لوحات لنبراس البرغوثي، حيث لا حدود للأسئلة

2021-02-08 12:00:00

لوحات لنبراس البرغوثي، حيث لا حدود للأسئلة

يعمل نبراس الآن في مصنع معسّل على طريق رام الله، ويرسم لوحات جمالية للبيع حتى يحقق من الربح ما يمكّنه من ابتداء مشروع زراعي صغير في قرية كوبر التي ما زالت تحتفظ بين ثنياتها على مناطق بربرية لم يمسها البشر منذ دهور، وفي نفس الوقت يعمل على بناء استوديو رسم منزلي في بيته المكوّن من الطوب فقط، ويحضّر لأول معرض فني في المرحلة القادمة.

عاش الفنان نبراس البرغوثي حياته في الريف الفلسطيني، وبالتحديد في قرية كوبر التي احتلها البراغثة المجهولي الأصل قبل ستة أجيال، وخلال آخر عقد أو اثنين شهد هذا الريف ازدياد زحف السرطان المدنيّ نحو جباله. كان نبراس الذي يبلغ من العمر الآن 28 عام من الجيل الذي عاش المرحلة المفصلية ما بين أقصى المجتمع الزراعي والمجتمع الذي يزحف إلى أن يكون في أقصى التمدّن، فقبل ما يقارب العشر سنوات لم يكن في القرية أضواء شوارع، وقبل ذلك بعقد لم تكن الشوارع معبدة، وقبل هذا بعقد كان سكان القرية يتجوّلون حفاة في الجبال، ينتشلون الماء من نبع الـ"حاووز" في الجبل المقابل للقرية. كان الوادي بين الجبلين مقسّم بالألوان، فقد كان كل محصول يزهر بلون مختلف حتى ويمكن تمييزه من القرية فوق الجبل، ينبت في أراضٍ كانت ما تزال مشاع ولا تقع تحت أي ملكية بالمفهوم الحديث، تُستبدل الشاسعة منها مقابل دجاجة، مثلا، أو بقرة. 

لم يكن هذا الواقع قد تغير كثيرا، نسبيّا، قبل عقد ونصف، لكنه كان قد قطع مراحل كبيرة على بعد بضعة الكيلومترات وسط مدينة رام الله، التي ترمي اليوم بأياديها الطائشة نحو أي بقعة "فارغة" من الأرض فاغرة فاها الذي يُسيل اللعاب عند مرأى أي فرصة لمشروع جديد، "محلّ أواعي"، عمارة سكنية، مول تجاري، معرض سيارات، مغسلة سيارات، كراج سيارات، "مشقفة" سيارات، أو "باركنج". كلها تحرق الدخان وتنتج البلاستيك وتحرق البلاستيك وتتزايد سكانا ووظائف.

في غضون جيل واحد، تم هجران الأراضي واتجه الريف بأكمله إلى المدن المجاورة، وذلك الريف الذي لا تجاوره أية مدن اتجه إلى الداخل المحتلّ ومستعمراته وباشر في بناء دولة إسرائيل. فإذا مشينا اليوم خلال الوادي نحو الحاووز فإننا نسير على طريق معبّد تحيطه المنازل وتحده الأسياج التي تحاصر الأراضي الخاصة ونرى حفريات البلدية تصل إلى النبع وتنقسم عنده إلى اليمين واليسار وتصل حتى إلى داخله فينضب ويصبح التدفّق عجوز. ونرى في الجبل نفسه بين قلاع الحجارة والبلوط والشوك منازل لسكان القرية تحاول الهروب من القرية والبقاء فيها في آن واحد.

هذا ما رآه نبراس يحصل خلال سنوات مراهقته إلى عشريناته، ومثل أي إنسان شاب في البلدان المضطهدة قرر الرحيل، وربما إلى الأبد، بعيدا عن هذا الخراب والنظام الذي لا يعرف التوقف ويضع في أجسامنا وعقولنا السموم، فيبعدنا يوما بعد آخر عن طبيعتنا الحقيقية. 

بعد أن حصل على جائزة أفضل مشروع تخرج من كليّة دار الكلمة في بيت لحم، بعد سنين قضاها من سكن إلى آخر في وسط البلد حينا، وفي مخيّم الدهيشة حينا آخر، تم انتخابه لبرنامج مشترك مع جامعة فنّ دنماركية في مدينة سيلكبورج، وكان من بين الثلاثة الذين حصلوا على منحة الإقامة الفنية للدراسة لمدة فصل لدى الجامعة.
 


