أنا أُحبُّ حرف الحاء

2021-01-06 11:00:00

أنا أُحبُّ حرف الحاء

يتفاصح الأشكينازيون في مؤتمراتٍ أوروبيّة عندما يجولون فيها حاملين دعوة أنّ العرب في شرق البحر الأبيض المتوسّط هم أعداء السامية. يتحجّجون لدعم هذه التهمة الأوروبية البحتة بقِدَمِ الدين اليهوديّ على ما يدين به كلُّ العرب.

إنّها لحظة يقظة تلك التي ننتبه فيها إلى أمرٍ بديهيّ يمرُّ معنا كلَّ يوم. أحيانًا قد تصيبنا بالشلل، حاول التركيز على حركة اليدين أثناء غسيلهما وتذكّر كيف تفعل ذلك بالضبط، أو ربما جميع الخطوات المتبعة في تنظيف الأسنان، سيكون صعباً. لكنّه أمرٌ جميل أن نكتشف حبنا لأمرٍ عاديّ، كصوت فتح الشُّباك في الصباح أو كحرفٍ في الأبجدية.

ليس ما يميّز حرفاً عن آخر هو صوته ورسمه فحسب، بل هناك تفاصيل أحياناً يُعاد بها اكتشاف الذات من خلال التمعّن بصوتٍ ما يصدر عنّا. بدأت قصّتي مع الحروف عندما حاولت تعلّم الخطّ العربي في الصغر، كان الخطُّ الديواني هو اختياري. وقد كنت دائماً في المدرسة أتمرّن على عدّة أحرف على دفاتري في ساعات الملل القاتلة كالميم والباء والعين والهاء وطبعاً حرف الحاء، كانت أشكالها تستهويني منفردة وكان يلفتني أنّني متى ما أضفت نقطة على رأس الحاء لتصبح خاءً أو في جوفها لتصبح جيماً كان منظرها يتشوّه بالنسبة لي، لا أدري لماذا كان شكل الحاء المنساب لوحده بلا تنقيط يخطف بصري.

الحاء ليس رسماً فقط، بل هو صوتٌ نصدره من حلوقنا بلا اهتزاز من أوتارنا الصوتية. صوتٌ أكثر حدّة من الهاء التي يملؤها دفء أصواتنا، إنَّ للحاء صوتاً بارداً وقويّاً جعل من ضحكة جون سيلفر في كرتون جزيرة الكنز أيقونةً في عالم الأداء الصوتي. إلى الآن يُسأل وحيد جلال، الممثّل الذي لعب دور سيلفر، عن سرّ هذه الضحكة في كلّ المقابلات التي تجري معه، ويُطلب منه إعادة تأديتها على الشاشة. لقد كنت مهووساً كهؤلاء بتلك الضحكة في بداياتي في مجال الدوبلاج، قمت بمقارنة أداء وحيد جلال بكل من قام بأداء هذه الشخصية في اليابان، لغة الكرتون الأصلية، وإسبانيا، وقارنتهما بالضحكات التي نسمعها في أفلام ديزني باللّغة الإنكليزية، وأجزم أنّني أعرف سرَّ هذه الضحكة. أعمق حرفٍ حلقيّ في اليابانية هو بمستوى الهمزة، وضحكة شريرة يابانية ستكون سطحية بضحالة الهمز، أمّا الإسبانية لديها الخاء والإنكليزية لديها الهاء وهما أعمق قليلاً، العربية هي التي تغوض إلى أعماق الحلق لتنتشل صوت الحاء الذي تصدح به ضحكاتنا عندما تأتي من الصميم.

حرف الحاء الذي بدأ إعجابي به بالشكل فقط أخذني إلى إعادة اكتشاف الذات فيه. اكتشفت أنّه حرفٌ قديم، حرفٌ استُعمل لأسماءٍ قديمة، أسماء علمٍ وأسماء جغرافيّة وأسماء أشياءَ أيضاً. تبيّن أنَّ اسم منطقة الأهواز في غرب إيران هي إقليم اسمه الأحواز سكّانه يتحدثون العربية إلى الآن. ووجدت أنَّ القائدين القرطاجيين هانيبعل برقة وهميلقارت برقة، هما حانيبعل وحاميلقارت، كنّا نلفظهما بالهاء فقط لأنَّ من أعاد اكتشافهما ودراستهما قام بتصديرهما لنا كما استطاع، بمحدودية أصواته.

