جلبير الأشقر، بعد عقدٍ على الثورات: لا يوجد استبداد أبدي

2021-04-02 03:00:00

جلبير الأشقر، بعد عقدٍ على الثورات: لا يوجد استبداد أبدي
EGYPTIAN REVOLUTION 2011, Shawn Baldwin

لكنّ المحاولات السلطوية، على طريقة السيسي في مصر، محكومة بالفشل عاجلاً أم آجلاً لأنها عاجزة عن حلّ الأزمة الاجتماعية الاقتصادية. فإن معظم أنظمة المنطقة سلطوية واستبدادية منذ أمد طويل، ومع ذلك شهد حتى الآن أكثر من نصف دول المنطقة العربية انتفاضات،

عقدٌ مرّ حتى الآن على الثورات العربية التي نزل النّاس، في سياقاتها، إلى شوارع معظم البلدان العربية. لجلبير الأشقر مساهماته في تحليل اندلاع الانتفاضات واستمراريتها، وفي تواتر موجاتها، تحديداً في كتابيه «الشعب يريد» و«انتكاسة الانتفاضة العربية... أعراض مرضية». هنا، نحاور الأشقر في هذه الانتفاضات، وفي تأثيرها على الحالة الفلسطينية، ودائماً في ما سمّاه "سيرورة ثورية طويلة الأمد".

أجرى المقابلة حيان جابر


مرّت المنطقة العربية بموجتين ثوريتين حتى الآن، بدأت الأولى في نهاية 2010، والثانية في نهاية 2018، ولم تفضِ أي منهما إلى تحقيق أهداف الحركة الثورية الرئيسية، مع تمايز ملموس على مستوى الإنجازات في كل من تونس والسودان تحديدًا. أنت اشتهرت بتأكيدك على أن المنطقة مقبلة على موجات ثورية أخرى، فليتك تفسّر لنا سبب هذه القناعة؟

لا شك لدي في أننا أمام أفق طويل الأمد من استمرار خضّات كالتي ما انفكّت المنطقة العربية تشهدها منذ انطلاق ما سمي بالربيع العربي في عام 2011. أما تفسير ذلك فيعود إلى شرح الأسباب العميقة لما حدث منذ البداية، أي منذ الانفجار الإقليمي الكبير الذي بدأ من تونس في نهاية 2010. حصل هذا الانفجار نتيجة انسداد آفاق التنمية في المنطقة العربية، وهو ما أنتج ارقاماً قياسية عالمية في بطالة الشباب بصورة خاصة، وحالة اجتماعية من الكبت والفقر متفاوتة الأحجام في بلدان المنطقة على خلفيّة مستويات فجّة من اللامساواة الاجتماعية والحقوقية. فعندما نشخّص السبب العميق للانفجار بهذه الطريقة، نستخلص بصورة منطقية أنه سوف يستمر ما دامت الشروط التي ولّدته قائمة. بكلام آخر، لا خروج من الأزمة التي انفجرت في عام 2011 بعد تراكم شروطها لمدة عقدين أو ثلاثة، دون تغيير جذري في البنى الاجتماعية السياسية، أي طبيعة الدول، وبالتالي في السياسات الاقتصادية والتنموية. هذا هو التشخيص الذي بنيتُ عليه منذ البداية تعريفي لما كان يجري بأنه لن يكون "ربيعاً" وحسب، بل بداية ما أسميته "سيرورة ثورية طويلة الأمد".

فتجب مقارنة ما بدأ في منطقتنا مع سيرورات ثورية أخرى طويلة الأمد شهدها التاريخ. فلو تأملنا على سبيل المثال بالثورة الفرنسية، رأينا أن فرنسا مرّت بتحوّلات واضطرابات سياسية لمدة طويلة، امتدّت عشر سنوات في مرحلتها الأولى حتى نابليون الأول، بينما يرى اليوم المؤرخون أن حكم نابليون لم يكن سوى محطة في سيرورة ثورية استمرّت حوالي قرن من الزمن حتى الجمهورية الثالثة التي تلى قيامها سحق كومونة باريس في عام 1871، والكومونة هي الانتفاضة الأخيرة في سلسلة الانتفاضات التي بدأت عام 1789. وكذلك لو نظرنا إلى روسيا والصين وجميع الدول التي شهدت ثورات كبرى، وجدنا أنها عرفت سيرورات امتدت لفترة طويلة من الزمن. هذا والأصحّ أن نقارن السيرورة الثورية الراهنة في المنطقة العربية بمجمل التجربة الثورية في أوروبا الغربية عند الانتقال من الأنظمة الموروثة عن العصر الإقطاعي إلى الدول الحديثة، إذ إننا في صدد جملة بلدان وليس بلداً واحداً كما في الأمثلة سابقة الذكر. 

