الله في أدب نوال السعداوي... جرأة اللغة وإشكاليات الفهم

2021-04-07 17:00:00

الله في أدب نوال السعداوي... جرأة اللغة وإشكاليات الفهم
© David Degner/Getty

يسخر خطابها الروائي في "سقوط الإمام" من الإنسان التابع والواقع تحت تأثير ما، وخاصة عندما يسمح لنفسه بالتفكير للحظات، ولأنه يجد نفسه أمام إيمان بالمتناقضات يضطر للتوقف والصمت لأنه أوشك على الكفر.

في مقدمة روايتها "سقوط الإمام" تستهل نوال السعداوي سطورها بجملة: "وأنا طفلة كنت أرى وجه الله في أحلامي كوجه أمي شديد العدل وكوجه أبي شديد الرحمة، لكن زميلتي فاطمة أحمد في المدرسة كانت ترى وجه الله في أحلامها كوجه أبيها شديد القسوة وكوجه عمها شديد الظلم".

ووفقًا للتكوين الفني والفكري لأدب سعداوي فإن مفردة "الله" وردت لديها كثيرًا؛ مُحملة بعددٍ من الدلالات المختلفة، الصانعة لنوع من الصدامية واللبس في فهم القارئ، وهذا من ناحيتين: الأولى كونها تبتعد عن الشكل اللغوي المتعارف عليه أثناء الحديث عن "الله"، والثانية وضع الكلمة في قالب لغوي جديد يتسم بالثورة والتمرد، ومُحملٍ بمعانٍ متباينة. 

تدفع القيود الاجتماعية الأدباء إلى الإحجام عن تناول مشكلة التعبير عن الله إلا بمزيد من الرمز والتجريد، وذلك بحسب المفكر السوري جورج طرابيشي في كتابه "الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية" موضحًا أن من المفارقات الكبرى في أدبنا الحديث أن هذه المشكلة تكاد تكون غائبة عنه، رغم مكانة الدين في حياة العرب خصوصًا، معتقدًا أن سطوّة الدين عززت غيابها على صعيد الأدب سلبًا أو إيجابًا.

وعكس ما يلفت "طرابيشي" فإن غياب مناقشة المشكلة هو ما دفع "سعداوي" إلى اقتحام المنطقة الخطرة، إلى جانب اعتبارات فكرية، ولكن: لماذا تخوض نوال السعداوي مغامرة الدخول في المناطق المحظورة؟ أهي رغبتها في تحطيم القيود اللغوية والفكرية الموروثة؟

الله... مستويات الوعي

تأخذ لفظ الجلالة "الله" عدة معان داخل نص نوال السعداوي، حيث يقودها جموحها في رواية "سقوط الإمام" لرصد مستويات وعي الشخصيات بالمفردة، بداية من مرحلة الطفولة للمراهقة والنضوج، وتتبعها عند الشخصيات المختلفة مثل الأب العادل، الحاكم المستبد، الإنسان التابع الواقع تحت تأثير ما، والأم الراسخة غير المتعلمة. وفي كل حالة من حالات التعبير عن "الله" تمارس "سعداوي" دورها ككاتبة وأديبة، مدفوعة وراء تأمل النماذج الإنسانية في أوضاعها المتناقضة والمتباينة.

طرحت أولا تصورات الطفولة حول الله، فمن الطبيعي أن يقدم الطفل -أي طفل- تصورات ساذجة تتصف بالتجسيد والتشبيه، فهو يحاول تخيل الله الذي يتحدث عنه الناس في كل مكان، وعادة ما تسعى البيئة المحيطة في تكوين هذه الخيالات الساذجة، فالطفل الذي يسمع عن رحمة الله يحاول تقريب هذه الصورة في وجه أقرب الناس إليه مثل الأم أو الأب، هما النافذة الحقيقية الأولى لتكوين تصورات تقريبية مبكرة حول الوجود والكون والخالق.

