حسين البرغوثي واقفاً على الصّدع اللامرئي أبداً

2021-03-25 13:00:00

حسين البرغوثي واقفاً على الصّدع اللامرئي أبداً
صورة غير ملونة لحسين البرغوثي. المصدر: المتحف الفلسطيني. الرقم التعريفي للمادة 0232.01.1983

اللاخيار، اللامسمى، اللاواصل.. كلّها صفاتٌ وسمَت مشروع البرغوثي الموغل في سيره نحو البراري. ولا عجبَ أن يُعلنَ عن كونِه وكينونته المتعدّدة الواثقة من حتميّة تحولاتها، ليكون الأمير، وفرعون والعبيد والمسافة والسّجون، قاصدًا صياغاتٍ أخرى:

"تمشي بين الأفعى والأفعى، أحكمَ من خطوة موسى في البحر الأحمر، لكن تلدغك الأشياء المعروفة وطريق حياتكَ عارية ومخيفة"

حسين البرغوثي.

رحلَ الكاتب الفلسطينيّ حسين البرغوثي عن عالمنا قبلَ تسعة عشر عامًا، عن عمر ناهز 48 عامًا، وهما رقمان لصيقان في وعي الفلسطينيّ، ووعي العربيّ، يحملان في طيّاتهما موجزًا لتاريخ سياسيّ ووطنيّ ووجوديّ. أن يرتبطَ هذان الرّقمان بعُمر الكاتب، سنوات حياته، أو سنوات رحيله عنّا، يهبُ الواقعَ بعدًا آخر يُردّ فيه إدراك الواقع إلى الإحساس به، معالجته عبر الإحساس، ثمّ إخراجه بدلالات جديدة تنسِفُ المعرفة الأولى به وتضعهُ في موقع المساءلة حول علاقته بالإنسان وذاكرته ووعيه بالمَكان سردًا وذاكرةً وحقيقةً.

لقد راحَ حسين البرغوثي إلى أقصى الرّهان على التّفكير الوجوديّ بالذّات، وبالتّالي كانت رحلةُ الوَعي، الصامت، رحلة "شلَحت" العالَم أولا، تقشّفَت من البرّانيّ الماديّ بعد أن زعزعت أسئلته عن الذات، لتقتحمَ الجوّانيّ وتمتلئ به. لا يمكنُ أن يمنحكَ حُسين وأنت تقرأه، شعرًا وسيرةً وفكرًا، لحظةً من الطمأنينة، وإن بدَت طمأنينة البلاغة في الكتابة باعثةً على دفء المألوف اللغويّ، إلاّ أنّ داخل هذا المألوف اللغويّ نَسفٌ لبراءة اللغة والأفكار، نسفٌ لـ "العادة" وانفلاتٌ من براثن براءة "النّظر" إلى الأشياء مقابل "رؤيتها".

في علاقته الإشكاليّة مع الإدراك، كانَ البرغوثي يرسمَ صورةً تجريبيّة لا يقينيّة، تقيمُ مسافةً حسيّة حذرة بينها وبين المعرفة ليحدّد في النهاية علاقته مع المكان المتصدّع، أكبر تحدّياته، فيقول:

"في الانجليزيّة تفرقة لطيفة بينَ إدراك الشيء لأوّل مرّة، (cognition) وبينَ إعادة إدراكه (recognition). الأوّل إدراك جديد، أما الثّاني فمعرفة متكرّرة، متذكّرة، أي نمط إدراكٍ يُعادُ إنتاجه، نوعٌ من أنواع "العادة". فما أبحثُ عنه، عمليًا في هذا المكان هو الخروج منه، أي العودة من مكان جديد مُدَرك لأوّل مرّة إلى مكان قديم سبَق وأدركتُه. وهذه العودة للمألوف هي غايَتي".

من هنا، كانت طريق البرغوثي في الكتابة، طريقًا متحوّلة، تذهبُ باتجاه انحراف الوعي المتأخر عن المكان وعن الكتابة في حالتهما البدئيّة. في خرائط مساحته الذّهنيّة كانَ دائمَ القلق، يصادِرُ البديهيّ بأسئلة مشبوهة حولَ ذاكرته، ذاكرة المكان، والانخراط في متاهة السّؤال حول ذاكرِتَيه، ذاكرة البداية وذاكرة العَودة إلى البداية. ذاكرة المألوف، وذاكرة اللامألوف، ليسقطَ، على حد قوله، المنديلُ في المتاهة، ويصير وجه الأشياء غريبًا، بالمفهوم البريختيّ. 

