أصبح معيار الجودة بالنسبة للنقد الشائع بمستواه النخبوي أو ما يريد إعطاء الانطباع بالنخبوية هو البعد عن الكلاسيكية والاهتمام أكثر بالإبداع في الشكل السردي، كذلك لم تعد لغة تشبه لغة السرد عند نجيب محفوظ والطيب صالح ويوسف إدريس مقبولة لنقاد وقراء الرواية العربية الحديثة.
نشأ المسرح في بلاد الإغريق ونشأت الرواية في أوروبا، وكلاهما كان على علاقة عضوية بواقعه الاجتماعي الراهن. في البداية اتخذ المسرح الإغريقي شكل مهرجانات شعبية تمجد الآلهة أطلق عليها "ديونيسيا المدينة"، نسبة إلى الإله "ديونيسوس"، حيث أدى الرجال أغنيات تمجد ديونيسوس وترحب به. كانت أثينا المركز الرئيسي لتقاليد المسرح. عُرفت حينها الكوميديا والتراجيديا كشكلين منفصلين من أشكال الأداء المسرحي. وضع أرسطو في مؤلفه "الشعرية" وصفا للبنيان المثالي للتراجيديا.
كانت الكوميديا أيضا أحد الأعمدة المهمة للمسرح الإغريقي، واعتمدت على التقليد والمحاكاة. وكتب أريسطوفانيس معظم مسرحيات الكوميديا في ذلك الوقت، بقي منها 11 مسرحية، أهمها "ليسيستراتا"، وهي تحكي قصة امرأة قوية تقود تحالفا أنثويا لإنهاء الحرب في بلاد الإغريق. أما الرواية فنشأت واتخذت شكلها السردي في أوروبا في القرن الثامن عشر، وكانت وليدة التطور الاجتماعي المصاحب لنمط الإنتاج الرأسمالي، وبداية تبلور الثقافة الاجتماعية التي تحتفي بالفرد.
كان نشر رواية دانييل ديفو "روبنسون كروزو" عام 1719 حدثا استثنائيا، توج محاولات سابقة للكتابة الروائية. ما ميز رواية ديفو هي عناصر تبدو الآن أساسية في جنس الرواية كما يرى جون مولان في مقاله بعنوان "ظهور الرواية"، وأهمها أن موضوعها كان شخصا عاديا، واتخذت عالمه العادي موضوعا. حتى عندما تجنح الرواية إلى استخدام حياة أبطالها (العاديين) من أجل التعبير عن رؤية فلسفية للمؤلف، هي تستخدم الإنسان العادي وحياته العادية لتعبر من خلاله عن "مقولتها غير العادية" إن صح التعبير.
العالم العربي: الزبدة دون الحليب
مع أن المسرح العربي ظهر بشكله البدائي في أيام الخلافة العباسية، وكان يعتمد على الهزل والسخرية والإضحاك، إلا أن الشاعر أدونيس يرى أن مفهوم ومقومات المسرح في تناقض واضح مع الثقافة الدينية للمجتمع العربي.
فالمسرح بمفهومه القديم والحديث قائم على الإشكال، والثقافة الدينية في المجتمع العربي تتسم بالبنية الخالية من الإشكال لأنها تقوم على الإيمان المطلق، الذي لا يفسح مجالا للتساؤل. وكيف يمكن أن يزدهر المسرح في ثقافة لا يكون الإنسان مركزها؟ فالإنسان، مسرحيا، هو مركز الكون، لكن الله هو مركز الكون في الثقافة الدينية للإنسان العربي. لكن أدونيس ليس الوحيد الذي لفت الانتباه إلى هذا التناقض، وإن كان هو من شكك بوجود مسرح عربي قديم أو حديث.