ليست الآفاق المستقبلية واضحة اليوم، لكن ما هو أكيد هو أن المنطقة لن تعود إلى الاستقرار الاستبدادي الذي كان قائماً قبل عام 2011. لقد دخلت في نفق طويل من الخضّات والثورات والردّات المضادة للثورة والحروب، سوف تستمرّ على هذه الحال حتى بدء حلّ الأسباب التي دفعت الشعوب إلى الثورة. وبالطبع، لا حتمية في الوصول إلى حل إيجابي، فقد يتعثّر إيجاد حلول للمشاكل التي ذكرناها بما يؤدي إلى مزيد من المآسي، وهو ما نتمنّى عدم حدوثه، لكن لا بدّ من وضعه في الحسبان.

ما هي العوامل التي تسمح للشعوب والطبقات الثائرة أن تحقق أهدافها، أي الشروط التي تسمح للثورات بالانتصار؟

تحدث الثورات عندما تجتمع شروط الانفجار الثوري الموضوعية، أي أزمة اجتماعية مترافقة بأزمة سياسية، في حين أن حل الأزمات بتجاوزها ثورياً يتطلب شروطاً ومقوّمات تسمح بتحوّل الظرف والانفجار الثوريين إلى ثورة ناجحة. ويأتي في طليعة هذه الشروط توّفر القدرة الذاتية لدى الحركة الشعبية، أي وجود أدوات تنظيمية سياسية قادرة على قيادة النضال حتى تحقيق التغيير الثوري المنشود. شهدت المنطقة العربية في عام 2011 انفجارات فقدت مثل هذه الأدوات، باستثناء الحالة التونسية حيث وفّر الاتحاد العمّالي (الاتحاد العام التونسي للشغل) اطاراً تنظيمياً قاد العملية الثورية بعد انفجارها بما تناسب مع تطلّعات الحركة الشعبية. أما في الدول الخمس الأخرى التي شهدت انتفاضات خلال الموجة الأولى، فلم توجد أطرٌ منظمة ومتجانسة تعبّر عن التطلعات الثورية وقادرة على قيادة العملية الثورية بشرعية شعبية. وقد فسح هذا الأمر المجال أمام قوى سياسية ملكت إمكانيات أكبر وحظيت بدعم خارجي إعلامي وتمويلي، كقوى جماعة الإخوان المسلمين المدعومة من إمارة قطر، لتركب الموجة الثورية وتسعى وراء تجييرها لصالحها. فقد وصلت إلى الحكم في تونس، مستفيدة من انسحاب الحركة النقابية من حلبة الصراع السياسي إثر سقوط بن علي، وكذلك في مصر، كما في ليبيا واليمن حيث شاركت في الائتلافات التي وصلت إلى الحكم في عام 2011. كما طغى الإخوان المسلمون على المعارضة السورية من خلال هيمنتهم على "المجلس الوطني" الذي تشكّل في اسطنبول.

