«فدائي عتيق»... دليل العابرين إلى السماء

2020-10-13 16:00:00

«فدائي عتيق»... دليل العابرين إلى السماء

وكذا فعلت الكاتبة عن سبق إصرار وترصد حينما طرحت شيئاً من مقاربة ما بين ضحايا النازية من جهة، والصهيونية من جهة أخرى متسائلة: "كيف لهؤلاء الذين يتباكون على ضحاياهم في بوخن فالد وغيره من معسكرات النازية، يذيقون أهلي في فلسطين من ذات الكأس ولا يخجلون من بكائهم"

فلسطين الفكرة لم تمت، ولن تموت، ليس لأنها عصية على التحليل والفهم، أو لكونها وطن مختلف عن أوطان الآخرين، وإنما لأن بعض أبنائها ما زالوا على جمر العهد قابضين، لا هزمهُم محتلٌ، ولا هزَ إيمانهم مطبع.

هذا ما يمكن أن يلاحظَه القارئ في وثيقة أسفار المحبة وآيات الإخلاص التي صاغتها دونما ارتباك الإنسانة أسماء ناصر أبو عياش، الكاتبة والزوجة، رفيقة الدرب والأمل لزوجها المناضل الذي ما زال حاضراً بفعله وتاريخه النابض بالحياة والوطنية معا؛ قدمتها أسماء على شكل سيرة ذاتية وغيرّية في آن، طُبعت على نفقة الكاتبة تحت عنوان "فدائي عتيق" 2019، لترصد واحدة من الحيوات الفلسطينية المتناظرة على ذمة الحرية المشتهاة، هي حياة المهندس المناضل عدنان أبو عياش، صاحب الاسم الحركي "عباس الأقاليم".

غير أن النص المستحضر من ذاكرة الراوي، لم يكن مجرد ظلال تاريخ رواه البطل على مسمع مساعده، ولا هو وصفة جاهزة قدمها الزوج لزوجته لتضيف كتاباً لصف الكتب المرصوص على الرفوف كما على الأرصفة، ولكنه ملمح آخر لحكاية بدأت ولم تزل أحداثها تدور في شقوق المكان وهي تتدافع بناسها لتلاحق عقارب الساعة لا لتوقفها عن سيرها إلى الأمام، ولكن لتعلن أن فعل البطولةِ قصة لا تنتهي مهما دار الزمان دورته الاعتيادية. 

"نعم هي التفاصيل على بساطتها لا نستطيع القفز عنها، هي الحصى الصغيرة التي ترتكز عليها الذاكرة" (ص64).

لا أدري تماماً، لماذا لا تملؤني رغبة الخوض في هذا العمل على جهة جنسه الأدبي أو نمطه السردي؛ لربما لأن بعض السرديات المشتبكة مع الأنماط المتعارف عليها، هي سرديات حية بالضرورة، تعمل على فعل التوثيق حيناً، وتقص أحيانا أخرى، حدَّ أن يشعر المتلقي لوهلة، أنه الجزء الهارب من اللوحة الجامعة، وربما يكون الجزء المقتول بفعل فاعل.

هذا الجزء الهارب من اللوحة، والذي يمثله الراوي البطل "عدنان" من جهة، والكاتبة نفسها من جهة ثانية، هو ما دفع الأخيرة لاستخدام مصطلح "عتيق" لتصف الفدائي الذي تقصد، وكأنها تريد القول: أن هناك تمييزاً يجب علينا الانتباه له دائما حينما نتحدث عن الحالة النضالية الفلسطينية ونُخضعها لمشرط التدقيق والتنقيب.

ولكن من أين جاءنا ادعاء أن ما حدث ولا يزال يحدث، إنما هو بفعل فاعل؟ سؤال تجيب عليه الكثير من وقائع أحداث القصة التي قدمتها الكاتبة لتؤكد أن لا خير ظاهر ولا شر مستتر، يمكنه السطو على كامل المشهد، فإن عدنان البطل في قصة فدائي عتيق، وكما تقول الكاتبة: "رُكِّنَ قيد في قيود الشهداء مع وقف التنفيذ" (ص134).

ولتكرر بعد وهلة "لم أعمد لسرد بعض من سيرته الحافلة بصفته الشخصية بقدر ما يعنيني ويعني الكل المؤمن بفلسطينه" (ص137).

في السياق لم تغفل الكاتبة طرح بعض الإضاءات المهمة، كما هي إضاءة دور المرأة الفلسطينية في النضال الوطني، وهو ما خصصت له عنوانين هما عنوان "امرأة بألف رجل" و "وجيهة في المحكمة" لتتناول تجربة الزوجة المناضلة وجيهة موسى رضا الحسيني زوجة القائد الفلسطيني الشهيد عبد القادر الحسيني، وأم الراحل فيصل الحسيني.

وكذا فعلت الكاتبة عن سبق إصرار وترصد حينما طرحت شيئاً من مقاربة ما بين ضحايا النازية من جهة، والصهيونية من جهة أخرى متسائلة: "كيف لهؤلاء الذين يتباكون على ضحاياهم في بوخن فالد وغيره من معسكرات النازية، يذيقون أهلي في فلسطين من ذات الكأس ولا يخجلون من بكائهم" (ص126).

ولكي لا يخرج فعل الصمت عن كونه "استراحة المجاهد في الذاكرة وليس النهاية" (ص20)، قدمت أسماء هذه السيرة لا لتقيم المحاكمات لهذا الطرف أو ذاك، ولكن لتكرر ما أكده زوجها الفدائي العتيق في غير مرة، إن طريق المبادئ الثورية النقية والمؤمنة بحتمية النصر لم تغلق على الرغم من كوننا في زمن التهافت والخذلان. ذلك لأن الفدائي الحق ومهما تكالب عليه الأعداء أو خانه الأصدقاء، سيبقى "دليل العابرين إلى السماء" (ص55).