الرأسمالية والهيب-هوب... أسباب فشل دمج الثقافة في المجتمعات العربية

2020-11-24 14:00:00

الرأسمالية والهيب-هوب... أسباب فشل دمج الثقافة في المجتمعات العربية

لقد تزامن، بالتالي، انتقال الثقافة إلى الدّول العربية (وغيرها) مع تحوّل النظام المجتمعيّ-الاقتصاديّ من الزراعيّ إلى المدنيّ – حيث يتحوّل الاعتماد على الطبيعة والمحيط إلى الاعتماد على التوظيف وتقسيم المجهود – وبناء على ذلك، تغيّر شكل الحياة إلى ما يشابه المجتمع الأمريكيّ. 

في سبعينات القرن الماضي ومن مركز الرأسمالية على كوكبنا، مدينة نيويورك، وفي أحياء منطقة البرونكس، كانت تقام ما تُعرف بالحفلات الحاراتية التي يرحب إليها بكل سكان الحارة أو الشارع. كان الأفراد الأوائل الذين نسّقوا لهذه المناسبات عصابة شوارع من البرونكس، عُرفوا باسم .Black Spades كانت تُنصب أنظمة الدي جي مع مكبّرات الصوت ويديرها مختصّوا الأقراص الدوّارة، ويشرف على تنظيم الحفل مختصّ يُدعى رئيس التشريفات، Master of Ceremonies أو الإم سي، ويشارك في المناسبات هذه فنانون من مغنيين وراقصين، ويحضرها سكّان الأحياء الفقيرة المهمّشة. انتشر في هذه المناسبات استخدام ايقاعات من أغاني الريغي الجمايكية، ومن أسلوب غناء الريغي السريع أتى إلى الوجدان نوع جديد من الغناء السريع المكثّف على إيقاعات طبول الريغي السريعة وسمّي الأسلوب الجديد بالراب. يعود تسمية الأسلوب إلى الفعلRap  والذي اختلفت معانيه ما بين "اللكم بشكل خفيف وسريع" و"المحادثة" و"المخاطبة بشكل مفتوح"، أي للحضور أجمعين، وقد تأصّل الأسلوب في العادات الغنائية لمجتمعات غرب إفريقيا حيث كان الجريوتس، الحكواتيون والمؤرخون والشعراء والموسيقيون، يلقون القصص أو القصائد بأسلوب سريع ومقفّى على إيقاع الطبول. وفي مجال الرقص، تطوّرت إحدى أصعب أشكال الرقص المعروفة بالبي-بوي أو البريكدانس، واشتهرت على نطاق واسع لتنضم إلى ثقافة جديدة أطلق عليها إسم الهيب-هوب، وكانت إحدى الثقافات التي صعدت متحديةً ثقافة التيار الدارج وأعطت الأهمية للطبقات الدنيا من المجتمع الأمريكي، وتميّزت الثقافة بشعاراتها الخاصة وأزيائها الملحوظة.

توسّعت ثقافة الهيب-هوب إلى خارج ولاية نيويورك ثم إلى خارج الولايات المتحدة، وظهرت في صناعة الأفلام كنوع خاص في المجال، وسرعان ما اجتاحت العالم كله في أوائل قرننا هذا مع انتشار أجهزة التلفزة ولاحقا شبكة الإنترنت في الدول العالم الثالث. إلا أن هذه الثقافة وصلت لنا مشوّهة، حين كانت في آخر مراحلها وبعدما تمت السيطرة عليها من قبل الحكومة الأمريكية من خلال شركات التسجيل الكبرى، فاختلف شكلها ومواضيعها وجوهرها المناهض للرأسمالية وكانت قد أصبحت من أغلى السلع الأمريكية في بقية العالم، عندئذ، لتستخدمها الولايات المتحدة كأكبر حملة تسويق للثقافة الاستهلاكية التي وجّهت ضربة عظيمة، لا نعيها حتى وعيا جزئيا، للثقافات المحليّة في شتّى أنحاء الكوكب.