بيد أننا نلحظ وضعاً مختلفاً في الموجة الثانية التي شملت السودان والجزائر والعراق ولبنان، حيث غابت القوى الدينية الأصولية عن الحراك الشعبي، بل وقفت في صف الأنظمة. فقد شاركت هذه القوى في نظام عمر البشير في السودان، بما جعلها عاجزة عن ركوب موجة الحراك الشعبي مثلما حصل في عام 2011. كما سبق لجماعة الإخوان المسلمين أن شاركت في حكومات بوتفليقة في الجزائر، بينما ساهمت ذكرى الحرب الطاحنة بين الجيش والجماعات الجهادية التي شهدتها البلاد في التسعينيات في تحذير الحركة الشعبية من الجماعات الأصولية. أما في العراق ولبنان فإن القوى الأصولية جزء أساسي من الحكم مثلما هي الحال في السودان، مع الفرق أنها أطراف طائفية شيعية مرتبطة بإيران. لكنّ عجز القوى الإسلامية عن ركب الموجة الثانية ترك فراغاً سياسياً، بسبب ضعف القوى التقدّمية. لذا نلحظ خلو الجزائر والعراق ولبنان من أي قوى تستطيع أن تدّعي تمثيل الحركة الشعبية والتعبير عن برنامجها بصورة مشروعة، وإن قام تنسيق بين أطراف مختلفة من أجل تنظيم الحراك كما هي الحال في الجزائر.

السودان هو الاستثناء في المنطقة والحالة الأكثر تطوراً من حيث الأطر القيادية للحراك الشعبي، إذ نجد هناك طرفاً نقابياً هو "تجمع المهنيين السودانيين"، نشأ في المعارضة السرّية لنظام البشير الدكتاتوري، وتمكّن من لعب دور أساسي منذ الانفجار في ديسمبر 2018. والتجمع طرف تقدّمي نقابي وسياسي في آن واحد، بما يشكّل تطوراً عن الحالة التونسية التي يلعب فيها اتحاد الشغل دوراً نقابياً فقط، فضلاً عن أنه مؤسسة قديمة تثقلها طبيعتها البيروقراطية خلافاً للتجمع السوداني. كما تحظى الحالة السودانية بتنظيم ذاتي للحركة الشبابية، تشكّله "لجان المقاومة" داخل أحياء المدن وفي شتى المناطق، تضمّ في صفوفها عشرات الآلاف وربّما أكثر، وتتفاعل مع تجمع المهنيين بدون أن يكون لها قيادة مركزية، إذ تستخدم اللجان شبكات التواصل الاجتماعي كي تنسّق مواقفها بحيث يلتقي معظمها على توجهات مماثلة، وهي تقبل بشرعية قيادة تجمع المهنيين للحراك. هذه الميزة في تنظيم الحراك السوداني لم نشهدها حتى الآن في أي بلد أخر من بلدان الانتفاضات، وهي شرط رئيسي لمستقبل السيرورة الثورية الإقليمية. فلو توفّر هذا الشرط وتوفّر معه الإصرار الثوري والذكاء السياسي، لأصبحنا أمام آفاق تسمح بالتفاؤل في مستقبل السيرورة الثورية، أما إن لم يتحقق ذلك، فسوف تتوالى الخضات والهبّات، تليها الردّات الرجعية واحتمالات الحرب أهلية.

طبعاً يبقى الوضع في السودان معقّداً للغاية بسبب تسلّط القوات المسلّحة على الحكم منذ عقود طويلة، وهي حالة يتطلب تجاوزها القدرة على منع قيادة القوات المسلّحة من استخدام المؤسسة في قمع الحركة الشعبية، وبلوغ مثل هذه الحال عملية عسيرة وطويلة. علاوة على ذلك، ثمة تدخل خارجي في دعم العسكر من طرف الإمارات المتحدة ومصر والسعودية، بما يزيد من تعقيد الوضع. يبقى أن السيرورات الثورية طويلة الأمد سيرورات تراكمية، حيث تتعلّم الحركات الشعبية من تجاربها السابقة ومن تجارب البلدان المجاورة. فنلحظ مثلاً أن الحركات الشعبية في السودان والجزائر تعلّمت مما حصل في مصر، فلم تكرّر أوهام الحركة الشعبية المصرية حول الجيش، التي شهدناها في عامي 2011 و2013، بالرغم من التشابه الكبير بين التجربتين السودانية والجزائرية من جهة، والتجربة المصرية من الجهة الأخرى، من حيث قيام العسكر بإقالة رئيس الدولة. فلم تهلل الحركة الشعبية في الجزائر والسودان للقيادة العسكرية، بل حافظت على مطالبتها بجلاء الجيش عن الساحة السياسية وإحلال دولة مدنية. فإن مصدر الأمل الأكبر يكمن في أن الأجيال التي انخرطت في السياسية من خلال التجربة الثورية، ستتعلم من التجارب المتراكمة حتى تصل إلى حالة من النضج تسمح بانبثاق أطر تنظيمية قادرة على قيادة الثورة حتى النصر.