خطابها الفني الذي يقدم طفلة يزورها الله في الحلم وله صوت حنون كصوت أمها، أو زميلة المدرسة التي تراه في الحلم "كوجه أبيها شديد القسوة وكوجه عمها شديد الظلم" لأن حياتها تشكلت من غياب الرحمة والعدل، لذا يُعد رصدًا طبيعيًا ومنطقيًا لتأثير البيئة والأسرة في خلق التصورات الإيمانية المبكرة إيجابًا أو سلبًا لدى الطفل.

وفي مرحلة المراهقة يفرق الخطاب الروائي بين الصورة المقترنة بوعي الطفولة، وأخرى نابعة من اضطرابات سن المراهقة، حيث تستقبل الفتاة الحب وكأنه صورة من الله، أو عطاء إلهي، وتنقلب هذه المشاعر النبيلة بشكل حاد بعد قوع الخطأ والشعور بالإثم، فالحدة والتقلب بين الخير والشر، بين الحب والكراهية، بين الإقدام على الأحاسيس الطاهرة والخوف من الإثم والعقاب، كلها تذبذبات ترصد هذه الفترة المقلقة من حياة الإنسان، أيضا تضع فكرة القيود المكبلة لمشاعر الشخصية بين الرغبة والمنع.

يظهر هذا الوعي في الرواية، عندما تسرد الشخصية منامها الذي تجسد فيه الله لها، قائلة: "وفي الليل أتكور حول نفسي تحت الغطاء وأراه يأتي، بصوت آخر هادئ بلا غضب، ووجه ناعم كضوء القمر وذراعه كذراع الأم الحانية. يهدهدني ويملأ روحي بالحب الطاهر ويرتفع بطني بالحمل المقدس، ثم أراه يستدير، أظن أنه ذاهب بلا عودة، أنادي عليه بصوت خافت، ويستدير عائدا بوجه آخر قاتم اللون، داكن الغضب، في عينيه الشرر".

ومن المحتمل أيضا أن تكون دلالة الشخص الذي زار الفتاة في المنام، إسقاط على الرجل في صورته المخادعة والمحتالة، فهو عندما يريد أن يأخذ الأنثى يأتي في صورة الحنان البالغ، ثم يهجرها في صورة غير متوقعة تمامًا تشبه وجه الشيطان.

الله هو العدل والرحمة منزه عن القسوة والظلم؛ جملة تلخص نظرة نوال السعداوي للخالق العظيم، بشرط ألا يحدث التفاف على "طاعة الله" لتصبح في النهاية "طاعة الزوج" وتتحول المرأة إلى جارية، وتستبدل بـ"طاعة الحاكم المستبد" ويتحول الإنسان إلى خاضع ذليل، فهل تحققت طاعة الله المنشودة؟ بالطبع لا، بل كانت "طاعة الزوج" و"طاعة الإمام" المستحوذ على مكانة الله.

في "سقوط الإمام" تسرد قصة حاكم مستبد يتم اغتياله أثناء الاحتفال بأعياد النصر، عاش متقمصًا لدور الإله، وحينما تعبر عنه مجازيًا بـ"الله" فهي تحاول وضع المتلقي في حقيقة استيلاء المستبد على صورة الخالق ومن ثم سلطته على البشر.

شخصية الإمام في الرواية ترسم لنفسها مسرحًا أشبه بعرش الإله، فهو يقول: "هتاف يدوي في أذني "يحيا الإمام" مطبق الشريعة. وأرى وجهي في المرايا مائة وجه إلا وجه واحد. تسع وتسعين وجه بعدد أسماء الله الحسنى، وأنا واقف تحت الأضواء ومن تحتي العرش ومن حولي الأعوان". فالحاكم يسمع الهتاف من حوله، يصنع لنفسه حالة عرشًا إلهيًا، يستبدل الأسماء بالوجوه، ويعلو العرش ومن حوله الأعوان في صورة الملائكة، فهو يتقمص تمامًا دور الله، حيث يسهل مع خطابها الفني أن تنفرد بشخصية الحاكم لتوجه عدة ضربات للسلطة السياسية.

 استفادت الرواية في أجواء شخصية الحاكم -غير المحددة بزمن أو بلد- من تجارب معاصرة أولها زمن الرئيس السادات الذي سمح للتيارات الدينية بغزو المجتمع، وأطلق على نفسه الرئيس المؤمن، وتجربة سيطرة الإمام المرشد في إيران، وحزب الله في لبنان. 

