غزة... من أرضٍ للهنود الحُمر إلى مدينة

2020-12-10 13:00:00

غزة... من أرضٍ للهنود الحُمر إلى مدينة
Tayseer Barakat, Untitled#12

خربت البلاد، تلت الحروب بعضها، يبست من سنوات الحصار، تغيرت شوارعها ومعالمها في قصف وراء الآخر، انهالت عليها المعونات، استمات مالكوها كي تكون قطرية أو تركية أو سعودية، لكن بقي البحر على حاله. لم يتغير.

لم أذهب يوماً إلى مدينة بها شاطئ إلا وأحيله إلى غزة... كلّ شواطئ المتوسط وجدتُ بها شاطئ غزة؛ الإسكندرية. نابولي، بيروت. لم أفكك يوماً من امتداد الشاطئ الأكبر. فكل الشواطئ أراها صغيرة تأخذني إلى الشاطئ الأم غزة.

كلّ ما صاحب الشاطئ من محرمات لم يغبش ذكرياته داخلي... فإن تقول فتاة إنّها ذاهبة إلى الشاطئ، كأنها تقول إنني سأذهب كي "أصيع"، فهو يرتبط في المخيلة بالحرية الفالتة، إذا صح التعبير، فمثلاً أذكر حين عدنا من الإمارات للاستقرار في جنوب قطاع غزة بالنصف الثاني من التسعينات، اتصل أقاربي بوالدي الذي بقي بالإمارات بسبب عمله، واشتكوا إليه ابنته "الصايعة" التي اصطحبت أخوتها الصغار إلى البحر وحيدة، أذكر أنّ والدي وقتها كلمني بين الضحك والجد وقال لي "هم مش متعودين يا بابا"، احتار كيف سيشرح لي الأمر، وهو الذي جعلني سكرتيرة مكتبه وأنا في الرابعة عشر من عمري لتشجيعي على الاستقلالية.

وهذا الزمن بالذات كانت غزة وقتها أقرب ما تكون إلى المدينة، إذ مر ثلاثة أعوامٍ على قدوم السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة إلى القطاع، وتوقيع اتفاقية أوسلو، نقلوا إليها "العائدين" عادات المدينة، كما بقي أهل المخيمات يطلقون عليهم "العائدين" حتى يومنا هذا، لكن الحرب الاجتماعية الضروس كانت على أشدها وربما هذا بالضبط ما دفع أقاربي إلى الاتصال بوالدي أنّهم خافوا أنْ أحمل صفات "العائدين" واعتبار البحر شيئاً عادياً للتنزه.

وإن فكرة الحرية الخاطئة التي تقترن بالبحر وكأنّ هذا البحر سيفسد المدينة، ليست ثيمة جديدة على العقول، يقول سليم تماري في كتابه "الجبل ضد البحر": "في فلسطين، وصلت العداوة نحو البحر ذروتها خلال سنوات الانتفاضة وبخاصة الأعوام بين 1989 و1992؛ حين تضافرت القوى الوطنيّة والإسلاميّة على إبعاد المتنزّهين رجالاً ونساءً عن شواطئ غزة ورفح وخانيونس، وفي منشور تكررت فحواه لاحقاً دعت القيادة الموحّدة للانتفاضة في 25 إبريل 1990 إلى التمسك بالأخلاق والحشمة، وأدانت بكلماتٍ صارمةٍ أولئك (الذين يرومون شواطئ البحر... ويتعرّضون لقيمنا وتقاليدنا وأخلاقنا غير آبهين بدماء الشهداء) ".

ويضيف تماري أنّ ثقافة الحزن المقاوم أو المقاومة الحزينة، المعزّزة بأخلاقياتٍ دينيةٍ صارمة ليست غريبة عن سواحل المتوسط الشرقيّة، فقد وجدت عبر القرون في اليونان ويوغوسلافيا ومقدونيا والأناضول، في تجمعاتٍ مسيحيّة وإسلاميّة.

