تجلّي الطبيعة في أعمال فنية حول ثلاث بذور 

2020-11-16 15:00:00

تجلّي الطبيعة في أعمال فنية حول ثلاث بذور 
تصوير: عيسى غريّب

أفرد الفنانون الثلاثة مساحة للطبيعة لتتجلى في أعمالهم الفنية ولتساهم في تشكيل الجزء الأكبر منها، بل ساهمت في نقل الأعمال إلى مساحات مجهولة المعالم تجريبية في صميمها وحيّة في روحها. الأعمال الثلاثة غير مكتملة ولا زالت في طور التحلل والتآكل والتضاؤل والتلاشي مع استمرار العرض،

قد يكون من الصعب الهيمنة على الحشائش، أو بشكل أدق الهيمنة على الأعشاب، على الأقل هذا ما تقترحه الطبيعة التي عادت إلى عنفوانها بعد كارثة القصف الأمريكي النووي على هيروشيما وناجازاكي في اليابان إبان الحرب العالمية الثانية سنة ١٩٤٥، وكذلك في أعقاب الكارثة النووية في أوكرانيا سنة ١٩٨٦ حين تحولت تشيرنوبيل إلى مدينة أشباح تهيمن عليها النباتات بالمطلق. فالنباتات متمردة بطبيعتها ولا تخضع لقوانين الإنسان، فهي تشرئب وتنمو من بين الشقوق وبقايا البيوت، وتخرج من نوافذ المباني حتى وإن أبيدت البشرية جمعاء.

يتناول المعرض الذي تنظمه "مؤسسة القطان" في رام الله حتى ١ كانون الأول ٢٠٢٠ تحت عنوان "الهيمنة على الحشائش"، محاولة الاستعمار البريطاني في فلسطين القضاء على ٣٣ عشبة لصالح تمكين الزراعة من منطلق الفهم الاستعماري الضيق للطبيعة في هذه البقعة من الأرض والنظرة الكولونيالية التي تفترض معرفة وخبرة الرجل الأبيض وجهل أهالي هذه الأرض.

وفي الواقع فإن محاولات السيطرة على الأعشاب ليست جديدة، ولا تنحصر بمحاولة الاستعمار البريطاني القضاء على أنواع معينة من الأعشاب في فلسطين فحسب. فقد بدأت محاولات السيطرة على الأعشاب مع اعتماد الإنسان على الزراعة لتأمين قوته اليومي وانتشرت على نطاق واسع بموازاة الثورة الزراعية ونشوء الكولونيالية والرأسمالية العالمية في الغرب. وعلى الأغلب فإن المحاولات البريطانية لإخضاع البذور ومحوها من فلسطين آنذاك، كانت فاشلة ولم تذهب بعيداً وخاصة أن هذا المشروع وفقاً لما جاء في المعرض، بدأ خلال السنوات العشر الأخيرة من الاستعمار البريطاني لفلسطين. 

تناقش هذه المقالة أعمال ثلاثة فنانين تهيمن على المعرض وتفرض حضورها، وإن كانت المساحة التي أفردت لها -كما لغيرها من الأعمال- ضيقة، والفراغ الذي تُرك حولها ليتأملها المشاهد محدود. وإن كانت قاعة العرض واسعة، إلا أن العدد الكبير من الأعمال والدفيئتين البلاستيكيتين المنصوبتين داخل القاعة، واللتين تناقضان في جوهرهما مفهوم الطبيعة الحرة المتحررة من أي قيد أو هيمنة، ساهمت جميعها في التضييق على مساحة العرض، وجاءت على حساب الفراغ الضروري حول كل عمل. وبهذا فإن المعرض، الذي يعرض فيه ٣٣ عملاً متفاوتاً يبدو أن جلها أنجز على عجالة بجهد وفكر محدود، يشتت الانتباه بالمجمل.

