جبرا إبراهيم جبرا... بائع القلق في مجتمعات الطاعة والرقابة

2021-01-24 15:00:00

جبرا إبراهيم جبرا... بائع القلق في مجتمعات الطاعة والرقابة
detail from Gassan, Samia Halaby

يبني جبرا بهذا المعنى أدبه ضمن مصطلح الـ "منطقة" كتعبير عن مكان تركه سكانه. مكان وجودي يشير إلى التشويه والفساد والمغادرة وفقدان كائن / موضوع داخل الفضاء. إنه تعبير عن شكل خارج غير مشخص، مجهول الوجه، خارج متكسر ودائم. مكان يقدم دليلا على تفكك المبنى،

لا تهدف هذه المقالة إلى عرض سريع لحياة جبرا إبراهيم جبرا (1920-1994)، الفلسطيني الذي استقر بالعراق بعد العام 1948، إنما تحاول تسليط الضوء على نتاجه الأدبي من خلال مواقفه الوجودية التي ساهمت برأيي في إنتاج نص أدبي عربي يصارع البديهيات الأدبية والأيديولوجية والسياسية والعسكرية، ويحاول كسر دوائر الانتماءات القسرية المفروضة على العملية الأدبية، الفكرية، الجمالية، المعرفية، الفنية والثقافية عامة. إذ حتى في انتماءاته الواضحة (أو التي قد تبدو واضحة) المجبولة بالثوابت، كانتمائه الفلسطيني أو العراقي المشغول بصراعه العلني أو المضمر مع السلطة، يبقى جبرا مشروع "ترحال جديد" ومتجدّد نحو مناطق معرفية أو نحو فضاءات ثقافية متشظّية ترفض الدوران الأعمى في دوائر الصراخ الثقافية الفارغة.

إنه النموذج المضاد للخطية والهرمية الذي يمثل في ماهيته احتمالًا آخر. يصف هذا النموذج معركة البقاء على قيد الحياة ضد آليات القانون والدولة التي تحاول إيقاف أو تقليص هذه الحركة. وهكذا يصبح الترحال استعارة لآلة سفر مؤقتة تُجبر حتماً على الاصطدام بآلة الاستقرار السلطوية الدائمة والمنظِّمة للقانون والدولة. وفقًا لهذا الوصف، تتضمن تجربة الترحال عند جبرا استخدام الاصطدام الثقافي المضمر كفعل تمرّد، بالأساس ضد الآلية القهرية لقانون الإنسان (الناموس)، القانون الرسمي، بحسب تعريف جيل دولوز. إن الاستقرار الظاهري الذي قد نراه في سيرة جبرا المعيشية تقابله في أدبه سيرة مشوشة وعصابية وقلقة، سيرة تستند إلى مفاهيم الحدية المتوثبة للتغيير الدائم وسيرة هامش يصارع على الدوام وسيرة منفى محفز على الانتهاك وسيرة لامكانية تتخطى الحدود المرسومة. 

كان جبرا، برأيي، أحد أهم الشخصيات الأدبية والثقافية الفاعلة في تلك الحقبة، كان وسيطا حقيقيا لحقول معرفية مغايرة، لما ملكه من معرفة كافية لتيارات فكرية معاصرة، ساهم قسم منها في صياغة الأدب العربي الحديث والشعرية العربية الحديثة. وجبرا، وإذ كان يعرف أنه يواجه تيارات أدبية متجذرة بالأدب العربي لم يتوان عن الخروج بجرأة وإصرار ضد تحديد الأدب العربي ضمن مساحات تعبيرية ضيقة. مساحات مبنية على علاقات ثنائية وهرمية. كان جبرا إذن طرفا في زعزعة الهرمية المقدسة للثقافة العربية أو ما أسميه بـ "فرمانات التوازنات الثقافية" التي كانت بالحقيقة فرمانات التوازنات السياسية التي تفرض على السيرورة الثقافية العمل ضمن حلقات مصلحة الأنظمة الدكتاتورية العربية وأذرعها الدينية والأبوية.

مجمل المواضيع التي خاضها جبرا وطرحها في أدبه شكلا ومضمونا هو نوع من أنواع الانفلات والانتهاك لهذا الفرمانات القاسية؛ فالقلق وقصيدة النثر والقصيدة التشكيلية والبصرية والنقد الإيجابي الذي كان يهدف إلى غربلة من النوع القاسي والكتابة السردية المركّبة، كلها تخالف الطمأنينة التي طالبت بها الفرمانات. بالنسبة لجبرا كما أرى، لم يكن التوازن الثقافي إلا أداة تشكيل لصالح الحاكم وحلفائه وليس لصالح إعادة تشكيل للعقلية العربية لتلائم تطورات العصر السريعة والقاسية على السواء. المشهد الثقافي الذي عبر جبرا عنه في كل أعماله كان مشهد التفكير الافتراقي أمام مشهد التفكير الاتفاقي في الثقافة العربية.