إنّ علاقة البرغوثيّ، ابن قرية كوبَر، بالمكان، الصّغير (القرية)، والوسطيّ (فلسطين)، والكبير (العالَم) هي علاقة ديالكتيكيّة مصدوعة ولامرئيّة مع مفهوم "الأمكنة"، حيثُ المكانُ حمّال أوجه، وحيث هويّته هويّة مفارقات، وعلاقةُ حضورٍ يحكمها بحثٌ عن غيابِ المكان نفسه فيه، أو غياب الأثر الذي يعمق الصّلة بالمكان أكثر. لهذا، كان شاعرًا ومفكرًا ومؤسسًا لجماليّة الفقدان، هذا الفقدان الذي تجده في خلقِ مساحة فاصلة معطّلة زمنيًا على الدوام بين حضوره في المكان والمكان الحاضر فيه، وفي هذا الفقدان تتحرّكُ مسيرة "الوعي المهزوم" داخل "زمن مهزوم" تحكمه الخسارة. 

وربّما يتواصلُ هذا الفقدان، ليشملَ حتّى فقدان الإدراك الذي يتعرّى من المسمّى منتقلاً إلى اللامسمّى، ويتنصّل من الموجود باتّجاه الوجود: 

"في لحظات فقدان الإدراك يا سادة، أشعرُ بطاقةٍ روحيّة غامضة، قدرة على التّحديق في الأشياء أو بالأحرى، في حضور الأشياء وتبدو وكأنها بلا تاريخ، أو كأنني بلا ذاكرة، قابلية لمحو أسماء الأشياء أو بالأحرى الإشارات أو اللغة، ويبدو وكأن الأشياء تتعرّى من أسمائها ويبزغ ما يسمّيه لاوتسو بـ "اللامسمّى"، إنّه حضورٌ شاملٌ لشيء وراء اللغة، إطلالة للوجود أكثر ممّا هي للموجود".

اختار حسين البرغوثي -دائم السّؤال دائمَ الإجابة- بطولتَه الفلسطينيّة بنَفسه، وقد تأسست بطولة على القلق والشكّ والعَودة إلى المُدرَك بصفته لا مألوفًا، وداخل هذه المساحة العريضة، تحمّل مسؤوليّة قلقه تجاه الوجود، وتجاه المكان الفلسطينيّ المُحمّل بأزمة الحرية، على الصّعيد الفكريّ والمادّي. حتى وهو يبحث في مفهوم المكان في القصيدة العربيّة، تطرّق البرغوثي إلى "انفصاميّة" الأنا في الشّعر العربي، وزعزعة الهويّة الذاتية وهي تنتقلُ من البرّاني اللغويّ إلى الجوّانيّ المتشظّي، رادًا إيّاه إلى علاقة مركّبة مع المكان.

كَتَب حسين، في أعماله النثريّة والشعريّة والفكريّة، كل المفردات الكبرى، والأفكار الكبرى لما تعنيه فلسطين: البداية، النهاية، المكان، الزمن، الذاكرة، الانتفاضة، وغيرها، وخلقَ في علاقته معها ديالكتيكيّة تتأسس على الإحساس بالغموض والتعدد والقلق: الفراغ، الكَون، اللامسمّى، المألوف، الغريب، الصمت، الأنا، الوعي المهزوم، الألم، وغيرها. عوضَ اختصار المكان في المفردات، وسّع الشاعر المفردات في قلب المكان، وعبر ديالكتيك القلق أثّث "الرّؤية" الحقيقيّة لعلاقته بالمكان من خلال تحويله إلى رهينة التأويلات والتعدّد، مغازلا إيّاه بتأصيل تفاصيله.