بعد انتهاء الإقامة، بقي نبراس في الدنمارك إلى ما بعد المدة المقررة من قبل الجامعتين، لكنه في يومه الأخير كإنسان "قانوني" صعد على متن طائرة عائدا إلى فلسطين من خلال تركيا. وفي حين انتظره الأصدقاء والعائلة لاستقباله، وصلهم الخبر بأنه في الدنمارك من جديد، بسبب "خربطة" من قبل شركة الطيران التي أرسلته إلى مطار غير دولي وممنوع فيه الـ"ترانزيت" إلى مطارات أخرى، فتم إلقاء القبض عليه ليوم وإعادته في اليوم التالي في طائرة رديئة إلى الدنمارك. وما إن وصل إلى هناك حتى كانت الفيزا خاصته منتهية الصلاحية، وكان عليه الاختيار بين الرحيل من أوروبا إلى الأبد بسبب "مخالفته" أو البقاء فيها في مخيم لجوء. وكان القرار الذي اختاره هو ذاك الذي لا يتمناه القارىء.

في غضون سنة ونصف من رحيله، خرج نبراس مستاء من المخيم، من غرفته التي يعيش فيها مع اللاجئين من كافة الجنسيات الجنوبية، من حقيبة نومه التي تشرد فيها في شوارع الدنمارك، من مخافر الشرطة والحانات ومناطق العصابات ونوادي الجريمة المنظمة وأزقّة المشرّدين والمدمنين، وفي نهاية المطاف، من مشفى الأمراض العقلية الذي لا يفقه شيئا في النفس الإنسانية ولا كيفية معالجتها، بل يكتفي بجعلها نفس مدمنة على الحبوب وصعقات الكهرباء والنوم والموت، الاتجاه المطلق للأنظمة الغربية وثقافاتها وطبّها. رحل نبراس بعيدا عن الإنتاج المتسلسل ولحوم الحيوانات المشبعة بالهرمونات والأجواء المتجمدة مثل ناسها، بعيدا عن القتل وعرب أوروبا ومسدساتهم ومخدراتهم وتدينهم المتحفظ الأعمى، وعاد إلى جبال المتوسط، نحو بيته الريفي ذو الحديقة المزروعة بمختلف الأشجار أمامه والغرف التي تسكنها الخرفان والدجاج والقطط تحته، حيث تخبز كل صباح أمه على الـ"طابون" ويشربون الشاي الـ"حلل" على مائدة الغداء. 
 


بعد أن هدأت الضوضاء في عقله، عاد نبراس للرسم وقام ببضعة مشاركات فنية منها معرض "المرفق" في مؤسسة عبدالمحسن القطان وبيع لوحات منفردة هنا وهناك، ومن بين تلك المشاركات في مسابقة إسماعيل شمّوط بداية عام 2019. 

في لوحة "إلى أين..؟" (2019)، المسماة على اسم لوحة للفنان الفلسطيني إسماعيل شموط نفسه والموضوع الرئيسي للمسابقة في تلك السنة، تظهر هيئة شبه إنسانية تبدو وكأنها تقف على حافة أو جرف ما وتحدق فيما أمامها، ويتضمن المنظر ألوانا تختلف من حيث تقف هذه الهيئة وبقربها على اليسار إلى البعيد أمامها على يمينها، ابتداءً من البيوت الشعبية الجميلة التي ما زالت تحتفظ بعلاقتها مع الطبيعة، وصولا إلى الغير مفهوم والمشوّه في البعيد القادم؛ تظهر لنا في القريب شجرة، وفي المنتصف وأقرب إلى البعيد سرير تنام عليه امرأة شاحبة دون ملامح كأنها في مشفى عقليّ – لكن هذا مجرد تأويل. ونرى شارعا بجانب الهيئة يقودنا إلى وجهة لا تتضح نهايتها. لكن تبقى أثناء كل هذا الشمسُ الخالدة لم يمسها شيء، وفي داخلها وجه مطمئن تنبت منه شجرة أو لعلها مجرد أفكار، لكن هذا مجرد تأويل. 

