فنية؛ عمِد سكارميتا، لمجموعة من الحِيَل الفنية التي تمكّنه من التوظيف الأمثل لبابلو نيرودا كشخصية روائية: أولًا اختار سكارميتا لنصّه الروائي أن يكون قصيرًا، من تلك النوعية التي تسهل قراءتها على دفعة واحدة، فالإطالة في هذا المقام كانت ستبدو كنوع من البلاهة في حضرة الشاعر الخالد. ولكي يحكم استخدامه كإحالة كلاسيكية كان على سكارميتا التعاطي بشكل نفعي ومختصر للغاية مع حضور نيرودا في الرواية.

 ثانيًا، أغرق سكارميتا روايته بلغة شعرية، لقد رفع سكارميتا صيادي الموائي التشيلية والسقاة في الحانات إلى مرتبة تداني مرتبة نيرودا: فساعي البريد ماريو خمينيث صار شاعرًا، ودونا روسا صاحبة الحانة سيدة فصيحة وهكذا... ويمكن مطالعة الاقتباس التالي في الحوار الدائر بين دونا روسا وابنتها بياتريث غونثالث التي وقعت في حب ساعي البريد لأنه غازلها مستخدمًا بعض المجازات والصور والتشبيهات: "ليس هناك مخدِّر أسوأ من الكلام، إنه يجعل نادلة حانة ريفية تشعر كأنها امرأة فينيسية. وبعد ذلك حين تأتي ساعة الحقيقة، لحظة العودة إلى الواقع، تكتشفين أن الكلمات لم تكن إلا شيكًا بلا رصيد. إنني أفضّل ألف مرة أن يلمس سكّير مؤخرتك في الحانة، على أن يقال لك إن ابتسامتك تطير عاليًا مثل فراشة (...) لا تكوني غبية! الآن ابتسامتك فراشة، لكن نهديكِ سيكونان غدًا حمامتين تريدان من يهدل لهما، وستكون حلمتاك حبتي توت بري مترعتين بالرحيق، وسيكون لسانك سجّادة الآلهة الدافئة، وستكون مؤخرتك شراع سفينة، والشيء الذي ينفث رطوبة بين ساقيك الآن سيكون فرن الكهرمان الذي يصاغ فيه معدن السلالة المنتصب! طابت ليلتك!" 

الحيلة الثالثة الناجعة التي استخدمها سكارميتا هي إبعاد نيرودا عن مركز السرد وتغييبه لفترات زمنية تستهلك صفحات كثيرة من الرواية وكثيرًا من الوقت السيكولوجي والكرونولوجي، وهذا نوع من التبجيل يستحقه نيرودا سواء كشاعر أو كشخصيةً روائية، فالغياب يضفي نوعًا من الجلال والهيبة على الغائب. وقد جاء إبعاد نيرودا عن مسار الأحداث عبر تلك الفترة التي عمل فيها الشاعر الكبير كسفير لتشيلي في باريس (1970 – 1973)، والتي تُوّجت بحصوله على نوبل في 1971. لقد خطف ماريو خمينيث الأضواء في النصف الثاني من الرواية بمناوشاته مع دونا روسا، ومغازلاته لبياتريث غونثالث وعلاقته بالسياسيين اليمينيين الذين يؤيدون انقلاب أوغستو بينوشيه على الرئيس الاشتراكي سيلفادور ألليندي، وسعيه الدؤوب للصرف على ابنه الشقي كثير الإصابات. هذا بخلاف مراسلات ماريو مع نيرودا أثناء وجود الأخير في باريس.  

قصة حب ساذجة وعامرة بالرموز

ماريو خمينيث ابن الصيادين، عاطل، يمتلك دراجة، مكّنته من الهروب من مهنة الصيد التي يكرهها والتي اعتاد على التظاهر بالنوم خصيصًا كي لا يُجبر على مباشرتها. مكّنت الدراجة ماريو من أن يكون ساعي البريد الوحيد بمدينة إيسلا نيغرا الساحلية التي يقطنها الصيادون، ويسكن فيها بابلو نيرودا في عزلة وهدوء.

ماريو استغل لقاءاته النادرة مع نيرودا، فتح معه كلامًا عن الشعر، والمجازات، تقاربا وصارا صديقين، صارحه ماريو بحبه للمراهقة التي تعمل في الحانة، بياتريث ابنة دونا روسا، لينخرط الشاعر في مؤامرة طفولية وتواطؤ سرّي لمساعدة ماريو على الظفر بحبيبته وصد معارضة والدتها للعلاقة.

ربط سكارميتا الحب بالشعر، لا شيء أغوى بياتريث بحب ساعي البريد الشاب سوى مجموعة من المجازات، تلك التي فسّرها نيرودا لصاحبه على أنها "بصورة تقريبية غير دقيقة، أساليب لقول شيء ما بمقارنته بشيء آخر". 

هوية تشيلي الاشتراكية قبل الانقلاب أيضًا أوردها سكارميتا مرتبطة بالشعر، فقد كان سيلفادور ألليندي على رأس السلطة حينها، كرئيس منتخب، لكن قبل ذلك كان على نيرودا، مرشح الحزب الاشتراكي، أن يتنازل عن الترشح لصالح ألليندي. هكذا جرى ربط اليسار بالشعر والحرية والخيال مجسّدين في شخص وقصائد نيرودا.

 حتى النهاية المفجعة للحقبة الديمقراطية في تشيلي التي قضى عليها الانقلاب في 1973 تقترن هي الأخرى بموت بابلو نيرودا في ذات العام. تموت الحرية والديمقراطية واليسار... فيموت الشعر. هكذا مرر سكارميتا رموزه عبر بابلو نيرودا.

ولولا جنوح بعض الشخصيات للشعبوية، متمثلة في الأمثال المحلية المتدفقة على لسان دونا روسا، أو مثلًا جلافة العسكري المكلّف بحراسة مركز البريد ولغته الفظة، لطارت "ساعي بريد نيرودا" على جناحين شعريين أولهما هو نيرودا (الشخصية الروائية بمحمولها الفني وإحالاتها التاريخية والواقعية)، وثانيهما اللغة التي صاغ بها أنطونيو سكارميتا روايته.

من ضمن الملامح الفنية في الرواية، كثرة الحوارات، التي ساهمت في تحريك الأحداث إلى الأمام، على اعتبار أن اللغة الشعرية ليست الخيار الأفضل لتحريك دراما النص قُدُمًا، مقارنة بقدرتها على خلق "حالة" وتمريرها إلى القارئ. الحوارات الطويلة بين ماريو خمينيث وبابلو نيرودا، وماريو بياتريث جونثالث، ونيرودا ودونا روسا، شغلت نسبة لا بأس بها من قوام الحكاية. والحوارات هي النقطة التي اكتملت بها معادلة السرد المحكمة في "ساعي بريد نيرودا"، إذ أحدثت التوازن المنشود في دوران عجلة الأحداث والدراما، وبالمثل وازنت بين شعرية السرد ذي الجمل القصيرة، والحوارات التي قد يحمل بعضها مقدارًا من السذاجة يناسب عقلية المتكلم.

وعبر هذه الحيل والتقنيات تمكّن أنطونيو سكارميتا لا من مجرد توظيف بابلو نيرودا كشخصية روائية، وإنما أنتج رواية هي واحدة من عيون الأدب المكتوب بالإسبانية، وعلامة بارزة في الآداب العالمية.