نجد شريحة من مجتمع أيّ دولة قد نزورها تقوم بممارسة شكل من أشكال الهيب-هوب، وبالتخصيص غناء الراب، كمحاولة للتعبير أو إحداث تغيير في المجتمعات التي ظهر فيها، غالبا ضد الصراع الطبقي أو النزاعات السياسية. إلا أن هذه المحاولات لتصدير تلك الثقافة ودمجها وقولبتها لتكون مناسبة للمجتمع الجديد الذي يطلبها، لم تكن أبدا ناجحة – نسبيا – إذا ما قارنّاها بشكلها الأصليّ في مكان ولادتها، الولايات المتحدة. سنطرح في هذا المقال تفسيرات قد تجاوب على سؤالنا؛ كيف ولماذا فشلت ثقافة الهيب-هوب بتحقيق مبتغاها في داخل وخارج الولايات المتحدة؟

١- في داخل المجتمع الأمريكي

يواجه فن الراب، وهو الأسلوب المتحدّث باسم الأساليب الأخرى في ثقافة الهيب-هوب، تناقضات في داخله منذ ولادته. كانت بداياته كفنّ شعبي مقتصرة حصريا على الطبقة السفلى من المجتمع الأمريكي، لكنه لم يكن يخاطب أية من القضايا التي تواجهها هذه الطبقة، وكان الهدف منه فقط إمتاع الحضور في الحفلات، ويشبه في ذلك غناء سهرات الأعراس في فلسطين، مثلا. عندما انتقل الفن إلى المرحلة التالية وأصبح يهدف إلى مخاطبة مشاكل المجتمع وأعطال النظام، رافق ذلك أن الفنان نفسه يجب أن يكون انعكاسا للإنسان النموذجي في المجتمع (وهو ما لم يحدث على الأقل بصورة صادقة في التبنّيات العربية لفن الراب) وبالتالي أن يتباهى بكلّ ما يقف هو ضده. مثال على ذلك: يتباهى مغنّي الراب بحوزته واستخدامه للأسلحة، فغايته هو أن يكون مرآة لمجتمعه، وعندما يزدريه مجتمعه ويهاجمه على ذلك يكون بهذا قد هاجم الشرّ الكامن فيه، ولكن في خلال العمليّة الفنية هذه يكون قد أصبح المغني هو عكس ما يتمنى أن يكون عليه أبناء مجتمعه تماما – من أجل إيصال الفكرة. رافق هذا التناقض فنّ الراب من بدايته وكان سببا في نهايته، حيث كانت محاربة الرأسمالية تتمثّل في أن يستحوذ الرجل الفقير على قدر ما يمكن من الأموال (ويتمثل هذا حتى اليوم في الفيديوهات الغنائية) والمجوهرات والفخامة، إلخ. فصار ما كان من المفترض أن يكون انتقاما من النظام هو فقط انخراط فيه. إن مستقبل أي فنان ناجح، مهما كان، هو الثراء، وبالتالي الابتعاد عن الأرض الفنية التي انتقل منها. وفي داخل نظام عديم الرحمة و كذلك الأمريكي، لا يمكن للفنان أن يرفض.

مثال آخر على التناقضات في داخل الفنّ هو موقفه من المرأة؛ نجد تمجيدا للمرأة السوداء لقوتها وصلابتها في تحمّل مشاقّ الحياة وتربيتها لأطفالها في ظل ظروف مستحيلة، وذمّا بالرجال الذين يتركون أبناءهم وأمهاتِهم لوحدهم، وبينما يدعو الفن الإناث لأن يكنّ مستقلات وغير ماديات، نراه أيضا يتباهى بالنساء كجوائز ينالها الرجال بعد كسبهم الماديات ونرى ذمّا عامّا بالنساء و"تشييء المرأة" التي تصبح بعد كل هذا غير واضحة؛ هل هي الأمّ الحنونة والمرأة الثورية الصلبة، أم هي سلعة في مجتمع يفرض عليهن الماديّة؟ لم يستطع الفن أن يصل إلى جواب، وعندما سقط إلى التيار الدارج أصبحت المرأة فيه مجرّدة من أي روح أو تاريخ، ومجرد جسدٍ للزينة.