في مقالة نشرها جبرا إبراهيم جبرا في مجلة "الأديب" بعنوان "الحرية والطوفان"(١) بالعام 1958 حول أدب الالتزام يخرج ضد الدعوة التي كانت قائمة لتحديد الكاتب بقوانين (فرمانات) سياسية أو عقائدية قبلية. ويمكن لهذه المقالة أن تلخّص بشكل جوهري القواعد الأساسية التي تنبني عليها وجهة نظر جبرا للأدب والكتابة والفن عامة، ويمكن من خلالها إجمال الدور الهام الذي لعبه جبرا لإنتاج أدب عربي جديد يتخلى عن الشعارات الأيديولوجية الصارخة وينطلق إلى إنتاج أدب يُعنى بـ"الوجود العميق" أو بالشق الأهم في ضرورة الفعل الوجودي وهو لا ريب القلق،  على حد تعبيره.

مقالة جبرا هذه تأتي في خضم فترة صراعات أيديولوجية وسياسية صاخبة للبلدان العربية عامة وتفتح النقاش حول تعريف دور الأدب ووظيفة الكتابة الأدبية وجدلية علاقة الأدب بالقضايا الجماهيرية و"التجنّد للقضية" الجمعية مقابل الحفاظ على فردانيته ورؤيته ورؤياه الخاصتيْن. هذا الموقف الحدي، في محاولة منه للانتقال من وضعية أدبية معينة (الالتزام)، والعبور إلى تعميق الوجود عن طريق أدب يعنى بالقلق، هو جوهر الدور الذي لعبه جبرا والذي قادته من العام 1957 مجلة "شعر" البيروتية، التي كان جبرا أحد رموزها النشطين. هذا الطرح الحدي هو طرح الهامش في مواجهة المركز، طرح إلغاء العلاقات الهرمية والثنائية التي طرحها التيار المركزي للأدب العربي في تلك الفترة، والتي ما زالت برأيي متفاعلة حتى يومنا هذا. 

يكوّن القلق برأيي فاعلية مناقضة للثبات المزعوم الذي تسوّقه الأنظمة كجهاز للسيطرة في جميع المجالات، خصوصا في مرحلة تأسيس الدول، وتحديدا تلك التي تعتمد على الحكم الفردي والقمع. القلق الذي يدعو جبرا إليه يواجه عمليا الثبات واليقين المعرفي القاضي بتمثّل أنساق معرفية معروفة وقسرية تبتعد عن التساؤلات الكيانية المقدِّسة لحرية الفرد، يقول جبرا: "غير أن الشق الأهم في ضرورة الفعل الوجودي هو ولا ريب القلق. إنه القلق الفردي عن ضرورة حرية الإنسان، عن ضرورة الاختيار لديه، وأخيرا عن سعيه المحتوم نحو الموت". القلق هو الدافع الأهم في عملية الخلق، وهو من هذه الناحية ردة فعل تكشف خبايا أبراج المراقبة التابعة للسلطة، بتعبير ميشيل فوكو.

تتقاطع فكرة القلق عند جبرا، كالشق الأهم في ضرورة الفعل الوجودي، مع مفاهيم الحدية التي يعيشها جبرا برأيي، وهي تعتمد بجوهرها على مفاهيم والترحال واللامكان والهامش والمنفى والمنطقة (zone)، كلها مفاهيم تمت ترجمتها في أدبه وفنه بشكل أو بآخر، وهي، مجتمعةً، تشير إلى أديب متمرّد يخلق ليغيّر بمجانية وجزاف، إنها برأيي المفاهيم العامة التي تكون منها فكر جبرا في مجمل ما أنتج من أدب وفن تشكيلي ونقد. فالتركيز بالحدية على الحدود نفسها، وعلى وجود العتبة ذاتها. من هنا، تتعامل الحدية مع حالات التردد وعدم اليقين واللاحتمية. وقد قام عالم الأنثروبولوجيا فيكتور تيرنر بتوسيع المفهوم وتحويل الحدية إلى "منطقة حدية"، إنها تلك المساحة الوسيطة، الأرض الحرام أو الليمبو (مطهر)، إنه ليس المكان الذي أتينا منه ولكنه ليس المكان الذي نذهب إليه أيضًا. إلى حد ما، إنها منطقة الهامش (zone) المهيأة للقفز والحركة على الدوام، بتعبير النمساوية إلفريده يلينيك.

