المجموعة الأخيرة من "أصوات في زمن كورونا"... كيف نصوّر حالة الحجر؟

2020-08-06 11:00:00

المجموعة الأخيرة من

 كلاسيكية المشاهد والفكرة وحزنها الطاغي وعمق النص، جميعها حكايات تعطي الفرصة لسمير أن يصنع مئات الأفلام من تلك المادة الغنية التي تركها جده، بل إن هذا يحيلنا إلى الفكرة الشائعة أن ذات المخرج هي حبكته الأولى والأخيرة والأكثر غنى على الدوام.

هل يمكن المواءمة بين لحظة الإبداع وصناعة العمل الفني لمناسبة ما؟ وهل ستكون اللوحة أو القصيدة أو الفيلم فعلاً فنياً حقيقياً أم هو رد فعل على استحقاق أو على تلك المناسبة؟ وربما أعمالنا جميعها بالأساس هي رد فعل.

 حقيقة، لا أستطيع سبر غور الكاتب أو الفنان في حال كان جزءاً من أزمة عامة ثم يطلب منه أن يعبّر، كيف سيكون إبداعه في تلك اللحظة؟ أم أن الاحتراف يجعلك تبدع في أي وقت ورداً على أي موضوع؟ وتذكرت الحرب على غزة وكيف كان الجميع ينتظر من الفنانين والسينمائيين والأدباء أن يعبّروا عن تلك اللحظة وأحياناً يحدث استكتاب، وهناك من يخلق مشاريع ليعبّر الفنان عن الحرب، لكن ما لاحظته أن معظمها تأتي أعمالاً متشابهة ومباشرة ولا تعبّر عن العمق الحقيقي أو الشعور الذي مر به الفنان أو الكاتب وقتها.

هذا ما فكرت به وأنا أشاهد أربعة أفلام لفلسطينيين أرادوا من خلالها أن يعبروا عن فترة الحجر الصحي بسبب فايروس كورونا، بعد الاستجابة لمشروع يرعاه "فيلم لاب: فلسطين" لتقديم أصوات من فلسطين، هي مجموعة من الأفلام القصيرة لصناع أفلام فلسطينيين، يتحدثون فيها عن تجاربهم الاستثنائية وشهاداتهم خلال فترة زمنية معينة وهي فترة الإغلاق المنزلي بسبب كورونا. 

ولا أعتقد أن السينما تُصنع حين نريد أصواتاً من مكان معين لفترة زمنية معينة، أو أن الأدب ينتج حين يطلب من الفنان تقديم شهادته عن فترة ما، ومع ذلك من المهم أن نتناقش ونتحدث حول هذه الأفلام.

كوفيد 1948

فكرة ونص ذكيان، وصورة سينمائية جميلة، كعادة المخرج الغزي يوسف نتيل، فقد عبر عن فكرة ممتدة للفايروس المستمر منذ ثمانية شهور وهو عمر الإعلان عن كوفيد19، كما عبر عن الحصار منذ 12 سنة على القطاع، ويُضاف إليهما عمر الاحتلال الإسرائيلي.

وعلى الرغم من هذا النص الذكي الذي رافق المَشاهد بتعليق صوتي من المخرج، لم أفهم كثيراً ما يريده من الديكور الذي يوحي أنه سجن ما، ثم منزل يجري تعقيمه، فمن غير المفهوم تماماَ حبكة المكان وحركة الممثل الذي أدى دوره الفنان المبدع سليمان النواتي، وربما كان للتعبير عن أزمات الفلسطيني المتعددة وخرابه الداخلي الذي زاد بعزلته عن العالم بسبب الفايروس.

ومع ذلك استطاع المخرج أن يهرب من فخ تكرار التعبير عن فكرة الحجر الصحي، مع أنني كنت أفضل أن الحالة العامة التي سحبها على الفرد أن تختلط ببعض الفانتازيا، وربما مزيداً من الحميمية في الحديث عن الفن وقت العزلة، بيد أن مقارنة عزلة كورونا بعزلة الحرب هي جزء رئيسي من ذاكرة سكان القطاع، فالخوف متشابه مع فارق أن صواريخ الحرب صوتها مدوٍّ، وفايروسات كورونا صمتها مرعب.