تحوّلت الطبيعة الذي تسير فيه الثقافة المناهضة الجديدة، من التوجّه من خارج النظام المسيطر على سوق الثقافة العامة إلى داخله، بمعنى أن هذه الثقافة الجديدة في البداية كانت تفرض على السوق ما تريد هي أن تسوّقه (القضايا الاجتماعية والاقتصادية والعرقيّة، مثل الصراع الطبقي والقتل والمخدرات والعنصرية ضد الفئات كالسوداء واللاتينية\الهسبانية، إلخ) من أجل لفت النظر لهذه القضايا على أمل معالجتها في نهاية المطاف. لكن قبل أن يتم ذلك، أصبحت الثورة الجديدة، مثل أي ثورة، سوق جديد بالذات لدى النظام الذي من المفترض أنه العدوّ، أي السبب الذي خُلقت هذه الثورة ضده، وذلك من خلال ضخّ الأموال الطائلة إلى داخل الثقافة (كإنتاج الفيديوهات الغنائية من جانب الشركات الكبرى والأفلام من جانب هوليوود وتنسيق الجولات العروضية في داخل وخارج القارّة الأمريكية). هذا التحوّل الذي بدأ في التسعينات واكتمل في عد الألفية الجديدة حتى يصل ذروته في اللحظة الحالية، كان إطاحةً ممنهجة للثقافة الجديدة التي كانت تهديدا للسيطرة الإقليمية للحكومة على المناطق المهمشة (مثلما يحدث في كل دولة، في كل إقليم يصل حضيضه ويحاول الاستقلال ماديّا، خالقا بذلك محور قوة جديد).

خلاصةً، ممكن أن نقول إن المعايير التي وضعتها الثقافة لأبنائها كانت غير واضحة، غير مستقلة وفي أحيان ما مطابقة لمعايير العدوّ، وهو النظام الرأسمالي أو الرجال المسيطرين أو الطبقات العليا. كانت المسألة مسألة وقت حتى تتحول الثقافة المناهضة إلى سلعة.

لماذا يهمنا نحن، كعرب أو متحدثين باللغة العربية، أيٌّ من هذا الكلام؟

الجانب الجذّاب في ثقافة الهيب-هوب هو كونها مخصصة لبيئة معيّنة جدّا، وهذه البيئة هي المدينة، وعلى وجه التحديد، المدينة في سياق النظام الرأسمالي. لا يمكننا الافتراض، مثلا، بأن لو كانت جذور الهيب-هوب سلاڤية ولو كانت قد انبثقت في إحدى الدّول السوڤييتية، لكانت قد ظهرت بالشكل نفسه لمعالجة القضايا ذاتها التي يواجهها المجتمع النقيض، وهو الأمريكيّ. أو أنها لو كانت قد ظهرت في مجتمع غير متمدّن، مثل الريف في حوض المتوسّط أو الصحراء المغربية، لكانت قد تشابهت مع شكلها الحاضر – فلا يمكن حتى فيزيائيا لفنّ البي-بوي أن ينبثق في الأراضي الجبلية أو السهول الترابية غير المعبّدة بالإسمنت.

لقد تزامن، بالتالي، انتقال الثقافة إلى الدّول العربية (وغيرها) مع تحوّل النظام المجتمعيّ-الاقتصاديّ من الزراعيّ إلى المدنيّ – حيث يتحوّل الاعتماد على الطبيعة والمحيط إلى الاعتماد على التوظيف وتقسيم المجهود – وبناء على ذلك، تغيّر شكل الحياة إلى ما يشابه المجتمع الأمريكيّ. 

لماذا إذن على مجتمع ذو ثقافة عمرها آلاف السنين أن يتبنى ثقافة أخرى لا يتجاوز عمرها البضع عقود من أجل مخاطبة قضاياه؟ من جانب، إن ثقافتنا تُمسح نسبيا وسط الأجيال الشابة على يد الاستعمار، الفيزيائي منه والاقتصادي، وبالتالي يبحث كلّ جيل عن ثقافة تخاطب قضاياه الشخصية لينضم لها ويحتمي بها. ومن جانب آخر، إن الأغلال السلطوية التي تقيّد ثقافتنا وتحرمها الحريّة في التعبير والحياة تقف عائقا أمام الفنّانين، ومصدرها السلطات بكل أشكالها، من الذكور والعشائر ورجال الدين ورجال الأعمال والحكومات والأيادي الممتدة من الخارج.