وبالرغم من اختلاف التقنيات المستخدمة بشكل جذري، إلا أن هناك رابطاً مشتركاً ما بين ثلاثة أعمال تبرز في المعرض، لعيسى غريّب وشدى الصفدي ومهدي براغيثي، تعكس خوض الفنانين الثلاثة غمار تجارب تقنية مكثفة تقع الطبيعة في صُلبها، بل أفردت للطبيعة مساحة هامة لتشكيل العمل، دون التنازل عن جمالياته وعلاقته الوثيقة مع فكرة ومفهوم المعرض. كان على الفنانين الذين لم يكن لهم دور في اختيار البذور/النباتات التي بنوا عليها مشاريعهم، إذ كان ذلك محدداً من قبل القائمين على المعرض، أن يدرسوها بشكل تفصيلي جامعين المعلومات الشحيحة المتوفرة عنها بأنفسهم. لم توفر المؤسسة بنك معلومات بحثية للفنانين بالرغم من شح المصادر وانعدامها في بعض الأحيان. كما لا يوفر المعرض معلومات حول مصير هذه البذور منذ محاولة الانتداب البريطاني القضاء عليها ولا بيانات حول إن كان الحظ قد أسعفها ونجت من الكوارث البيئية التي حلت بحلول الاستعمار الصهيوني. 

صور الشمس

ينطلق عيسى غريّب في مشروعه "صور الشمس" من مفهوم الضوء واللون والحركة، ويستكشف نبتة "الخرفار المتناقض" وبذرته، والتي تعرف باللاتينية بـ (Phalaris Paradoxa). غريّب، الذي يتخصص في التصوير الفوتوغرافي وفن الفيديو والأعمال التركيبية، أخضع النبتة وبذرتها إلى سلسلة من التجارب المخبرية المكثفة، وفي ذهنه التجارب الأولى في التصوير الفوتوغرافي التي أفضت إلى اختراع الصورة الثابتة. فركز على الضوء المنبعث من البروجيكتر وانعكاسه على وسيطين آخرين هما الماء والهواء، وأفضت تجاربه إلى تقنية أتاحت له عرض شرائح متحركة من خلال البروجيكتر أشبه بلقطات قصيرة جدا من فيديو إلا أنها لقطات حيّة متغيرة باستمرار تعكس احتمالات لانهائية من التراكيب المبتكرة وكأنه في كل مرة يقدم لوحة فنية جديدة. 
 

تصوير: عيسى غريّب


فقد وضع غريّب البذرة في أكياس مخبرية شفافة رقيقة وصغيرة ثبتها على شرائح عرض (٣٥ ملم) بعد أن أغلقها بإحكام باستخدام الحرارة. وبإبرة مخبرية حقن ماء ملوناً، وفقاعات هواء في هذه الأكياس وعاود إغلاقها حراريا. عرض غريّب هذه الشرائح، بالضبط كما تعرض الشرائح (سلايدز)، على شاشة معلقة من السقف وسط إحدى الدفيئات في قاعة العرض. عرض البروجيكتر الأوتوماتيكي للشرائح/الأكياس يحرك الماء داخلها والذي يحرك بدوره البذرة وأجزاءها المتفككة وكذلك فقاعات الهواء التي تبدو دوائر صغيرة ناصعة البياض تتحد أحياناً مع بعضها بعضاً وتتفرق أحيانا أخرى، وينعكس ذلك كله على شاشة العرض أمام المشاهد بطريقة ساحرة ومدهشة، ويستغرق المشهد بضعة أجزاء من الثانية إلى أن تستقر المكونات. يرسم غريّب باستخدام الضوء، وتبدو الشرائح مكبرة على الشاشة، فتظهر تفاصيل مخبرية دقيقة لعوالم تتحكم فيها قوانين الضوء وفيزياء الحركة، ويبدو المشهد بصرياً وكأنه مقطعاً عرضياً لقاع بحر على أحد الكواكب الملونة. 

