الروائي العربي بين نيران والتباسات كثيرة

2020-12-05 15:00:00

الروائي العربي بين نيران والتباسات كثيرة
Collins St, 5p.m., 1955, John BRACK

ما يحصل أن الجوائز تركز على أعمال محددة، تبدأ الصحافة الثقافية باللهاث وراءها وتسليط الأضواء عليها وتتجاهل أعمالاً قد لا تكون دونها قيمة وقد تتفوق عليها، لكنها لم تتقاطع مع الذائقة الشخصية لأعضاء اللجان.

إذا كنت روائيا عربيا فهناك أكثر من معادلة يمكنك التقيد بها إذا أردت الرواج، سواء عبر مدح ما كتبت أو عبر ذمه والهجوم عليه أو ربما تهديدك بالقتل أو الاعتداء الجسدي عليك.

المعادلة بسيطة ولها شقان: إما التماهي مع متطلبات السائد أو الخروج عليه وتجاهل محرماته. في العالم العربي يطلقون على هذا "السائد" مسميات كثيرة، منها "ثوابت وطنية" أو "أخلاقيات" و "قيم الشعب ". والمذهل أن "السلطة" و"الشعب" يتضافران في هذه الحالة "لحماية المجتمع وقيمه " من تهديد "الحرف المارق".

لعل أحدث الأمثلة الكاتب المصري أحمد ناجي الذي حكم بالسجن بسبب روايته التي تحمل عنوان "استخدام الحياة" التي صنفت على أنها "خادشة للحياء العام" وبالتالي تدخلت "الدولة" بجلالة قدرها لحماية هذا "الحياء" العام من خدش تسببه حروف رواية، وحكم على الكاتب بالسجن.

ما حصل مع الكاتب الفلسطيني عباد يحيى بسبب روايته "جريمة في رام الله" كان أكثر إيلاما ربما، فرغم أنه لم يحكم بالسجن لأنه، حسب ما أعرف، يعيش خارج مناطق السلطة الفلسطينية، لذلك لم يتمكن المدعي العام الفلسطيني الذي أصدر أمرا بمصادرة روايته وفتح للكاتب وروايته ملف تحقيق جنائي، لكنه لم يتمكن، موضوعيا، من إصدار أمر بإلقاء القبض عليه وإيداعه السجن، إلا أن روايته صودرت من المكتبات.

أما رد الفعل الشعبي فلم يكن أقل عنفا، فقد اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي هجوما أخلاقيا على المؤلف، ووصل الأمر إلى درجة التحريض عليه وتهديده بالقتل. وعلى مستوى "النخبة" اتخذت المحاكمة الأخلاقية شكلا "أرقى" قليلا، فقد تعرضت الرواية لهجوم "نقدي" في ظاهره، لكن جوهره أخلاقي. 

أردت أن أسوق مثالين صارخين من بلدين عربيين لإضاءة أزمة الإبداع في العالم العربي، حيث يقيم العمل الإبداعي باستخدام اعتبارات من خارجه، إما أخلاقية أو دينية أو سياسية. حتى حين لا يكون التعاطي مع العمل الإبداعي على هذه الدرجة من العنف المباشر والعدوانية فإن المبدأ الذي يعتمد، عادة، لا يختلف كثيرا.

النقد الجمالي والنقد القيمي

منذ مقولة الفيلسوف الروماني هوراتيوس Horace الذي ربط قيمة الشعر بقيمته المعرفية وقدرته على الإمتاع (Teach and Delight) عرف العالم العديد من نظريات الجمال ونظريات الأدب ،التي أسست لمبادئ النقد الأدبي والفني الحديث.

كما هو معروف لا تملك الثقافة العربية نظرية أدب خاصة بها، وهذا في حد ذاته ليس مشكلة، فليس مطلوبا من كل ثقافة أن تؤسس نظرية نقدية خاصة بها، بل تستطيع الشعوب المساهمة الخلاقة في المبادئ الكونية لأسس تذوق الأدب دون نظرية خاصة بلغتها وثقافتها.

لا أريد هنا استعراض الجهود الفردية الجادة التي لم تؤسس لتوجه تراكمي يمكن أن تتمخض عنه "نظرية" أو حتى ثقافة نقدية متينة التأسيس، ففي هذا المقال أحاول فقط تشخيص المشهد الحالي، خاصة المشهد الفلسطيني .