هل ترى مكامن تناقض بين أهداف وتطلعات الشعوب وبين محاولات التغيير الديمقراطي الجارية في بعض دول المنطقة؟

هذا السؤال يلفت إلى موضوع الديمقراطية، وهي تحتاج إلى تعريف. فهناك ديمقراطية شكلية بمعنى توفّر جملة شروط منها الحريات الديمقراطية، لاسيما حرية التعبير، وحق الترشح والتصويت، وانتخابات نزيهة. لكنّ الديمقراطية الشكلية قد تكون ملغومة بسبب عوامل أخرى، كما في الحالة الأمريكية التي وصفها عنوان أحد الكتب بأنها "خير ديمقراطية يمكن أن يشتريها المال"، وهو عنوان ساخر يشير إلى دور المال في تشويه شروط الديمقراطية في الولايات المتحدة. ونجد في المقابل، في حالات ديمقراطية أكثر تقدماً كما في بعض البلدان الاسكندنافية، أن الدولة توفّر شروط تنافس سياسي أكثر عدالة بتأمينها حداً أدنى من التمويل والمساحة الإعلامية لمختلف القوى السياسية.

أما في التجارب الديمقراطية المحدثة في منطقتنا بعد عقود من الدكتاتورية فنجد فيها خللاً كبيراً في شروط التنافس بين قوى حديثة انبثقت عن الحراك الشعبي، وبين قوى النظام القديم والقوى التي استطاعت أن تبني ذاتها في خضم الدكتاتورية، نتيجة تسامح النظام القديم معها، مثلما كانت حال الإخوان المسلمين في مصر، أو لأنها تحظى بإمكانيات مالية كبيرة وبدعم تلفزيوني. هكذا رأينا في الحالة التونسية كيف استفادت "حركة النهضة" من دعم قطر الإعلامي من خلال "الجزيرة" والمالي، بينما لم تكن لدى باقي قوى المعارضة لنظام بن علي مثل هذه الإمكانيات والقدرات.

وقد أدرك الحراك السوداني أن في الأمر فخاً، حيث حاول العسكر دفع الأمور نحو انتخابات مبكرة بينما رفضت الحركة الشعبية ذلك وأصرّت على تأجيل الانتخابات، وقد تم التوافق على مهلة ثلاث سنوات. أي أن الحركة الشعبية السودانية التي ناهضت الدكتاتورية هي التي أصرّت على تأجيل الانتخابات، وهذا نتيجة أخذها العبرة من تجارب سائر دول المنطقة وحركاتها الثورية. فقد أدركت أن انتخابات تجري سريعاً بعد عقود من الدكتاتورية من شأنها أن تصبّ في صالح قوى النظام القديم، بينما تتطلب عملية الانتقال الديمقراطي إتاحة الوقت أمام القوى التي كانت مقموعة كي تبني نفسها وتخوض الصراع الأيديولوجي والسياسي الذي كان محرّماً عليها خوضه.

هذا وحتى لو تحققت شروط الديمقراطية الشكلية الدنيا، فقط لا غير، فهي تبقى مكسباً بدون أدنى شك، مقارنةً بشروط الدكتاتورية. فإن تجربة تونس الديمقراطية، على الرغم من طغيان جماعات النظام القديم و"حركة النهضة" عليها، حتى وقت قريب على الأقل، إنما توفّر مكاسب مهمة، لاسيما الحريات السياسية. فإن السيناريو التونسي الائتلافي بين "النهضة" ورجال النظام القديم أفضل من السيناريو المصري حيث سحق النظام القديم جماعة الإخوان المسلمين، ذلك أن وجود قوتين متنافستين في الحكم يفسح مجالاً من الحريات أمام القوى الأخرى ويوفّر حيزاً من الديمقراطية. ومع ذلك فإن تونس أفضل مثال على ما قلناه في البداية، بأن الديمقراطية ليست هي الحلّ بذاتها، بل هي فقط جزء من الحلّ، إذ إن حلّ أزمة مجتمعاتنا يقتضي تغييراً أعمق بكثير في بنى الدولة والطبيعة الاجتماعية للقوى المسيطرة على الحكم والسياسات الاقتصادية.