بعد عام بالضبط من رسم اللوحة، وبعد أكثر من عام على عودة نبراس إلى الطبيعة وتحول إيمانه إلى أنها المستقبل الوحيد الممكن لمحاربة الزحف الإسمنتي نحو كل ما هو جميل، ابتدأت سنة 2020 التي لا يمكن أن ننكر بأن الطبيعة أخذت بثأرها فيها على نظام العولمة الذي يتجه، إلى أين؟
 


بعد عودته، كان نبراس يحاضرنا دائما عن أهمية الأكل ونوعه، عن النبات والطبيعة وطموحه المستقبلية بالزراعة والماشية وما إلى ذلك، ولم نكن نفهم مغزى أحاديثه، فأحيانا نصنفها بأنها خارجة عن السياق تماما أو غير مهمة أو شخصيا جدا ولا تنطبق على أحد غيره، وكانت كلماته تقع على أذاننا الصماء. لكنه وكما جرت العادة أكمل طريقه دون أي اكتراث لإحباطات محيطه، ففي الماضي عندما كان من الشخصيات ذات الكاريزما التي يعرفها كل من في القرية لتفردها وحسها الفكاهيّ العبقري وأفعاله المفاجئة والمضحكة والمثيرة للأحاديث – أي كان في أعلى الهرم الاجتماعي – ترك القرية ودائرته من الشباب النقيضين له لأنه لم يعد يقتنع، لا أعلم بما، وذهب للعيش في بيت لحم لدراسة الفنون الجميلة. وعندما لم يعد يقتنع بالأجواء النفاقية للمدينة، غادر القارة، وعندما لم يعد يقتنع بالقارة كلها التي يعتبرها الكوكب بأكمله أرض الأحلام غادر بلا عودة ومع يقين بالحقيقة.
 


يعمل نبراس الآن في مصنع معسّل على طريق رام الله، ويرسم لوحات جمالية للبيع حتى يحقق من الربح ما يمكّنه من ابتداء مشروع زراعي صغير في قرية كوبر التي ما زالت تحتفظ بين ثنياتها على مناطق بربرية لم يمسها البشر منذ دهور، وفي نفس الوقت يعمل على بناء استوديو رسم منزلي في بيته المكوّن من الطوب فقط، ويحضّر لأول معرض فني في المرحلة القادمة.

تجعلنا لوحة نبراس نسأل أسئلة لا حدود لها. إلى أين تتجه رام الله التي لا تتوقف عن الاستيطان؟ الطابو العثماني الذي يحتكر الوساطة الرسمية بين الناس لبيع الأراضي ويشجعهم برفع كل الأسعار، وفي نهاية المطاف يصبح الوسيط بين نفسه وإسرائيل فيسلّمها كل الأراضي بحوزته، كاسبا كسبا أكثر مع كل بيعة لنفس قطعة الأرض في الطريق؟ ماذا تختلف البلديات المحلية المتفرعة من القيادة الاقتصادية العليا عن الصهاينة في استعمار الجبال وغمرها بالحفريات حتى لا يبقى نبع ولا شجر ولا أرنب برّي؟ ومن أين سنأتي بطعامنا بعد أن تتحجر كل الأراضي – هل سنشتري من العدوّ؟ كيف نعرف بأنه سيبيعنا، أو بأي سعر؟ من أين سنشرب الماء بعد أن تنضب آخر عين وتكون كل بيوتنا ممدودة بمواسير من إسرائيل؟ ماذا إن قطعوا الماء عنا بحجة الإرهاب أمام العالم الدولي؟ وكيف يتظاهر الشعب الذي كان يقتل على خلفية بيع الأراضي بأنه لم يصبح ما كان قبل جيل واحد يحرّمه؟ وما الفرق بين بيع الأرض لهذا أو ذاك، عربيّا كان أو يهوديّ، من أجل انتهاز فرصة مادية لا تعوّض؟ هل نحمي جبالنا من اليهود أم العرب، أم أنفسنا، ومن نحن أصلا؟ – فقد أصبحنا أمريكيين في غضون جيل واحد من السّوق الحرّ، نبيع كل شيء من أجل بناء البيوت والزواج والإنجاب وتكرير العملية إلى ما لا نهاية، نأكل ونطعم أبناءنا - الذين لا يغادرون شاشات التلفزة والهواتف الذكية ولا يتعارفون على أيّ من زوايا جبال القرى - أطعمة كيميائية تأتي منازلنا في علب بلاستيك لا يتحلل إلا بالحرق ونايلون يدفن تحت الأرض للأبد أو تشعل فيه النار السوداء والزرقاء. ثم نسأل الله الرحمة من فيروس الكورونا الذي أنتجه الاستهلاك وحشر الحيوانات المختلفة في نفس البيئة التي تصيبها كلها بالجنون. ما الخطوة الأولى لنعرف إلى أين نحن نتجه؟ لعلها الوعي والتوعية بكل هذا، كبداية...