ومن أوجه التناقض بين مفهوم المسرح وطبيعة المجتمع والثقافة العربية كما يرى الباحث محمد عزيزة، أن الصراع أساس المسرح وهو ليس من سمات المجتمع العربي. ويقسم عزيزة الصراع في المجتمع الإغريقي إلى أربعة أشكال: الصراع العمودي، أي تمرد الفرد ضد إرادة الآلهة، والصراع الأفقي، أي ثورته على قوانين المجتمع، والصراع الديناميكي الناجم عن رفضه لمصيره، والصراع الداخلي الذي يدور بين الإنسان وذاته. ولا تتسامح الطبيعة الدينية للمجتمع العربي مع أشكال الصراع هذه.
إذن، حين تكاثرت العروض المسرحية في المدن العربية لم تنبثق من أرضية اجتماعية، فكرية ، فلسفية أدت لتطور المسرح بشكل عفوي، بل كانت قشرة ثقافية طافية على سطح التطور الاجتماعي. لذلك لن نفاجأ أن العروض المسرحية العربية قفزت على كل الحدود والحواجز، فصرنا نشاهد عروضا مسرحية ما بعد حداثية في مجتمعات بقيت ثقافتها الاجتماعية عالقة في مرحلة الإقطاع، أو ما قبله.
وكان لهذا الانفصام عن الواقع الاجتماعي أثر في غياب التراكم في التجارب المسرحية العربية، من بغداد إلى بيروت إلى رام الله. بقيت التجارب، وبعضها كانت ناجحة، تتحرك في جزر معزولة، فمن جهة بقي جمهورها نخبويا، ومن جهة أحرى لم تؤسس لثقافة مسرحية عربية بملامح تنتمي إلى الثقافة السائدة. يعني، ما حصل هو أن النخبة الثقافية العربية استعارت منجز ثقافات أخرى وحاولت محاكاتها، بدرجات متفاوتة من النجاح، ثم أفلت تلك التجارب قبل أن ترسي تقاليد يبنى عليها.
الرواية واستمرار "المحاكاة"
وبالنسبة للرواية العربية الحديثة، كانت بداياتها كلاسيكية، مؤسسة على المنجز الأوروبي بدورها. كان التأثير الروائي أعمق وأثرى من نظيره المسرحي، فقد خطت خطوات واثقة منذ عمالقة السرد الكلاسيكي العربي كنجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس.
تطور السرد الروائي العربي كثيرا منذ البدايات في مصر («زينب» لمحمد حسين هيكل) وسوريا حيث ينسب لفرانسيس مراش إصدار أول رواية عربية بعنوان «غابة الحق في تفصيل الأخلاق الفاضلة وأضدادها» عام 1866، لكن البدايات كانت تفتقر للمقومات الفنية للرواية الكلاسيكية. وفي فلسطين كانت رواية «الوارث» لخليل بيدس التي صدرت في حيفا عام 1920 والتي حاولت أن تحاكي البدايات الروائية الأوروبية في نزعة الوعظ الأخلاقي. ومن لبنان كانت روايات جورجي زيدان التاريخية.
ولعل روايات طه حسين «الأيام» بجزأيها (1929، 1939) و«أديب» (1935) كانت بدايات الرواية العربية الحديثة ثم رواية «إبراهيم الكاتب» لإبراهيم المازني وعباس محمود العقاد ورواية «سارة» عام 1938. وربما كانت رواية «عودة الروح» لتوفيق الحكيم، الصادرة عام 1933، أول عمل روائي عربي حديث يعتد به من ناحية البنيان الفني والمفهوم السردي.
ثم توالت على مسرح الأدب الروائي العربي أسماء كرست الرواية الكلاسيكية العربية المؤسسة على الرواية الأوروبية، كنجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي وحنا مينة والطاهر وطار وعبدالرحمن منيف والطيب صالح وغيرهم، قبل أن تظهر الاتجاهات الشابة، المجددة في الأدب الروائي في أنحاء العالم العربي.