في المشهد النقدي الحالي يمكن ملاحظة عنصرين بينهما هوة سحيقة: عنصر "التنظير الفلسفي"، حين يعمد "المنظر" أو "المثقف النقدي" أو "الناقد"، لا أدري ما هو التصنيف المناسب، أو بماذا يفضلون أن يوصفوا، إلى كتابة أطروحات فلسفية في ظاهرها لكنها سياسية حتى النخاع في جوهرها، تتضمن الكثير من المفاهيم الهلامية والصياغة الشاعرية الوجدانية، في معرض تقييمهم لعمل روائي.

"يبدع" هؤلاء حين يتناولون رواية "سياسية" الطباع بالمفهوم المباشر، أي رواية تتناول "نكبة الشعب الفلسطيني" أو "مذابح الشعب الفلسطيني" او "ثورة الشعب الفلسطيني" أو "انتفاضة الشعب الفلسطيني".

يتحرى المحترفون منهم الجودة والحق يقال، فيصولون ويجولون في إضاءة نقاط القوة والجمالية في رواية جيدة، لكن بشرط أن تقع الرواية ضمن الفئة المذكورة أعلاه. يعني لن يكلف أحدهم خاطره بالكتابة عن رواية تتناول مأساة امرأة فلسطينية اكتشفت "الأورجازم" أو الرعشة الجنسية للمرة الأولى بعد 30 سنة زواج.

مهما كانت القيمة الأدبية لرواية كتلك ومهما أبدع مؤلفها في رسم ملامح شخصياته وهندسة مشاهدها وصياغة لغتها فلن ترقى إلى ما يلفت انتباه النقاد المحترفين ولا البرامج الثقافية النخبوية ولا حتى الشعبوية.

وحتى لا يظن ظان، وإن بعض الظن إثم، أن "بعبع الجنس" هو السبب، أؤكد أن رواية تصور معاناة المسنين مثلا في المجتمع العربي، الذين كانوا على مدى قرون ينعمون بدفء العائلة التي كانت تتكفل باحتياجاتهم المادية والمعنوية ثم حصل تغير نوعي على وضعهم في العقود الأخيرة، رواية كتلك لن تحظى باهتمام نقدي يذكر.

في العقود الأخيرة عرف المجتمع ثقافة بيوت المسنين، وهي ثقافة غير مؤسسة مهنيا، لكن ظروف التطور الاقتصادي للمجتمع واضطرار الجميع، رجالا ونساء للعمل فرضها. كيف يعيش المسنون في بيوت العجزة في مجتمع مؤسس على ثقافة الأنس والتواصل؟ مرة أخرى، قد يغامر روائي عربي ويكتب عن هذا الموضوع وقد تعجب البعض ، قراء ونقادا، لكن لن يجد فيها "المنظرون" تربة خصبة لخواطرهم الفلسفية وتنظيرهم السياسي، لذلك سيكون مصيرها التجاهل أو قلة الاهتمام .

ماذا عن الاختلاف؟

لكن ماذا لو اختار روائي الكتابة عن تلك المواضيع المفضلة للقارئ والناقد والصحفي الثقافي؟ ماذا لو تناولت روايته مواضيع سياسية صارخة أو قضايا اجتماعية /أخلاقية حارقة ، لكن بنفس وإضاءة مختلفة؟

هذا يتوقف على طبيعة "النفس المختلف".

هناك وصفة لا تخيب: الاقتصاد في الألوان والظلال.

لو أردت اهتماماً جارفاً لا يكفي أن تكتب عن "مآىسي الشعب الفلسطيني"، عليك أن تبدع في صياغة لوحات باستخدام لونين فقط: الأبيض والأسود.

طبعا يمكن الإبداع باستخدام اللونين الأبيض والأسود كما نعرف من عالم الرسم، خاصة إذا كان الفنان ماهراً في استخدام الظلال. لا مشكلة في اللوحات ذات اللونين بظلالهما، لكن اضطهاد بقية الألوان هو المشكلة.

إذا كتبت عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وأجدت في تصوير ما يترتب عليه من مآس ومعاناة فروايتك ستحظى بالاهتمام، هذا مؤكد. بمعنى، ستتناولها الصحافة الثقافية ويكتب عنها النقاد المحترفون وغير المحترفين. لكن ماذا سيكتبون؟ حسب ما يصلهم منها. إذا خرجت عن المعادلة ذات المدلولين فعلى الأغلب لن تحظى بنقد احترافي، بل ستكتب عنها مقالات سياسية هي في جوهرها هجوم عليها، لكن على الأقل لن يتجاهلوها. سيحللونها باستخدام أدوات نقدية فقيرة.

