خلع الحجاب... بين الأنا والنحن

2020-10-16 00:00:00

خلع الحجاب... بين الأنا والنحن
Ozdemir Atlan - Soyağacı

إن هويتي في المخيم كلاجئة ونسوية تحتم عليّ نضالات ثورية تمردية كثيرة. وهذه كانت واحدة منهن. أنا لم أختر الحجاب؛ ولا بطاقتي اللاقانونية، ولا معاناتي الطويلة ولا أجلي، لكنني أخترت خلع الحجاب.

ولدت حيث المخيّم، في هذه البقعة المتآكلة، بين جدرانٍ ونوافذ ضيّقة، تطلّ عليها الشمس من بعيد. هكذا كانت طريقة الحياة ونظرات العيون المبهمة، جميعها متشابهة في الوجع وطرق التفكير. كفتاة تُخلق على الدين الإسلامي، في مجتمع ديني الطابع، عرفت الحجاب من صغري، فُهّمت أن هذا هو الشكل الرسمي الصحيح للفتاة. وقبل أن أضعه على رأسي، لم أنظر خارج الصندوق مرّة، ولم أتسائل كثيراً، ولم أقرأ كتباً مختلفة، أنا لمى، واحدة من آلاف الفتيات اللواتي إختارهن الحجاب ولم يخترنه يوماً.

أسمّي المخيم صندوقاً الآن، لأنني كلما عدت إليه أشعر أني أعيش داخل صندوق مغلق بإحكام. القمع الممنهج من النظام الممارس على اللاجئين هنا يتحول لقمع داخلي؛ الكثير من الحواجز على الأبواب تضع الكثير من الأغلال الفكرية على العقول. كيف نكسر الأغلال ونحافظ على ذواتنا وانتمائنا في نفس الوقت؟

لطالما وفّرت لنا هذه البيئة أنماط تفكير واحدة، وقَوْلبتنا، وحاولت أن تشكّل ذواتنا. هذا نحنُ النساء إذاً، نُخلَق لنُطبّق أحكاماً وأوامر، لنلتزم، لكي لا نكسر كلمة، لنعمل في مجالات محددة لنا مسبقاً، لنتزوّج، لنتبرّج، لنُعجب الرجل، لنُنجب ونتحمل غضب رجلٍ أنهكه القمع الممأسس ومن ثم نموت. هذا نحن إذاً: ذوات مصير واحد تعيس.

ورغم أننا حُفِّظْنا عن ظهر قلب أمجاد نضالات النساء الفلسطينيات في السبعينات والثمانينات، إلاّ أننا لن ننسى أن أولئك النساء كنّ "اخوات رجال". ورغم أننا نسمع كثيراُ عن مشاركة المرأة الفلسطينية في الحياة الاجتماعية في المخيّمات، إلاّ أنّنا لن نلتفت مرّة للعنف الممنهج الممارس ضدها. في رأسي الكثير من مشاهد العنف، تحمل ذاكرتي على أثقالها الكثير من الاستنزافات العاطفية والتعليقات السلبية على مظهري وشكلي ولون بشرتي وتسريحة شعري وموعد زفافي الذي لم يحدّد بعد. تُثْقِلُ فيّ هذه الأماكن ربط قيمتي دائماً بالرّجل.

أكتب هذا الآن وأنا أستذكر مقال كتبته الأستاذة ليلى أحمد حول حقوق المرأة المسلمة في عيون الغرب: امبريالية مقنعة وصور نمطية. تدافع ليلى عن المحجبات في افغانستان، ترد على المستشرقين بلغتها وتتحدث عن استغلال الغرب اضطهاد المرأة المسلمة كسياسة لتعزيز الحرب ضد المسلمين. حين قرأت المقال، كنت أنا بدوري أيضاً أرد على المستشرقين بحالةٍ ملؤها التخبط. رغم أن يديّ كانتا مبتورتين يومها، وكنت غير قادرة بتاتاً على خلع الحجاب لأنني أعلم جيدا ما كان سيكلفني إيّاه الاختيار، إلا أنني كنت أرد على أولئك الغربيين بصرامة: "حسناً، الأمور ليست كما ترون، لم أُرغم على الحجاب، نحن لسنا مضطهدات هنا، بإمكاننا أن نختار..."