الرواية الحديثة واغتراب الأسلوب
كما أنتجت الحرب العالمية الثانية حركة "الغاضبين" في الأدب الأوروبي، الذي تمرد على كثير من أساسيات الشكل والمضمون، فنشأ "مسرح العبث" والرواية بأشكالها المعاصرة المتعددة، تركت حرب عام 1967 بين العرب وإسرائيل أثرا على أشكال السرد، الروائي والمسرحي.
تحلل المبدعون من الأشكال التقليدية وبدأوا التجريب، فظهرت أشكال تحاكي المسرح الغربي، من برتولت بريخت إلى صاموئيل بيكيت. لم يؤسس التجريب المسرحي العربي، كما أسلفنا، ثقافة مسرحية راسخة تقوم على تراكم التجارب، بل بقي أشبه بالطفرات المنعزلة وغير المتواصلة. بالنسبة للرواية، كان الوضع أفضل نوعا ما، حيث حصل تراكم ما في التجارب، وإن كانت المفاهيم النقدية بقيت حائرة ومرتبكة وتقوم على التوليف والتركيب باستخدام عناصر من هنا وهناك. ما أصبح شائعا في الفترة الأخيرة هو تبني شكل سردي دون غيره، واعتماده أساسا للجودة، وهو قائم على أفضلية الإبداع الشكلي.
أصبح النقاد ودور النشر والكثير من القراء ينظرون باستخفاف لأي عمل روائي ينتهج السرد الكلاسيكي، يستثمر في الشخصيات والحبكة أكثر من الشكل السردي وجمالية اللغة. أصبح معيار الجودة بالنسبة للنقد الشائع بمستواه النخبوي أو ما يريد إعطاء الانطباع بالنخبوية هو البعد عن الكلاسيكية والاهتمام أكثر بالإبداع في الشكل السردي، كذلك لم تعد لغة تشبه لغة السرد عند نجيب محفوظ والطيب صالح ويوسف إدريس مقبولة لنقاد وقراء الرواية العربية الحديثة. أصبحت لغة السرد المقبولة أكثر من غيرها هي إما الشعرية، الرومانسية، التي تشبه لغة أحلام مستغانمي، أو تلك المؤسسة على ثراء موسوعي كلغة إدوار الخياط.
وزادت الجوائز الأدبية في تكريس هذه النظرة، فبينما يمكن أن تفوز روايات متنوعة في أسلوب سردها بجائزة مان بوكر البريطانية، دون أن يكون السرد الكلاسيكي نقطة ضعف تؤثر سلبا على تقييم الرواية، وهذا يؤكده فوز رواية العمانية جوخة الحارثي «سيدات القمر» بالجائزة قبل عامين، أصبحت الجوائز العربية تستبعد تقريبا أي رواية لا تلتزم مبدأين اثنين: لغة سرد باذخة، وشكل سرد حداثيا تجريبيا. وبينما تحصل روايات سوزان أبو الهوى وإيزابيلا حماد المكتوبة بالإنجليزية، والتي تنتهج شكلا سرديا خطيا بسيطا ولغة كلاسيكية بعيدة عن الشعرية والثراء الشكلي، على اهتمام مستحق في الغرب، ليتجاهل مثلها في العالم العربي من النقاد والصحافة الثقافية والقراء على حد سواء.
في الغرب الذي قلده العالم العربي، والذي أنتج موسيقى التكنو والراب وقبلها الروك والبوب دون أن يؤثر ذلك على مكانة الموسيقى الكلاسيكية، اتسع صدر القارئ والناقد لأشكال السرد الكلاسيكية بينما فتح أحضانه لكل تجديد جمالي. أما الواقع الثقافي العربي فهو يفضل طي الصفحة ولا يحبذ النظر إلى الخلف، بل أستطيع أن أقول أنه يؤسس نظامه القيمي على افتراض أن التغير في القيم الجمالية يحدث باتجاه تصاعدي، أي أن كل جديد هو بالضرورة أفضل من كل قديم، وهو افتراض ساذج بكل المقاييس، لكنه الافتراض السائد في الواقع الأدبي العربي الحالي.