يتقاطع في سيرة جبرا الثقافية التي طرح فيها طقوسا ثقافية كانت في طور النزاع مفهوما المنفى والحدية. فقد أشار فان جينب في بحثه إلى الأهمية الأساسية للطقوس الانتقالية للمجتمع البشري، والوظيفة الثقافية والنفسية التي تؤديها، ووسع فيكتور تيرنر هذا الفهم إلى سياقات أوسع وشدد على أهمية الحالات الحدية التي تنتج التحولات الاجتماعية والروحية. على خلفية هذه التصورات، يمكننا وصف المنفى بأنه حالة حدودية، حالة حياة وسيطة حدية، بما لن يعود موجودًا ونحو ما لن يكون موجودًا بعد، فالمنفى حالة حدية، قد تتميّز بأنها مؤقتة وحالة عابرة، إلا أنها في الحقيقة حدية مستمرة بشكل خاص. المنفى، الذي وضعه جبرا بين الزمن القديم ووقت الخلاص المستقبلي، وبين المكان المقدس المفقود والمقدس المستقبلي الذي لم يأت، يختبره المنفيون، وجبرا منهم، على أنه عدم وجود، زمن لا زمن فيه، مكان لا مكان فيه. ولكن لهذا السبب بالتحديد، فإنه يشكل، كما تشكل حالات الحياة الحدية، إمكانية حدوث تحول جوهري، وهو ما برز عند جبرا في مساندته لمواضيع ومفاهيم ثقافية مختلفة ومركّبة، ودعمه لها دون هوادة، وهي ما زالت في مراحلها الجنينية.

على الرغم من استقرار جبرا المعيشي بالعراق إلا أنه ظل يراوح في أدبه في لامكانية مستفزة، روايته "السفينة" تمثل اللامكان العالق في نفوس شخصياتها. حتى أكثر شخصياتها تصميما وتفاؤلا يتموقع ضمن لامكانية مستقبلية: فاللامكان السفينة فضاء مجهول، خالٍ من الهوية وقابل للتكرار، ولا ينتج عنه وبين مكوناته علاقة مستقرة وفريدة. اللامكان موقع ليس له "ذاكرة" وتاريخ، ولا "قصة" ثابتة يرويها شاغلوها. يظهر اللامكان كموقع للرفاهية من جهة، ومواقع للألم والفقر والحرمان من جهة أخرى. والسفينة قد تكون مثالا على النوعين. إنها "أماكن عبور"، منفصلة عن السياق التاريخي والثقافي، ويمكن نقلها مع الحفاظ على مبناها الذاتي والمستقل. وإذا كان المكان عبارة عن فضاء محدّد بحدوده الداخلية والخارجية -مساحة تخلق إحساسًا بالانتماء والوطن- فاللامكان هو عكس ذلك. ومن أبرز عناصره المعيارية من جهة/ وإخفاء الهوية أو فلنقل تمويهها، من جهة أخرى.

في "السفينة" وفي "عالم بلا خرائط" تبرز المنطقة الـ (zone)، مصطلح إقليمي وأيديولوجي يشير إلى منطقة أو صوت أو دائرة نفوذ. يظهر المصطلح في سياقات مختلفة: في نظرية ما بعد البنيوية، يشير المصطلح إلى مساحة مهجورة وغير محددة؛ ضاحية جسدية أو عقلية يسكنها مجموعة من الحالات وأشكال الحياة والأشخاص والأشياء؛ استعارة جغرافية وسياسية وفلسفية ونفسية تتعامل مع عدم الانتظام والتخلي عن الحدود وطمسها. في نظرية ميخائيل باختين المتعددة الأصوات، يشير المصطلح إلى "منطقة الكلام"، صوت شخصية في الرواية. وفي كلتا الروايتين تتعدّد منطقة الكلام وتتشابك وتوحي بالوضوح وبشيء من الاستقرار، إلا أن منطقة كلامها تكشف عن مساحة محاصرة بين عالمين متميزين كما يقول كل من جورج باتاي وجيل دولوز؛ منطقة وسيطة على خط التماس بين الوجود والحذف، عن الحزام، وهو جزء من كرة تقع بين دوائر متوازية. إنها أرض حرام عاطفية، مناقضة لمفاهيم الهوية والمكان المستقرة. 

في "السفينة" تظهر المنطقة الـ (zone) كمصطلح حديّ ترحالي، قريب من مصطلح الغبار: الغبار يغطي الأشياء ويمحو هويتها وتناثرها ويترك آثارًا لأشياء اختفت أو تمّ إخفاؤها. المنطقة شريك في الغبار رغبة في طمس الحدود بين الأشياء، أو محاولة لإعادة صياغة الشخصيات والأحداث بحيث توحي بعدم الاستقرار السلطوي، إنها استعارة تنكر المعرفة المشخصة والقدرة على إضفاء الطابع الرسمي من خلال الحدود والتعاريف.