الهيمنة على البذرة المحبوسة داخل الشريحة، هيمنة غير مطلقة، بسبب حرية الحركة الدائمة المتاحة للبذرة في نطاق الشريحة، وهي حركة لا سيطرة للفنان عليها. جزء من المشروع/التجربة لم ينته بعد، فلا زال غريّب ينتظر تحلل وتآكل وتفكك البذرة داخل الشريحة والأشكال الجديدة التي تتخذها البذرة وأجزاؤها مع انتهاء العرض.

بانتظار دائم للزهر الأبيض

من خلال منحوتتها في المعرض، تلقي شدى الصفدي الضوء على الطبيعة الثائرة لبذرة نبات كابنوفيليوم/الطرديلن الغريب واسمها باللاتينية هو (Capnophyllum Peregrinum). وتحت عنوان "بانتظار دائم للزهر الأبيض" تبهرنا الصفدي بجماليات العمل والتقنية، فتعمل على منحوتة تتخذ شكل البذرة، وتكسبها لون الصدأ من معدن عالجته ليتآكل. وعند اقتراب المشاهد من المنحوتة تبدأ فوراً بالدوران وكأن مجسم البذرة يحاول حماية نفسه وطرد العابثين عنه. بدورانها تصدر البذرة صوتاً خافتاً لمعدن صدء يتحرك، بالإمكان سماعه والاحساس بارتجاجاته مما يضفي روحاً لمجسم البذرة وطاقة طاردة للعابثين. يستمر مجسم البذرة في التفاعل مع الهواء ويستمر في تعرضه للصدأ، فنرى قشوراً رقيقة تتساقط من المنحوتة أثناء دورانها. يأتي شكل المجسم وحركته ليعكسا محاولة البذرة حماية الحياة داخلها من خلال آليات دفاعية طورتها لتتاح لها فرصة النمو عند توفر الظروف الملائمة. منحوتة الصفدي ذات المقاطع المعدنية العرضية المثبتة من الوسط، تضفي على البذرة شكلاً أقرب إلى درع دفاعي، أو قفص حامي لما بداخله وتبدو كبذرة مقاتلة ومدرعة. إلا أن هيكلها المعدني القوي الذي يتعرض ببطئ إلى الصدأ يؤكد بأنها آخذة بالتلاشي التدريجي رغم قوتها، وأن عليها إيجاد الظروف الملائمة للتكاثر قبل فوات الأوان، ولكن كما يقول تولستوي "إن أقوى محاربَين هما الصبر والوقت".  
 

تصوير: عيسى غريّب


الصفدي، الآتية من الجولان السوري المحتل، تُشبّه البذرة بمن يعيش عكس التيار بعيداً عن أرض الوطن مطورا ميكانيزمات دفاعية تمكنه من حماية نفسه من كل ما يتهدده من أخطار. وتكتب عن المنحوتة البذرة "كان التمرد خيارها، فسارت بعكس التيار. نمت بعيداً عن موطنها، وطورت آليات دفاع تمكنها من حماية نفسها ونواتها من كل تهديد. وظلت تطور هذه الآليات شيئاً فشيئاً حتى أصبحت جزءاً متأصلاً من تكوينها، وتحولت إلى بذرة محاربة ذات هيكل دفاعي مقاوم. "غريبة ستظلين لا شيء يؤنسك ولا شيء يؤذيك، وحيدة هناك في البعيد، حيث الضوء كثير والعتم أكثر، قوية متينة متشبعة بكل ما يجعل الموت حولك مستحيلا"، وفي انتظار دائم للزهر الأبيض." 