٢- في داخل المجتمعات العربية

يلعب عدم التزامن دورا كبيرا في تحوّل شكل ثقافة الهيب-هوب أثناء انتقالها لمجتمعاتنا. ففي العصر الذهبي للهيب-هوب، وهو التسعينات، لم تكن النقلة الحضارية قد حلّت بعد على الغالبية العظمى من مجتمعاتنا، التي كانت ما تزال عربيّة الطابع من ناحية الثقافة وأسلوب الحياة، ولم تكن حتى أكبر مدننا بمستوى أن تقارن بتلك الأمريكية من ناحية نوع وحجم المشاكل. لم تنتقل الثقافة بكامل عناصرها إلى بلادنا إلا بعد أن كانت تشارف على التداعي في موطنها الأصليّ، ويعنى بهذا الفساد الداخليّ ونهاية الرّوح الثورية في داخل الثقافة بعد أن أصبحت مجرّد سلعة تجارية تقف على أطلال أصولها وتستمد منها الربح. عند وصولها إلى هذه المرحلة، تصادف التغيير الحياتيّ الذي طرأ على مجتمعاتنا. ومع تطور التكنلوجيا الذي دفع العولّمة دفعة غير مسبوقة، وصلتنا أول الثقافات الأجنبية من خلال أجهزة التلفزة، وكانت هذه الثقافة هي ثقافة الPop الأمريكية والتي اشتملت كلّ هياكل الثقافات الفرعية السابقة ممزوجة في شكل واحد غير مفهوم، هدفه حصد أكبر مبلغ ممكن من الربح من سوقه الجديد الذي تم افتتاحه للتوّ. كان هذا السوق هو نحن، العرب، إلى جانب كل الدول المستعمَرة اقتصاديا.

من العوائق التي تقف أمام الثقافة الجديدة هو عدم المألوفية، فكما ذكرنا إن هذه الثقافة وليدة مجتمع في الجهة الأخرى من الكوكب، وكل عناصرها من حيث المظهر والملبس والإيقاع والحركة (سواء في الرقص أو المشي) وشكل البيئة المحيطة، الخ. غريبة على حواسّ الثقافات الأخرى، والعرب بالتحديد، الذين يمتدّ تاريخهم في الصحاري وبين الجبال، وتعتاد حواسهم الألحان الشرقية والأراضي المضرّسة. لذا عند سماعهم، مثلا، إيقاع أغاني الهيب-هوب (التي تختلف في ترتيبها للـ"دُم" وال"تَك"، المسماة بالانجليزية الـkick والـsnare) وألحانها الغربية التي ترتكز على النوتات السبعة الأساسية بالإضافة إلى أنصاف النوتات (الـ"بيمول" أو الـ"دييز")، بينما ترتكز الشرقية على كليهما بالتساوي بالإضافة إلى أرباع النوتات، أي أنصاف الأنصاف، تستغرب الأذن العربيّة من اللحن الجديد، وكلمة استغراب توحي حرفيّا بالـ"نَسبِ إلى الغرب"، وتحتاج للوقت والحافز لتفهم الموسيقى الجديدة التي تختلف مثلها مثل اختلاف اللغات.

لربما أن أقرب نوع موسيقى عربيّ إلى الهيب-هوب هو الشعبيّات المصرية المعروفة بالمهرجانات، حيث أنها جوهريا انطلقت نفس الانطلاقة من الأحياء الشعبية المصرية كما الهيب-هوب في الأمريكية، وابتدأت بنفس الغايات وهي إحياء الحفلات وإنتاج الألحان المناسبة للرقص، فإن بداية الهيب-هوب كانت مستوحاة من ثقافة الديسكو السائدة حينها (للقصة الكاملة بالتفصيل عن نشأة وتطور الهيب-هوب من البداية حتى يومنا هذا، ننصح بمشاهدة المسلسل الوثائقي Hip-Hop Evolution الذي أنتجته شركة نِتفليكس). رغم الفروقات التي لا تحصى بين الثقافتين وأسلوبَي الغناء، إلا أن هنالك مشابهات عديدة مطابقة بينهما.

من الحواجز الأخرى التي تمنع دمج الثقافتين هو حاجز اللغة، فبينما يمكن لعناصر الهيب-هوب الأخرى كرقص البي-بوي والرسم على الجدران ("الجرافيتي") والإيقاع الفموي (البيت-بوكس) والدي-جي أن تنتقل دون ترجمة، يبقى العنصر الرئيسي للهيب-هوب، وهو اللغة، مفقود ، وبالتالي تضيع عبقرية وثورية وجوهر الثقافة لأنه ببساطة لا أحد يفهم ما كانوا يقولونه، وبالرغم من أن فن الراب هو من أكثر الفنون صلةً ومخاطبةً لقضايا مجتمعاتنا الحالية ويُعنى جوهريا بمعالجتها، إلا أن اللغة الأصلية سقطت في طريق سفر الهيب-هوب عبر القارات، ووصلنا إطارها دون المحتوى.