إثر الموجة الثورية الأولى في عام 2011، وفي معظم الدول التي شهدت انتفاضات آنذاك، حصل تهميش أغلب أطراف المعارضة لصالح قوى النظام القديم والإخوان المسلمين والسلفيين المدعومين من المملكة السعودية. وبدءاً من عام 2013، وهو العام الذي شهد انتكاسة الطور الأول من السيرورة الثورية الإقليمية، شهدنا صداماً بين النظام القديم والإخوان المسلمين في كافة الساحات، بما شمل الحرب في سورية والانقلاب العسكري في مصر والتسوية السياسية في تونس التي أدّت إلى ائتلاف بين "النهضة" وأزلام النظام القديم في "نداء تونس". هذا النوع الأخير من التسوية كان هو الأقرب إلى الرغبة الأمريكية، رغبة إدارة باراك أوباما التي حبّذت التعاون مع الإخوان. والحال أن الجماعة منسجمة تماماً مع السياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي كانت قائمة قبل الثورات والتي تمليها المؤسسات المالية الدولية الخاضعة لواشنطن، إذ إن الفرق الرئيسي بين الإخوان وبين النظام القديم يكمن في رغبتهم فرض الدين في شتى المساحات الاجتماعية والسياسية ومؤسسات الدولة أكثر مما كان مفروضاً بالأصل، حيث ليست أي من الدول العربية دولة علمانية حقاً.

هذا وكانت المملكة المغربية سبّاقة في مجال خيار الائتلاف بين النظام والإخوان على الرغم من أن المغرب لم يشهد انتفاضة، بل عرف حراكاً شعبياً مهماً في العام 2011. وقد نجح النظام الملكي في الالتفاف على الحراك، إدراكاً منه لرغبات واشنطن وأوروبا، فقام بوضع الإخوان المسلمين، أي حزب العدالة والتنمية، في الحكومة، وهو أمر مستمر حتى الآن. وقد نشب خلاف بين نظرة إدارة أوباما التي التقت مع قطر وتركيا، وبين نظرة المحور الإماراتي- السعودي، ومعهما الجيش المصري بقيادة السيسي، الذين رفضوا التعاون مع الإخوان.

شهدنا الكثير من الترويج لنجاح التجربة التونسية بسبب مأسسة الديمقراطية بحكم تكرار التجربة الانتخابية، رغم استمرار الاحتجاجات الشعبية. هل تعتقد أن النموذج التونسي الراهن قابل للاستمرار دون تلبية مطالب الشارع الاقتصادية والاجتماعية؟

ببساطة كلا، فكما ذكرت قبل قليل، تونس هي أوضح برهان على أن الديمقراطية بذاتها ليست هي الحلّ، بل هي فقط جزء من الحلّ لا بدّ من أن يترافق مع تغيّرات أعمق بكثير في المجالين الاجتماعي والاقتصادي وفي الطبيعة الاجتماعية لطاقم الدولة. فبينما توفرت في تونس حريات فعلية أتاحت لكافة القوى الخوض في العملية الانتخابية، تردّى الوضع الاجتماعي الاقتصادي بما أثار موجة بعد موجة من الاحتجاجات الشعبية، والشبابية بوجه خاص. وإذ تحاول القوى المسيطرة حالياً تحميل الاحتجاجات مسؤولية انزلاق الوضع الاقتصادي تبريراً لمنعها وقمعها، ليس من شأن ذلك سوى أن يؤدّي إلى عودة تدريجية نحو السلطوية وإعادة تمكين الدولة البوليسية.