المكان، وخرائطه، هو مكانٌ لا يتواجدُ بوصفهِ مكانًا خارجَ الكاتب، بل هو "لا مسمّى" متوطّنٌ داخل القلق العصابيّ للكاتبِ، القلق الذي يولّدُ دلالات نفسيّةً لهذا المكان، وما حوله، ويمهد الطريق لتداعيات أخرى تَسقطُ على "الما حَول" وتهبه دلالات وتأويلات، فيصبحُ الضّوءُ ضوءين، والذاكرةُ ذاكرتين:  

"وأنا واقف فوق الخرائب تلك، شعرتُ بفَرقٍ شاسع بينَ نوعين من "الضوء": القمر والنيون في المستعمرة. كان الأخير مُرتّبًا، ومهيمنًا، حادّ البياض، منتشرًا حتّى وراء الأسلاك الشائكة، التي تعزلُ كلّ مستوطنة عن محيطها، أشبه ما يكون بـ "رؤيا مسلّحة" باحتلال بصريّ، ومعمار ضوئيّ لدَولة تهذي حتّى في منامها برؤى مسلّحة ومضاءة بالنيون. وبدَت المستعمرة كلّها كتابًا في النفس أيضًا: في العلاقة بين "القوة" و "الضّوء" لم يدرس أحدٌ بعد العلاقة بين القوّة والضّوء!"

الحيّز/المكان الخرب والسّليم، هو حيّز يثوّر ويغرّب، ويقودُ إلى الأشياء التي لا تُعطى تعريفًا واحدًا ومسارًا واحدًا تبتلعه فضيحة التّكرار وفضيحة المستنفذ. وبالتالي تصيرُ رؤيته رؤيةً تولّدُ طبقات من رؤى تكشفُ عن مسافة مؤلمة بين المعروف خارجَ الرّوح، وبين المعروف داخله، وتصيرُ الذاكرة ذاكرتين: ذاكرة ضحيةّ سوريالية، وأخرى جلادة سورياليّة: "وبدا لي أنني أرى ذاكرتين معاً: ذاكرة الأفاعي التي تزغرد وهي تطير، وذاكرة من رؤى وأساطير مسلّحة تحلم بإبادة الأفاعي (أولم يقل اسحاق شامير، رئيس وزراء إسرائيل السابق، في الانتفاضة السابقة، بأن العرب "أفاع"؟). وبينَ الذاكرتين، ذاكرة الضحية  وجلادها، ما يشبه الوادي، أو "الهوّة"، صدع عميق ما، وأنا واقف على هذا الصّدع اللامرئيّ.

ولا حاجةَ لأن نقولَ إنّ حسين البرغوثي كان كاتبًا يعاني. والمعاناة وجوديّة وجدانيّة تأخذ شكل الصّمت، وشكلَ التأمّل في الأشياء والظواهر. هذا التأمّل الذي يضربُ الصّمت في قاعدته، صمتٌ لا ينبعُ من فراغ، صمتُ طافحٌ بالإجابات، بتعبير هكسلي، صمتٌ ملولٌ و"بوليفونيّ" أشبه بميكانيزم يقوده إلى حفرٍ أكثر في كلّ ما له علاقة بهويّته في العالَم، في فلسطين، في كوبر، في أقصر مسافةٍ بينَه وبينَ التأمّل في الظواهر:

"والصّمتُ موسيقى. هذه حكمة قديمة. ولكن قلّة تعرف أن الصّمت أنواع. في "الدّير الجوّاني" نوع غريب من الصّمت، والدنيا قمر، والهواء صقيعيّ. مثلا، أمام مغارة رومانيّة ذاتَ باب صغير ومستطيل كان فيها، قديماً، حوض ترسّبت فيه مياه فوق هياكل عظميّة متحلّلة، وجماجم، ودمّره لصوص الآثار بحثًا عن الذهب."