كبسولة

إذا كان يوسف لم يلتقط هذه الحساسية في التعبير الذاتي ومال إلى النص والثيمة السياسية فقد فعل ذلك فيلم آخر هو "كبسولة"، لروزين بشارات وجونا سليمان، فهو فيلم ساخر سوداوي، صورته ذكية ومبتكرة، تأخذنا فيه المشاهد لذات الأماكن يومياً من الغرفة إلى السطح ومن السطح إلى الغرفة، بموسيقى افتتاحية مذهلة، ونص جميل حميمي/ ومشاهد تعبر عما قد يفعله الإنسان بنفسه في فترة العزل، فقد يجن أحياناً، حرفياً، وربما يقضي يومه يحلم بالطيران، أو مثلما قالت بطلته "كان آخر يوم عشته طبيعي قبل أن تتوقف الحياة" فالفيلم يعبر عن توقف الحياة بخفة وحدة معاً ليست موجودة في أي من الأفلام الأخرى، يلخص الحيرة، الفردانية المعذبة في العزلة، السفر الذي أصبح حلماً، الوحدة التي تتحول إلى لحظة "هبل" أمام المرآة، التفاصيل التي لم تكن مهمة، بل لا يراها أحد، لتصبح فجأة هي روتينك اليومي المكرر داخل جدران، فتتحول إلى ساكن كبسولة.

ع الجزيرة

عنوان خدّاع، تقفز إلى رأسك قناة الجزيرة، أحياناً عناوين الأفلام تكون"ستيريو تايب" في رأسك قبل أن تشاهد الفيلم، وهذا ربما يظلم الفيلم أو يزيد ثراء فكرته. 

محمد الجبالي مخرج آخر من غزة يعيش في جزيرة قطبية شمال النرويج، بحسب ما يقول أن الناس قبل كورونا لا يخرجون من منازلهم فكيف هم بعدها، الثلج بطل المكان، المرافق المعتادة التي كانت تمد الجبالي ببعض ونس مثل المقهى الوحيد والمكتبة، أغلقت، يمشي بكاميرته يتحدث عن جزيرته ما يعطي فيلمه القصيرة في البداية طابعاً إخبارياً، لكن سرعان ما يتغير ذلك، ليأخذنا إلى منزله الصغير بين صناعة الخبز، مشاهدة أفلام، التأمل من النافذة، الصمت يعم الفيلم سوى مما يفعله "شد السيفون، صوت الطيور، خلاط البيض".

من المؤكد أنه لو قام بالفيلم شاب نرويجي اعتاد هذه العزلة بالأساس في جزيرة الثلج، لما وجد هذه الأشياء مثيرة في وضع الكورونا، لكن الجبالي الذي أتى من مكان صخب كثيف السكان كغزة، من السهل عليه أن يتحول الهدوء، البياض، الإغلاق، إلى ثيمة جميلة ذاتية صنع منها فيلماً شديد الخفة لكنها محتملة، وليست كحال كائن ميلان كونديرا.

حجر صحي، منع تجول وأشرطة فيديو قديمة

فيلم غريب، ليس من المتوقع أن تحبه من المرة الأولى؛ طويل بطول عنوانه، الذي كان من الممكن أن يكون أكثر نباهة، كما أنه عكس الأفلام السابقة، ليس له علاقة بالخفة، بل ثقيل في حبكته وعواطفه، أغلبه عبارة عن مقاطع فيديو أرشيفية لحكاية عائلة تعيش في الضفة الغربية بسعادة يوثقها الجد بكاميرته. إلا أن كل هذه المثالب يشفع لها جمال الفيلم، صدقه، عمق التعبير فيه عن المشاعر، المقارنات البعيدة عن بعضها لكنها مفهومة وإنسانية وتحيل الماضي إلى الحاضر بشكل يجعله أكثر سهولة على الاستيعاب، كحزن الآباء والأمهات في ذلك الزمن، تناقضات الأحداث السياسية، شقاوة الأطفال الذي كان صانع الفيلم أحدهم وهو الشاب سمير قمصية.

"الكاميرا درعي في ذلك الزمن والآن" وهذه العبارة استطاعت أن تربط بين زمن الانتفاضة الثانية وزمن الكورونا، وكيف كانت مخلصته من العزلة والخوف، في صور مقارنة للأماكن وأفراد عائلته بين زمنين: 2001 و2020.

 كلاسيكية المشاهد والفكرة وحزنها الطاغي وعمق النص، جميعها حكايات تعطي الفرصة لسمير أن يصنع مئات الأفلام من تلك المادة الغنية التي تركها جده، بل إن هذا يحيلنا إلى الفكرة الشائعة أن ذات المخرج هي حبكته الأولى والأخيرة والأكثر غنى على الدوام.