لكنّ المحاولات السلطوية، على طريقة السيسي في مصر، محكومة بالفشل عاجلاً أم آجلاً لأنها عاجزة عن حلّ الأزمة الاجتماعية الاقتصادية. فإن معظم أنظمة المنطقة سلطوية واستبدادية منذ أمد طويل، ومع ذلك شهد حتى الآن أكثر من نصف دول المنطقة العربية انتفاضات، عشر دول من أصل 18 (لو استثنينا دولتي الأمارات المتحدة وقطر اللتين لا يحمل جنسيتهما سوى قرابة 10 بالمئة فقط من سكانها)، وقد أثبت هذا الانفجار العظيم أن الأنظمة السلطوية لم تعد قادرة على الاستمرار في الاستقرار الاستبدادي الماضي، لأن الأزمة الاجتماعية الاقتصادية باتت متفجرة، بل ولا تني تتفاقم. 

اسمح لي الآن بالانتقال إلى قضية أخرى مرتبطة بالحالة الثورية، تم تداولها بكثرة منذ بداية الحركة الثورية ولاسيما بعد انضمام سورية إليها، وهي مكانة القضية الفلسطينية بعد انطلاق الموجة الثورية في المنطقة العربية. فهل تراجعت أم تقدمت، وهل تتناقض الثورات مع مركزية القضية الفلسطينية؟ هل تشكل القضية الفلسطينية جزءاً من مهام الحركات الثورية في المنطقة؟ فكيف ترى القضية الفلسطينية في هذه المرحلة؟

الساحة الفلسطينية لها خصوصيتها وامتيازاتها بحكم الاحتلال الصهيوني، وأقصد هنا احتلال أراضي 67، ناهيك من الأراضي التي قامت عليها الدولة الصهيونية قبل حرب عام 1967 والتي فيها أيضا مجتمع فلسطيني مكبوت. أما بالنسبة للأراضي المحتلة عام 67، فقد مرّت بسيرورة شبيهة بالتي نراها اليوم على صعيد المنطقة العربية بأسرها، إذ شهدت انتفاضة شعبية عارمة بلغت ذروتها في عام 1988، وكذلك انتفاضة ثانية بدأت في عام 2000، ثم انحصر الصراع في الساحة الفلسطينية في المواجهة بين "السلطة الوطنية" المرتبطة بالأنظمة العربية وحركة حماس، فرع جماعة الإخوان المسلمين، بما أدّى إلى انشقاق أراضي 67 بين قطاع غزة والضفة الغربية. وهو وضع يشبهه نوعاً ما انشقاق شرق ليبيا عن غربها، مع سيطرة جماعات تشمل بقايا النظام القديم ويتزعّمها خليفة حفتر على شرق البلاد بينما يسيطر الإخوان المسلمون وحلفاؤهم على غربها. فهذا التماثل إنما يثبت أن الساحة الفلسطينية جزء لا يتجزأ من الحالة السياسية العربية. ولو لم تشهد انتفاضة جديدة منذ عام 2011، فإنها شهدت انتفاضتين قبلاً، وسبقت سائر بلدان المنطقة إلى نوع الانقسام الذي تعاني منه اليوم.