ولعلّ أكثر ما يشدّ في مشروع البرغوثيّ الصّامت في قلقٍ، الوادع في غليانٍ، قُدرتَه على أن يقولَ/يكون الفلسطينيّ الّذي لا يمكنُ أن يقوله أحدٌ غيره. هذا الفلسطينيّ الذي "يلعبُ" دون أن يُحاسَب على لعبته. ذلكَ لأن لُعبَته جاءَت صامتةً تجادلُ الذات، تخرجُ وتدخل في عُمق المكان المتصدّع، وتستكشفُ الهوية/الهويّات، فلا يعودُ من مسارٍ واحدٍ لتعريف الأشياء، ولا تعودُ الرؤية أحاديةً لا للبداية ولا للنهاية. خيانةً للتعريف، ووفاءً للتجريب المعلَن عنه في هامش الكلام، المترامي في المسافات. فلا تعود من قدرة على احتمال مبدأ لخيار: إمّا أو:

"قل: يا أيها الشفق الأخضر، الأحمر، المترامي في المسافات، قد خيّرتني بينَ اغترابي عنها وبينَ اغترابي فيها قفارُ البلاد، فقلتُ: يعزّ علينا الخيار."

اللاخيار، اللامسمى، اللاواصل.. كلّها صفاتٌ وسمَت مشروع البرغوثي الموغل في سيره نحو البراري. ولا عجبَ أن يُعلنَ عن كونِه وكينونته المتعدّدة الواثقة من حتميّة تحولاتها، ليكون الأمير، وفرعون والعبيد والمسافة والسّجون، قاصدًا صياغاتٍ أخرى:

"سمّه ما شئتَ، أو كَيفَ اشتهيت،

هو الخروج عن الذي سمّيت،

وهو الاشتهاء لغير ما كنتَ اشتهيت،

فسمّه الرّقصَ النقيض،

صياغة أخرى عنيت".

يعودُ حسين البرغوثي على الدّوام إلى البدايات، مكانًا،  يستثيرُ غرابَته بنظرةٍ تكسرُ رتابة الزّمن الحاضر الذي يكتب فيه. يكسرُ ملل اللحظة الحاضرة، ملل زمنه، بلَوعة المكان الأوّل، بنَفخِ الحركة والحكاية فيه من جديد. وهو بهذا، يُشكّل وعيَه من جديد، أو وعيًا جديدًا، دون حاجةٍ لأن يخرجَ عنه، أو يطلبَ، استجداءً، تعاطفَ الجماعة. هذه العَودة إلى المكان الأوّل، إلى البداية المتصدّعة، التي تطالب الذات بالاستكشاف بدلاً من الاحتفاء بالحنين، وهو استكشاف يحوّل الواحد المجرّد والبرّانيّ والمُبصَر بالعين، والضاج بالأصوات، إلى متعدّد صامت جوّاني، وتنقل المكان الجغرافيّ، بصفته موضعًا أو محلاً للإقامة، إلى مكانٍ هندسيّ لا حدود له، أو على الأصحّ حقيقة نفسيّة تعبّر عن البرغوثي، المتمكن فيه من جديد، ليشكّل علاقته به، كما يجبُ للفلسطيني أن يشكّل علاقته بالمكان، بعد أن يستقر (المكان) ويهدأ. 

تُرى هل تجاوزَ البرغوثي زمنه بسرعة ضوئيّة لا يمكن حتى اللحظة تخيّلها؟ هل ابتلَع المكانَ والهويةَ وأفرز أمكنةً وهويّات ظلّت في سيرورة متحوّلة، ولم تصل بعدُ إلى اكتمال ونضوج؟ 

مشروع حسين البرغوثيّ الفكريّ، هو مشروع وقوفٍ وتأمّل في الصّدع، مشروعٌ بُتِرَ قسرًا توقّف عند حدود الرقم المصدوع "48". هذا المشروعُ الّذي يحفرُ عميقًا في ما وراء السّؤال وانشطاراته يبني علاقةً ماهويّة مع أسئلة فلسطين الحداثيّة، على المستوى السياسيّ والنفسيّ والجغرافيّ والمعرفيّ. وربّما هذا الدخول/الخروج/الدخول من المكان وإليه هو الأجدر والأنجع في التعاطي مع أسئلة الوجود الفلسطينيّ، الأسئلة المبتورة التي لم يكتمل نضوجها بعد لأنّها ظلّت أسئلة مرميّة على هامش العَمل الوطنيّ. من سيكملُ مستقبلاً مشروع البرغوثيّ المبتور، هذا الذي "ضربه القَمر"، أو هذا النبيّ الذي ضيّعه أهله، وربّما، هذا الذي رأى المكانَ عاريًا؟