يعتقد المتصوف الأكبر محيي الدين بن عربي أن تقمص دور الإله مرضًا يصيب الإنسان أحيانا، ويسميه "داء الألوهية" حيث يرى في كتابه "رسالة الروح القدس" أن الألوهية داء في الإنسان، وحتى لا يصاب بالداء أعطاه اللهُ المعرفةَ دواء، فإن أصابك الداء ولم تشرب الدواء خرجت مع فرعون والنمرود وكل من ادَّعي الربوبية". فالسلطة الحاكمة كثيرا ما تجنح لتقمص دور الإله، وشخصية الإمام تشبه الملوك في قصص فرعون والنمرود، أي الاستحواذ على السلطتين السياسية والدينية في وقت واحد لقمع الشعوب وإذلالها.

يدع الإمام الحرية لتفكيره لحظات، وهو يسمع الهتاف "الله معك" حيث يناجي ربه في صمت قائلا: "إذا كنت معي يا رب، فلماذا الهزيمة؟ ولماذا تحجب عني سر القنبلة النووية؟ ولماذا تعطي السر لأعدائنا الكفار وتحرم عبيدك المؤمنين المخلصين؟" ولأن تفكير حر مثل هذا قد يسوقه إلى إنكار وقوف الله معه، أو تكذيب الناس والشعور بنفاقهم، وهي أشياء غير مُحببة بالنسبة له فقرر أن يعود سريعًا وتائبًا: أستغفرك فأنت لا تسأل عن الحجج والعلل.

وفي موقف آخر، يستدعي الإمام من ذاكرته، حينما هبَّ من نومه مفزوعًا وشاحبًا وفي قلبه رعدة، حيث تسأله الأم عن السبب فيقوله رأيت الله. فتقول: الله خير، فلماذا ترتعد؟ فيقول: كان معه سيف وكاد السيف يخرق صدري. بصقت في فتحة جلبابها الأسود وقالت: إنه الشيطان وليس الله.

غالبًا ما تستند المؤلفة لتقنية الحلم لجس وعي الشخصيات، فالمنامات تجسد حقيقة مشاعر الشخصيات وتفسر سلوكها في الواقع، وفي الموقف الأخير تنطلق الأم من تصورها الراسخ والبسيط حول الله الذي يستجلب الخير والطمأنينة، وعندما تعرف أن الزائر في المنام يحمل سيفًا، تمكنت من الحكم عليه، فالعنف والقتل والكراهية صفات شيطانية.

الإله... تحرير الصورة

تستخدم سعداوي مفردة "الإله" حينما يغلب على حديثها النظرة الكلية لطبيعة الآلهة، حيث تضع سؤالا تاركة للمتلقي فرصة وضع إجابة مناسبة، وعند نقدها للأديان تقصد السلطة دين، فهي بدورها تناصر القضايا الإنسانية وتقف بجوار الحق والخير، فهل يمكن للإنسان أن يؤمن بدين يبتعد في جوهره عن مثل هذه القيم؟

في حديثها مثلا عن اليهودية، تسأل نفسها: "كيف يعطي الإله العادل هذه الأرض لشعبه المختار ويأمرهم بقتل سكانها وإبادتهم؟ ولماذا يُفضل هذا الإله شعبًا على شعب آخر، لمجرد الاختلاف في العقيدة، أو الفكر أو الجنسية أو الهوية؟ وتتابع أسئلتها وفق ما جاء في كتاب "امرأة تحدق في الشمس": هناك فقط آية في التوراة تُوجب ختان الذكور على بني إسرائيل، لماذا؟ مقابل الأرض الموعودة -أرض كنعان أو أرض فلسطين- التي منحها الله لهم، مقابل بتر غرلة الذكر بالموسى؛ هذا هو العهد القديم بين بني إسرائيل وبين ربهم في السموات العليا. أي ٍعهد ُّدموي؟! أي رب متعطش لإراقة الدماء البريئة؟"

إذن، المؤمن في اليهودية أمام إله ينحاز لشعب دون الآخر، إله دموي يأمر بالقتل، وسلب الأرض، بل يطالب أتباعه بقطع أجزاء من أجسامهم تماديًا منه في التعطش للدماء، لذا تطالب سعداوي بإعمال العقل والتفكير الجاد في تحرير صورة الإله من الأوهام قبل الإيمان به.