الآن في قطاع غزة اختلف الوضع، الفتيات يزرن الشاطئ كاستراحة من المدرسة أو الجامعة بالرغم من العيون الفضولية وكاميرات الصحافة المسيّسة... يبيع الأطفال البسكويت، يجمع الصيادون شباكهم لإعادة إصلاحها، أليس هذه كل علامات مخيم ينحو ليصبح مدينة؟

من المهم أن يصبح في لحظة التحول هذه الأشخاص إلى نكرات، لا يعرفون بعضهم البعض، فلا يُبلّغ سائق تاكسي ما جيرانه أنه شاهد ابنهم على الشاطئ، فإنّ هذا الارتباط الحثيث الذي يجعل غزة وكأنها قبيلةٌ واحدة يمنعها حتماً من أن تصبح مدينة، فأفراد القبيلة يخشَون أن يراهم أفراد القبيلة الآخرين، والعكس صحيح، لذلك فإنهم يبقون معروفين لدى بعضهم البعض، سلوكياتهم وعادتهم متشابهة ونسخاً عن بعضها البعض، كما للحرية قالب واحد.

"إذا كان لمدينة غزة تاريخٌ طويلٌ، فإنّ قطاع غزة هو حديث العهد"، هذا ما يقوله ريتشارد روسين في كتابه "عناصر قطاع غزة".

إنّ فكرة قطاع غزة المترابط منع دوماً المدينة أن تتشكل لتكوّن ذاتها على الرغم من تاريخها الضارب في الأصالة وتمردها كمدينة لأن تكوّن نفسها، لكن ارتباط القطاع، أي القطاع الجغرافي كيابسة أمام البحر منعها من التحرر من مجموع العادات والأفكار العامة.

إنّ فكرة المدينة كانت دوماً تُشكل رعباً للاحتلال الإسرائيلي حين استولى على القطاع عام 1967، حتى مع تأمينه شبكة الكهرباء والمياه، لذلك كان مصطلح قطاع أكثر راحة من ساحل غزة مثلاً، فالمصطلح كما يقول المؤرخ الفرنسي جون بيير فيلي كولونيالياً؛ فالبحر رآه الاحتلال أنه عاملٌ سياديّ لهذه القطعة، وحرية أيضاً وخشي على سطوته منه.

ومع كل هذا العداء الداخلي والخارجي للبحر والخوف منه إلا أنّه لا يوجد شيء منح غزة فرصة أنْ تكون مدينة كما فعل البحر على امتدادها من الشمال إلى الجنوب في مدينة رفح، إنّ فعل السباحة والتنزه والمياه الواسعة كان أقرب ما يكون لجعل هذه القطعة المحاصرة من الأرض تشبه العالم. فالغزيّ لا يشبهه أحد، إنه كهندي أحمر يتمنى أن تنطبع الأرض باسمه، وكغجري في ترحاله يبحث عن الاستقرار، وكأفريقي أسود حين يقترب أحد من وصفه.

إنّ المدينة تحتاج إلى سيكولوجيّة المدني، أي يشعر الساكن على أرضها بأنه غريب، الناس حرة ودون عين تراقبها، تستطيع النساء أن يفتحن مناجر ومحال لتصليح الهواتف ويعملن كنادلات، هناك دوماً أماكن لم يكتشفها بعد، وسيارات لا يستطيع عدها، لا يجب أن يكون على صواب دوماً ويعرف كل شيء، فالمدن ليست للخيّرين فقط أو أن الأشرار يعدون على الأصابع، بل فيها كل هؤلاء وبكثرة ولا يجب الاستغراب من وجودهم، لكن هذا نادراً في سيكولوجية الغزيّ، بداخله تعليمات القبيلة تحدثه دوماً، ولو هاجر يحتاج إلى سنوات ليسكتها داخله، ربما يبدو هذا الكلام عنصرياً إذا نظرنا إليه من نفسية الأفريقي الأسود لكن أعرف أنه يتقبله حين يقوله أسود آخر مثله!