طبعاً، من الواضح أن القضية الفلسطينية فقدت من مركزيتها السياسية في المنطقة. فقد عانت من استغلال الأنظمة لها ديماغوجياً في محاولة لإضفاء شرعية على حقيقتها الدكتاتورية، والحالة السورية نموذجٌ بغنى عن الشرح. وعندما حصل الانفجار الكبير على خلفية قضايا اجتماعية وسياسية، حاولت الأنظمة في سورية وليبيا واليمن وغيرها أن تحيل الانفجار إلى نظرية المؤامرة وتنسبها إلى الصهيونية كما جرت العادة. غير أن الشعوب لم تقع في الفخ ولم تتنكّر للقضية الفلسطينية، بل بقيت هذه، وسوف تبقى، قضية أساسية في ضمير المنطقة العربية. غير أنها فقدت من محوريتها، لاسيما أن ما يجري في المنطقة حالياً لا تتدخل فيه الدولة الصهيونية بشكل مباشر، بل التزمت موقف المتفرّج، وهي مسرورة من الفوضى التي عمّت المنطقة لأنها تعزّز من أهميتها الاستراتيجية في نظر عرّابها الأمريكي، باعتبارها قلعة صامدة مستقرة قادرة على الضرب والتدخل عندما تدعو الحاجة. ونجدها تراقب أوضاع سورية عن قرب، فهي تفضل "الشيطان الذي تعرفه"، أي نظام الأسد، على ذاك الذي لا تعرفه في الجماعات المناهضة له. لذا انحصر تدخلها في فرض "خط أحمر" رسمته منذ البدء، وهو إبعاد أي تواجد إيراني ثابت من حدود الجولان المحتل، وذلك بقصف كل ما قد يصبّ في تثبيت مثل هذا التواجد. ويجري هذا القصف الصهيوني بضوء أخضر روسي، يتجلّى بعدم مساس الدفاعات الجوية الروسية بالطائرات الإسرائيلية، بالرغم من أن القوات الروسية في سورية تحوز على ترسانة كبيرة من هذه الدفاعات. وعدا ذلك، فلم تكن الدولة الصهيونية فاعلاً رئيسياً في الأحداث، لذا لم تكن وليست إلى الآن في صميم اهتمامات الانتفاضات. إلى ذلك، لا بدّ من أن نضيف أن حجم المآسي الضخم، ولاسيما في سورية واليمن، فاق حجم المأساة الفلسطينية من حيث عدد القتلى وحجم الدمار والتهجير.

لكن، وبالرغم من كل ذلك، عندما تحرّكت الرجعية العربية نحو التطبيع مع دولة إسرائيل من خلال "اتفاقيات ابراهام" في نهاية ولاية إدارة ترامب، كان الموقف الشعبي في المنطقة واضحاً وكاسحاً في نفوره من التطبيع ومعارضته له. ذلك أن القضية الفلسطينية تبقى قضية أساسية في وجدان وضمير شعوب المنطقة، لكن الأولويات الراهنة لدى هذه الشعوب هي مواجهتها للأنظمة القائمة في بلدانها. وعندما سوف نرى في المستقبل انتفاضة جديدة في الساحة الفلسطينية تلتحق بالسيرورة الثورية الإقليمية، ستعود فلسطين إلى صدارة الاهتمام، لأنها ستواجه من جديد القمع الصهيوني بما يبيّن بكل وضوح أن الدولة الصهيونية هي جزء لا يتجزأ من النظام الرجعي القمعي الإقليمي.

هناك عدة عوامل لتراجع القضية الفلسطينية كالتي تحدثت عنها قبل قليل، فهل تمكن إضافة العامل الذاتي الفلسطيني؟ أي هل يُعتبر الجسم السياسي الفلسطيني مسؤولاً عن الحالة السائدة ما بعد توقيع اتفاق أوسلو؟ وهل تراجعت القضية الفلسطينية منذ انفجار الحركة الثورية في المنطقة؟ أم أن تراجعها سابق للانفجار؟

طبعاً، عانت الساحة الفلسطينية وتعاني من أزمة سياسية مشابهة لما تكلمنا عنه بصورة عامة، بمعنى أنها شهدت، كما سبق الذكر، تهميشاً للقوى المعبّرة عن التطلعات التغييرية العميقة وسيطرة للتقاطب بين النظام القديم في طرف والإخوان المسلمين في الطرف الآخر. كانت الساحة الفلسطينية سبّاقة في هذا المجال، حيث أفضى الأمر إلى مواجهة بين السلطة الحاكمة في رام الله، وحماس الحاكمة في غزة، أي بين طرف ينتمي إلى النظام الرسمي العربي، وطرف ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين، أما القوى التقدمية الفلسطينية فقد باتت هزيلة.