وتستبعد أن يكون الإله لديه رغبة في الأبدية كما يرغب الأباطرة والملوك، معتبرة أنه لولا الموت لأصبحت الحياة مستحيلة، وفق كتابها "امرأة تحدق في الشمس" موضحة أن جمال الحياة يكمن في فنائها، لا كائن حي يعيش إلى الأبد. الأبدية ليست صفة الأحياء بل الأموات، ألهذا يعيش الإله إلى الأبد؟

تشاكس الكاتبة الحياة الأبدية لدى الآلهة في الأديان، وتجعل من الموت صفة للأحياء، لتستقيم معها لغتها المتمردة في طرح: ألهذا يعيش الإله إلى الأبد؟ وربما تقصد في المقابل ألهذا يشعر الإنسان بفقد الإله وموته لأنه يعيش حياة ليست من جنس حياة البشر.

الحقيقة المتغيرة 

لا ترغب سعداوي في تسليم عقلها لأشخاص أو أديان تعمل على تثبيت الحقائق، والانطلاق من يقينيات لا تساعد على تغيير العالم، أو الوصول به إلى منطقة أرحب وأجمل، لكنها تؤمن بالتاريخ وبقدرته على تفسير الظواهر المجتمعية الحديثة لامتلاكه جذور الظاهرة، كما تكره القيود بأنواعها: اللغوية والفكرية والنفسية والجسدية، فإنها تعرقل التطور الطبيعي للإنسان، وتؤخر نضوجه الفكري والنفسي والجسدي.

يسخر خطابها الروائي في "سقوط الإمام" من الإنسان التابع والواقع تحت تأثير ما، وخاصة عندما يسمح لنفسه بالتفكير للحظات، ولأنه يجد نفسه أمام إيمان بالمتناقضات يضطر للتوقف والصمت لأنه أوشك على الكفر.

يرى الحارس من ثقب الباب امرأة تنجح في مسخ الإمام دون أن يقاوم أو يفشل سحرها، ليتساءل: كيف تقدر الجارية على أن تخرج الإمام من صورته الأولى وتجعله من ذوات الأربع، ولا يستطيع هو أن يغير من صورتها شيئا؟ 

فمن المؤسف أن يسمح القدر لرؤية الإمام الذي يتقمص دور الإله عاجزًا عن مقاومة السحر والمسخ، ليسأل الحارس نفسه: إرادة مَنْ هذه التي سمحت للجارية أن تمسخ الإمام؟ ليدور حديثه النفسي هكذا: "لعلها إرادة الله سبحانه يضع سره في أضعف خلقه. واستغفر الله، وقال إنها إرادة الشيطان لأن الله مع الإمام ولا يمكن أن يرضي الله بهذا. واستغفر الله مرة أخرى وقال إرادة الله فوق إرادة الشيطان ولا يمكن للشيطان أن يفعل شيئا دون إرادة الله. وهنا أطبق شفتيه وسكت".

تنحاز سعداوي للتطور والتغير، تؤمن بالعقل والتفكير الحر، تقاوم الجمود والثبات، فهي بحسب كتابها "الأنثى هي الأصل" ترى أن حماسها للعلم "لا يعني أنني من هؤلاء الذين يقدسون الحقائق العلمية؛ فالحقائق العلمية كالحقائق التاريخية والسياسية، تتغير على الدوام بتطور عقل الإنسان وقدرته المتزايدة على كشف الحقيقة المزيفة من الحقيقة غير المزيفة، والحقيقة المقدسة في زمن من الأزمان قد تصبح في زمن آخر حقيقة غير مقدسة أو غير صحيحة بالمرة، الإنسان له عقل، وأمام عقل الإنسان ليست هناك حقائق ثابتة، كل شيء أمام عقل الإنسان قابل للمناقشة والتغيير والتطوير".