يبني جبرا بهذا المعنى أدبه ضمن مصطلح الـ "منطقة" كتعبير عن مكان تركه سكانه. مكان وجودي يشير إلى التشويه والفساد والمغادرة وفقدان كائن / موضوع داخل الفضاء. إنه تعبير عن شكل خارج غير مشخص، مجهول الوجه، خارج متكسر ودائم. مكان يقدم دليلا على تفكك المبنى، وإزالة التباين بين المركز والمحيط، وخلق عالم هامشي لانهائي. بهذا المعنى، فإن المنطقة هي إحدى صياغات الهجنة، الوضع المختلط والحواف المحروقة. 

الصمت من هذا المنطلق منطقة ولامكان حدي على الدوام، فهو استثناء لتعريفات سابقة وتمرد على سطحية التفكير، الصمت ترحالي بقوة لأنه منطقة مفتوحة التعبير، أبدية الحركة، عند جبرا وفي مقالته التي اقتبستها أعلاه، يأتي الصمت كفاعلية ضدية لركاكة التفكير أو للالتزام المفروض، يقول: "الصمت أيضا، الانزواء يسمح بالوصول إلى الوجود العميق… فالسبب في قصر عمر الالتزام كمذهب أدبي هو أنه يتوخى السياسة أكثر مما يتوخى الإنسان، ويستهدف المجموع المبهم أكثر مما يستهدف الفرد المحدد... فالالتزام إذن تبسيط لقضية الأدب، واجتزاء لها. لأن قضية الأدب -كما نرى من دراستنا للشعر والمسرحية والرواية منذ أقدم العصور- هي قضية، بكل ما فيه من تعقيد في السلوك والتفكير والشعور والبواعث والأهداف والعلاقات". هذا الصمت الذي جعله الشاعر اللبناني المتمرد أنسي الحاج رحلة الشعر الأبدية في محاولة منه لتكوين لغة جديدة لإنسان عربي جديد.

إن رؤية فاعلية جبرا الثقافية القلقة من منظور الحدية واللامكان والمنطقة والترحال والهامش والمنفى تفضي إلى التصادم الخفي في سيرته مع مفاهيم "برج المراقبة". إن "برج المراقبة" ليس اختراعًا معماريًا فحسب، بل هو أيضًا رمز لآلية عامة للمعرفة التي تمارس قوتها أحادية الاتجاه على أولئك المسجونين بداخلها. بمعنى أوسع، هذه الممارسة هي جزء من نظام السلطة المتاح للحاكم، وهو ما يدركه من خلال السياسة الحيوية للثقافة. إن خطاب "برج المراقبة"، الذي يتحداه جبرا في كل نتاج ثقافيّ، يوجّه العلاقات الاجتماعية والسياسية في الثقافة. وهو يحافظ على علاقة التحكم والتسلسل الهرمي ويقمع أي نزعة للتغيير، وللتعدد، وحركة الترحال. يعمل مفهوم "برج المراقبة" ضمن فضاء هو عكس الفضاء غير المتجانس، حيث أن الأخير عبارة عن مجموعة غير متجانسة من عدة فضاءات، ليخلق هذا المزيج توترا بين الداخل والخارج، بين الواقعية والخيال، بين السيطرة والنقد. إن تكثيف التجربة الحدية في الحياة اليومية، وهي تجربة تتمثل في تعدد الحواجز والمعابر الحدودية، في "المداخل والمخارج" تجعل وجود مراقبة الشخص أمرًا مقبولًا وطبيعيًا. وهكذا أصبح "برج المراقبة" في تجسده الجديد حاضرًا دائمًا: "عين في السماء" تنتج العالم كمساحة خاضعة للإشراف وتعيد تعريف الأبعاد المجتمعية بحسب تعبير لاتور. 

هنا بالذات أرى جوهر فاعلية جبرا الثقافية الحدية القلقة، تفكيك مفاهيم الرقابة الخارجية وتعريف الإنسان وفق هويات ونواميس إنسانية ثابتة، إن مفهوم برج المراقبة تنافى حتى العظم مع مفاهيم الحدية والقلق في سيرة جبرا، فهو ينفي عنه البيئات المغلقة التي تخضع للرقابة، بيئات ومواقع التأديب التي تتبنى منطق الإشراف وتستخدمه لتصميم تجربة حياة الفرد. وفقًا لجيل دولوز، بدلاً من الإشراف المباشر على مجتمع الطاعة (وهو مصطلح صاغه ميشيل فوكو)، والذي يتم تنفيذه من خلال حراس البوابة المختلفين، يتم تطوير نموذج جديد: مجتمع الرقابة، وهذا بالضبط ما سعى جبرا إبراهيم جبرا في فاعلية الثقافية المتنوعة إلى دحضه وتقويضه.

 

هامش

١-  هي بالأساس مقدمة لديوان الصمت والمطر لحليم بركات عن دار مجلة شعر، وقد نشر جبرا فيما بعد كتابا نقديا يحمل نفس العنوان ووضع المقال فيه أيضا.