بعد صراع طويل مع أناي وتخبط في محاولات توظيفها مع الأنا الجمعية، وبعد أن انفجر رأسي بسؤال: كيف سنواجه الاضطهاد الذي نتعرّض له جرّاء خلع الحجاب دون أن نُثبت للمستشرقين أنّنا مضطهدات؟ كيف سأدافع عمّا لا يمثّلني؟ كيف أخلع حجابي دون أن أنسلخ وأنبذ من مجتمعي؟ كيف أخاطب الآخر: الآخر الذي يشبهني ولم يعُد يشبهني دون أن أشعره أنني ضد عقائده؟ أدركت بعد سنة كاملة أن الرّد على كل جهات اضطهادنا هو الوقوف بوجه العنف. إن الرد على أولئك المستشرقين يكون بانتزاع حقنا بالاختيار.

كفتاة ولدت وعاشت في مخيم فلسطيني صغير في لبنان، أكتب له، أتعلم منه، أنتمي إليه، يصعب عليّ الانسلاخ عنه وعن أهلي. ففي خضمِّ صراعي، خفت على هويتي، أمسكتها بيدي وخبأتها داخلي. حاولت جاهداً البحث عن أصوات نسويةٍ داخل أزقة المخيم، لم أجد. لطالما أردت أن أصرُخ لأجل نساء مخيمي، لطالما أردت الانتقام لهنّ، ولطالما كان صوتي وحيدا خفيف الصدى.

ولمّا أدركْت أنّني لا أشبه الأفكار المخبّأة، المتشابهة، والخائفة، ولما عددْتُ المرات التي اضطررت فيها عبور حاجز الجيش لأصير ما أنا عليه اليوم، أدركت أنني لست الحواجز، ولا داخلها، بل من كسرها وعبرها. ولمّا خفت أن أصير هامشاً جديداً داخل الهامش المركزي، رددت على التعليقات السلبية، وحاولت تحويلها لكلام مرتّب، ألفظه دفعةً واحدة لأقول لا. ولمّا تلقيت الدعم من نساء فلسطينيات يحملن معي هموماً مشتركة رسّختُ هويتي النسوية أكتر. الفارق الأجلّ كان الدعم الذي تلقيته من عدد ضئيل جداً من بنات مخيمي، أحسست حينها أنني ومعي عشر بنات من المخيم ندافع عن بعضنا البعض وندعم خياراتنا ونستطيع أن نحسس الأخريات منّا بالأمان بإمكاننا لوهلة ولو خيالا أن نحتلّ العالم، أحسست حينها فقط أن صوتي ليس وحيدا.

إن هويتي في المخيم كلاجئة ونسوية تحتم عليّ نضالات ثورية تمردية كثيرة. وهذه كانت واحدة منهن. أنا لم أختر الحجاب؛ ولا بطاقتي اللاقانونية، ولا معاناتي الطويلة ولا أجلي، لكنني أخترت خلع الحجاب.

خلعتُ الحجاب الذي لا يشبهني ومن داخل بقعتي. لأقول لا. لأختار شكلي. لأنهي سنين من العنف الممارس ضدي فكرياً، جسدياً ومعنويا.

لم أنتظر الهرب إلى أوروبا، لم أنتظر الاستقرار الزوجي لأقرر حقي بالاختيار.

أنا اليوم أرفض أن أنعت بـ "أخت الرجل". وبتُّ أعلم جيداً أن هويتي الجمعية ليست حجاباً. ولأنّي أريد للمخيّم أن يظلّ يشبهني، اخترت التمرّد، إذ لا يمكن لعصفورٍ ينادي بالتحرر، أن يحلّق وسط سماء مليئة بأسلاك الكهرباء.