قِدَمُ حرف الحاء أيضاً لا يخفى عن معظم اللغات الساميّة الأُخرى ومنها العبرية القديمة، تلك العبرية التي شوَّهها الصهاينة بلغة أوروبية مستحدثة قلبت الحاء إلى خاء والعين إلى شبه همزة. حوّل الأشكنازيون الصهاينة يهود اليمن المزراحيم إلى اليهود المزراخيم، سكانٌ من الدرجة الثانية في إسرائيل. يتفاصح الأشكينازيون في مؤتمراتٍ أوروبيّة عندما يجولون فيها حاملين دعوة أنّ العرب في شرق البحر الأبيض المتوسّط هم أعداء السامية. يتحجّجون لدعم هذه التهمة الأوروبية البحتة بقِدَمِ الدين اليهوديّ على ما يدين به كلُّ العرب.

شاهدتُ منذ فترة تسجيلاً قديماً لسجال في إنكلترا بين فريقين على عبارة "كل من هو ضد الصهيونية هو ضد الساميّة أيضاً". وقد كانت إحدى المدافعات عن هذه المقولة إمرأة يهودية إنكليزية ادّعت أنّ إسرائيل لم تعنِ لها شيئاً يوماً حتى زارتها ورأت حقد العرب عليهم والرعب الذي يعيشون فيه بسبب الكره المحيط بهم لليهود. وقالت بأنَّ هذا الحق المقدّس يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الأقدمية لكل الادّعات المُقدّسة تلك حيث يصبح ادّعاء اليهود هو الأحق مقابل أعداء الساميّة المحيطين بإسرائيل المسكينة.

تخيّلت نفسي وأنا أقف من بين الجمهور ألقي الأسئلة التالية عليها: أولاً ألا تعتقدين أنّه من البديهي أن يكره العرب اليهود لأنَّ إسرائيل لا تفتأ تطلق على نفسها، وطناً قومياً لليهود؟ فحتى أعقل العرب الذي يدرك أنّها امتدادٌ للاستعمار الأوروبي ستنشأ عنده حساسيةٌ نحو اليهود. وأيضاً ألا تدركين أنَّ للعرب واليهود السفارديم وغيرهم تاريخٌ مشترك كالقتل والتعذيب والقتل الذي حصل في إسبانيا على كليهما، وأنّنا الآن ننظر إلى هذا التاريخ بعينٍ مختلفة بسبب إسرائيل؟ ألا تفهيمن أنَّنا بسبب إسرائيل الآن أصبحنا نوزّع تاريخنا الفكري فنقول أنَّ ابن رشدٍ لنا وأنَّ ابن ميمون لهم؟ ألا تدركين أنَّ اليهود المزراحيم واليهود في سوريا والعراق كانوا لا يزالون في بيوتهم ضمن ذاكرة لا تبعد عن ذاكرة أهالينا كثيراً وقد تصدّعت هذه الذاكرة بسبب إسرائيل؟

ثمَّ ألا تدركين أنّ مُعاداة السامية ما هي إلّا تهمة أوروبية هي أشبه بنكتة سمجة في هذا المكان من العالم من شخصٍ أشكنازي من سلالة اليهود الذين دخلوا إلى اليهودية في وقتٍ متأخّر في أوروبا ولا يجيدون حتى لفظ العبرية بشكلها السليم؟ ماذا لو قلتُ لكِ إنّني من جماعةٍ أقدم منكِ ومن العرب معاً؟ أنا من جماعة لا زالت تعبد بعل آمون وباخوس وعشتار، وأتحدّت بلغة ساميّة هي من أقدم اللّغات الساميّة الحية، سليلة اللّغات السامية المندثرة، والتي تجعل من معاداة الساميّة تهمة أستطيع أن أوجهها أنا لكِ ولكل الصهاينة؟

بالطبع ستضحك على هذه الأخيرة وقد تطلب منّي دليلاً يدعم ادّعائي...

فسأقول لها ح...

أنا أستطيع لفظ حرف الحاء...