ثم إن ثقافة الهيب-هوب هدفت، بعد وصولها التيار العام، على "خدش الحياء العام" من خلال استخدام اللغة الصريحة والألفاظ التي تعتبر بذيئة وغير مقبولة علناً، وكانت الغاية هي إظهار هذا الجانب المهمش من المجتمع الذي يتظاهر الكلّ بعدم وجوده. كما عملت الثقافة على تحرير الجسد من التحريم والمعايير الاجتماعية التي كانت قد وضعتها الديانات على جيل الشباب، وتلك الديانات بدورها كانت قد انتقلت إلى الشعوب المستعمَرة (في الدرجة الأولى الأفارقة واللاتينيين، وهنا بالتحديد المكسيكان في الولايات المتحدة) على يد المستعمِر نفسه الذي اعتبر نفسه في مهمة إلهية لإنقاذ هذه الشعوب من الظلام وجلبهم إلى الحضارة، بينما كان العنوان الحقيقي هو إحضار العبيد من تينك القارتين لبناء الدولة الجديدة – الأفارقة في سكك الحديد والمكسيكان في بناء المنازل –. قامت ثقافة الهيب-هوب بتحدي الاتّكالية العامة على الدين، لأن موقف الأجيال السابقة تجاه المصاعب كان عنوانه الصّبر حتى يحين الفرج الربّاني، أما في جيل الثمانينات لم يكن قد بقي مجال للصبر لأن جيله شارف على العدم. تلى ذلك أن الجيل الجديد لم يعد عبدا للمعايير القديمة، وبالتالي يمكن للجسد أن يتحرك ويرقص ويلعب كرة السلة ويقدم العروض أمام الجماهير، وكانت هذه خطوة كبيرة في تمكين المرأة أيضا في حرية الرأي والشكل والعمل وما إلى ذلك. ظهرت فرق الرقص في كل أنحاء البلد واكتسح أفارقة أمريكا الرياضات الوطنية وتمكنت الشابات من المشاركة في هذه الثورة بالقدر نفسه، حيث صعدت مغنيات الراب إلى نفس المستويات مع حرية اختيار الشكل والملبس والألفاظ وما إلى ذلك. من الصعب تخيّل نقلة كهذه تحصل في المجتمعات العربية، وإن حلصت فلن تكون بالشكل نفسه بحيث لن نتمكن من المقارنة أصلا، والسبب هو اختلاف الشعوب وقضاياها وغاياتها وتواريخها.

في الختام، يمكن إدلاء سبب أخير في فشل تصدير ودمج وتصعيد ثقافة الهيب-هوب في المجتمعات العربية، فإلى جانب تمركز شركات الإنتاج الكبرى في دول معينة وتحت شروط مذعنة، إن مجتمعاتنا، على الأقل في مراحل كهذه، وربما على امتداد التاريخ، مجتمعات مستهلكة وليست منتجة. لعلّ تاريخ العرب التجاري الذي أبقانا على قيد الحياة، من خلال وصل الشرق بالغرب بالجنوب والشراء والبيع باستمرار، ما زال حيّا في داخلنا اليوم، أو لعله واقع جديد فرضه الاستعمار الفيزيائي والاقتصادي، أو لعل كلاهما يجتمعان ليقتلان فينا الروح الخلاقة، ولكن هذه مجرد تخمينات.

ماذا على فن الراب، إذن، أن يفعل من أجل أن يُحدث التغيير الذي أحدثه عند الآخرين سابقا عندنا اليوم؟ كيف لهذه الفنون وغيرها أن تندمج في مجتمعاتنا، أم هل عليها أن تندمج أصلا، أم أن تبزغ بدلا عنها فنون أصيلة وجديدة الشكل، غير مستعارة؟ لماذا تفشل باستمرار الفنون الجديدة من الصعود إلى مراكز قوة حقيقية، وأي نَواحٍ من مجتمعاتنا وأيديولوجياتنا تمنع حدوث أي تغيير مهم؟ هل المشكلة داخلية، أم هي الأيادة الطائلة من الخارج؟