المشكلة الكبرى في هذا الصدد هي أن اليسار الفلسطيني هو صورة نموذجية عن اليسار العربي القديم، الذي دخل منذ عقدين أو ربما ثلاثة عقود في احتضار، دون أن يترافق ذلك مع ظهور يسار جديد في مجمل المنطقة، سوى ربّما ما نشهده بصورة غير مبلورة في بعض الحالات، مثل لجان المقاومة في السودان، وبعض الجماعات الشبابية التي تتشكل هنا وهناك، كما يحصل الآن داخل الحركة الطلابية في لبنان. فقد ركّز اليسار في الساحة الفلسطينية جلّ اهتمامه على الموضوع الوطني، وأحال القضيتين الطبقية والديمقراطية إلى الخلف بدل ربط الأبعاد الثلاثة ربطاً مُحكماً. وقد تجلّى ذلك في ارتباط اليسار الفلسطيني بأنظمة دكتاتورية، كعراق صدام حسين وليبيا القذافي وسورية الأسد. فكيف يمكن لمثل هذا اليسار أن يجسّد تطلعات الجيل الجديد الذي يصبو إلى الديمقراطية والتغيير الاجتماعي والاقتصادي، وهو بالأمس، أو حتى الآن فيما يتعلق ببشار الأسد، يؤيد أنظمة دكتاتورية؟ هذا ونرى إرهاصات لانبثاق يسار جديد فلسطيني في مسيرات العودة وغيرها من محاولات تنظيم المبادرات النضالية. يبقى لنا أن نتمنّى نجاح هذه الإرهاصات في التحول إلى قوى قادرة على تنظيم حراك جماهيري وقيادته في النضال من أجل تحقيق التغيير المطلوب.

ما هي أهم العوامل التي يحتاجها الحراك الثوري في سبيل إنضاج هذا الأمل أو الأمنية حتى نتمكن من هذه المأساة التي نحن قابعون فيها اليوم؟ هل لك من كلمة مختصرة تزيل حالة اليأس وتمنح بارقة أمل بالمستقبل القريب؟

في كتابي "انتكاسة الانتفاضة العربية: أعراض مرَضية"، تحدثت عن اليأس الذي ظل سائداً في السنوات التي سبقت الموجة الثانية المنبثقة في أواخر عام 2018. فعندما انهيت تأليف الكتاب في نهاية عام 2015، أشرت إلى ضرورة التمييز بين الأمل والتفاؤل. لا أعتقد أن هناك ما يدعو للتفاؤل في الوضع العربي الراهن، بل على العكس فإن أسباب التشاؤم أكثر وأكبر بالتأكيد من أسباب التفاؤل، وهو وضع يسهل فيه تشاؤم العقل، لكنّ تفاؤل الإرادة صعبٌ فيه، لو أردنا الجمع بين الإثنين كما دعا إليه أنطونيو غرامشي.

بيد أن تفاؤل الإرادة يتطلب الأمل، ومن المهم أن ندرك أسباب الأمل ودواعيه. فالأمل كامن في الأجيال التي تتسيّس على وقع الانتفاضات والحراكات الشعبية والتي تعتمد عليها السيرورة الثورية الإقليمية. فحتى في الساحة السورية، مع كل ما شهدته من مآسٍ، رأينا قبل أشهر حركات اجتماعية احتجاجية في مناطق سيطرة النظام بالذات. ومن المعلوم أن قسماً كبيراً من الشبيبة التي قامت بالانتفاضة السورية في مرحلتها الأولى لجأت إلى خارج البلاد، الأمر الذي حفظها من الهلاك. فيبقى الأمل في تفاعل في المستقبل بين من بقي في الداخل وقسم من الذين خرجوا. أما في معظم الساحات الأخرى، فدواعي الأمل متوفرة بصورة أعظم، تتمثل في الأجيال التي تنخرط في السياسة جيلاً بعد جيل وقد باتت الثورة على جدول أعمالها، خلافاً لأجيال ما قبل 2011 التي كانت ترى الآفاق مسدودة أمامها. نحن اليوم أمام أجيال اقتنعت بإمكانية النضال من أجل التغيير وبإمكانية تحقيق الانتصارات. طبعاً، العقبات والمهام التي تواجهها السيرورة الثورية العربية معقدة وصعبة للغاية بسبب طبيعة الأنظمة القائمة الاستبدادية والشرسة، لكن ليس من استبداد أبدي، وقد أخذت كافة أنظمة المنطقة تتفسخ وتتشقق منذ عشر سنوات، والحبل على الجرّار.