الغزيّ هو الهندي الأحمر على أرض لم يمتلكها، فسابقاً امتلكها الاحتلال والآن امتلكتها الأيدولوجيا، وفي الوسط امتلكها حراس أمن "السلام"، جاء البحر ليداويه، ليصلح عطبه ذاك، داواه من كل تلك الهويات المحتلة من آخرين، وجعله على شاطئه يمتلك العالم.

يقول محمود درويش في خطبة الهندي الأحمر: " إلى أيْن يا سَيد البيض، تأخذُ شعبي...

وشعبك؟ إلى أيِّ هاويةٍ يأخذُ الأرضَ هذا الروبوتُ المدجَّجُ بالطَّائرات 

وحاملة الطَّائراتِ إلى أيِّ هاويةٍ رحبة تصعدون؟

لكم ما تشاؤون: روما الجديدةُ، إسبارطة التكنولوجيا 

و... أيديولوجيا الجنون 

ونحن سنهربُ من زمن لم نهيِّئ له، بعد هاجسنا

سنمضي إلى وطن الطَّير سرباً من البشر السَّابقين نُطلُّ على أرضنا من حصى أرضنا، من ثقوبِ الغيوم".

البحر الوحيد الذي كان يُشعر الغزيّ أنه يمتلك جمالاً له وحده، ومتسعاً له وحده، ومكاناً له وحده، فلم يستطع أي من الحاكمين أن يمتلك البحر ويصنع منه شيئاً آخر، لا السلطة أو الاحتلال ولا المقاومة أيضاً.

في فترة التسعينات وعد ياسر عرفات أن تصبح غزة سنغافورة، بقي الشعب يحلم بهذه السنغافورة سنوات، لكن ما حدث أنّ الفروقات الطبقية بانت بشكل صارخ، وتحولت العبارة إلى نكتة لاذعة في أناشيد الإسلاميين وقتها "غزة يا بلدنا، يا علبة سردينا... لو مدينا ايدينا توصل حتى سينا، قالوا دولة حرة وقالوا سنغافورة، لو بدنا نخططها لو بدنا نزوقها.

سانتي (سنتمتر) بطلع إلنا، أربع بطلع إلهم، والله ما هي عيشة، عايشين جوا خيشة، غيرى عايش في أبراج... عايش أحلى عيشة".

خربت البلاد، تلت الحروب بعضها، يبست من سنوات الحصار، تغيرت شوارعها ومعالمها في قصف وراء الآخر، انهالت عليها المعونات، استمات مالكوها كي تكون قطرية أو تركية أو سعودية، لكن بقي البحر على حاله. لم يتغير.

نما المجتمع المدني كي يصبح بديلاً عن الدولة، نمت وكالة الغوث "الأونروا" كي تصبح الأخرى بديلة عن الدولة، حصل الآلاف على فرص تعليم جيدة، انطبق "ستيريوتايب" المواطن المحاصر المحتاج للغذاء على الغزيّ في فترات، وتحرر منه في فتراتٍ أخرى، تكرّرت اتفاقات المصالحة، واتفاقيات الهدنة واتفاقات الأمن... لكن أي منها لم يحرر المدينة من القطاع... وحيداً هو البحر الذي جعلها مدينة تشبهها نابولي وبيروت والإسكندرية.

ووحيداً كان وسيظل مهرب الإنسان الغزيّ من تحكّمات القبيلة.

 

ننشر المادّة ضمن ملفّ «الساحل الفلسطيني»، المشترك بين جمعيّة الثقافة العربيّة وفُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة ورمّان الثقافيّة، في إطار «مهرجان المدينة للثقافة» والفنون الذي تنظّمه الجمعيّة خلال هذا شهر.