نفس الشيء سيحصل إذا تناولت قضية محظورة أخرى كالجنس مثلاً. سيكتبون عنها، لا بهدف إضاءة جماليتها (أو عكس ذلك)، لكن بدافع تشريحها "أخلاقيا". هناك طبعاً وصفة أخرى لانتزاع الاهتمام من النقاد: الهبوط على الواقع الأدبي العربي بالمظلة. لعل رواية الكاتبة العمانية جوخة الحارثي "سيدات القمر" أوضح مثال على ذلك.

صدرت الرواية باللغة العربية ولم تحظ باهتمام نقدي يذكر، فهي لا تحقق المعادلة المطلوبة للاهتمام النقدي العربي من حيث موضوعها: لا قضايا سياسية، اجتماعية، أخلاقية حارقة ومباشرة تنتزع التصفيق أو الهجوم، ليست عن الاستعمار ولا عن اضطهاد المرأة ولا عن المثلية الجنسية أو التطبيع مع العدو.كما أن نبرتها هادئة وسردها كلاسيكي. كل العناصر الكفيلة بقتل حماس القارئ والناقد العربي والصحافة الثقافية متوفرة فيها، فكان مصيرها التجاهل تقريبا. رشحت لجوائز أدبية عربية ولم تصل حتى لقوائمها الطويلة. ثم جاءت المفاجأة. فازت بجائزة "مان بوكر" البريطانية المرموقة. هنا بدأت الصحافة الثقافية العربية باللهاث خلفها واستعراض مناقبها وكنوزها الدفينة.

"كارثة" الجوائز الأدبية

أما المفارقة في هذا السياق فهي الجوائز الأدبية العربية التي يفترض أن تساهم في تنشيط المشهد الإبداعي، وقد تكون ساهمت بشكل محدود في ذلك، لكن تلك المساهمة لا ترقى إلى حجم الأموال التي تنفق على هذه الجوائز، قيمتها النقدية وتكاليف مهرجاناتها وفعالياتها.

وحتى لا نظلم الجوائز فالخلل ليس فيها بالضرورة، بل في خمول المشهد النقدي كما أسلفت وكسل النقاد والصحفيين الثقافيين الذين يلهثون بدورهم خلف خيارات الجوائز الأدبية ويتجاهلون ما عداها. وبدل أن يكونوا من يساعد الجوائز في خياراتها هم في الحقيقة يعملون "مروجين" لخيارات الجوائز.

من المعروف أن الجوائز الأدبية، ومهما حاولت التقيد بالشروط المهنية والموضوعية، فإن خياراتها في النهاية محدودة ، ومن الغبن ربط قيمة الأعمال الإبداعية التي ترى النور بخيارات اللجان التي حتى لو تحلت بالحد الأقصى من الموضوعية المؤسسة على المعرفة فإنها لن تتمكن من حصر القيم الإبداعية للنتاج الأدبي الكلي.

ما يحصل أن الجوائز تركز على أعمال محددة، تبدأ الصحافة الثقافية باللهاث وراءها وتسليط الأضواء عليها وتتجاهل أعمالاً قد لا تكون دونها قيمة وقد تتفوق عليها، لكنها لم تتقاطع مع الذائقة الشخصية لأعضاء اللجان.

ستجرى المقابلات مع المؤلفين ويدعون إلى المهرجانات والفعاليات وتكتب المقالات عن أعمالهم وذلك بطريقة التدوير: اللجنة تختارهم فيكتب عنهم الصحفي الثقافي والناقد فتدعوهم المهرجانات ومعارض الكتب وربما لفتوا انتباه لجان جوائز أخرى، وهكذا، والضحية هنا هي القيمة الموضوعية. ستبقى في الظل أعمال مميزة لكن لم تحالفها الذائقة الفردية لأعضاء اللجان.

إذن، في ظل كل هذه العوامل التي تحاصر المبدع العربي وهذا المناخ غير الصحي ربما أصر من لا يلهث وراء الأضواء والجوائز على الانتصار للكتابة وواصل الإبداع والنشر، لكن حظ مجتمع القراء والنقاد والمجتمع من نتاجه سيكون محدوداً، ومساهمته الجمالية والمعرفية في ثقافة المجتمع كذلك ستبقى واهية.