هم يفعلون ما لا يمكنني فعله

من جهته يعرض براغيثي عملاً تركيبياً يتكون من مجسم على شكل عمود أثري روماني، مصنوع من بذور القرطم تحت عنوان "هم يفعلون ما لا يمكنني فعله". ونبتة القرطم هي محور بحث وعمل براغيثي، أما اسمها العلمي في اللاتينية فهو (Carthamus tenuis ). استخدمت النبتة في الماضي لاستخراج الاصباغ، واليوم تستخدم كطعام للطيور.  وبالطريقة نفسها التي يُصنع من بذور هذه النبتة طعاما للطيور، صنع براغيثي مجسمه من: بذور القرطم وطحين وشراب الذرة وجيلاتين نباتي وماء.  إلا أنه شَكَّلَ الخليط كعمود روماني تماماً مثل الاعمدة التي تتواجد في القصور الأثرية. قبيل عرضه في المعرض، وضع براغيثي العمود في الهواء الطلق وتركه عدة أيام تحت تصرف الطبيعة، التي لم يسعها إلا أن تتدخل في تشكيله، بمشاركة الطيور والحشرات والميكروبات والهواء... إلخ إلى أن سقط على الأرض وانكسر إلى عدة أجزاء. نقله بعد ذلك إلى صالة العرض مع فيديو وثق فيه تدخل الطبيعة في العمل. وبما أن العمل مصنوع من مواد عضوية فإن تحلله وتعفنه استمر في المعرض.
 

تصوير: عيسى غريّب


يستكشف براغيثي في عمله هذا قوة الطبيعة وقدرتها على استعادة الفعل من الإنسان حتى وإن عظمت قوته. وهنا يأتي شكل منحوتته ليرمز للمؤسسة وللسلطة وللقوة. فهو العنصر الأساسي الذي يحمل البناء والمكون الرئيسي للقصور التي شيدت في قديم الزمان والتي آل كثير منها للسقوط ومعظمها للهجران رغم عظمة القوى التي شيدتها في حينه، فقوة الإنسان لا تدوم وكذلك تمثيلات هذه القوى. يحمل مجسم براغيثي شكل وتمثيلات قوة الإنسان ولكنه في الصميم متآكل ضعيف ومعرض للسقوط والتبدد بفعل قوة أكبر. يأتي هذا العمل ليؤكد على قوة الطبيعة وقدرتها على التغلب على الإنسان عبر الأزمنة، وضعف الإنسان وإن كان باستطاعته إخضاع الطبيعة لفترة من الوقت.  

أفرد الفنانون الثلاثة مساحة للطبيعة لتتجلى في أعمالهم الفنية ولتساهم في تشكيل الجزء الأكبر منها، بل ساهمت في نقل الأعمال إلى مساحات مجهولة المعالم تجريبية في صميمها وحيّة في روحها. الأعمال الثلاثة غير مكتملة ولا زالت في طور التحلل والتآكل والتضاؤل والتلاشي مع استمرار العرض، مواصلة طرح أشكالا وتراكيب واحتمالات بصرية جديدة كل يوم، وتنم عن فهم الفنانين العميق لقوة الطبيعة ومكنوناتها وقدرتها على الهيمنة واستعادة الفعل. 

ولكن هل تستطيع الطبيعة استعادة الفعل إذا ما أخل توازنها بشكل ممنهج؟ أحيانا يكون من السهل فتح ملف في أرشيف وتسليط الضوء على أجزاء منه، ولكن ربطه بقضايا الواقع المعاش حتما هو أمر أكثر تعقيداً. فهل من الممكن مثلا استكشاف مآل النباتات موضوع المعرض اليوم؟ وماذا عن البذور والنباتات التي محاها أو يحاول محوها الاحتلال الاسرائيلي في مساعيه للسيطرة على الأرض وتفريغها من الكائنات الحية بكافة أنواعها؟ على الأرجح، ستكون المحاولات البريطانية هامشية، إذا ما قورنت مع الوقائع التي فرضها ويفرضها المشروع الاستعماري الصهيوني، الذي يكمن في صلبه المحو والإحلال، على أرضنا وبيئتنا خلال ٧٢ عاما الماضية.