الوعي والسرد والمقاومة

2021-04-17 01:00:00

الوعي والسرد والمقاومة

كتاب أحمد زكارنة كُتِب ليُقرأ، وهو حقّا يستحق القراءة، لأنه لا يقدّم نصائح أو أحكاما جاهزة، قدر ما يقدم من تساؤلات، فهو ينتمي إلى ضرب من الجدل والحجاج النقدي الذي افتقدناه في ظل الكتابات الصحفية وفي ظل ثقافة المجاملة ووسائل التواصل التي شاعت هذه الأيام. 

مقدمة كتاب «وعي الهزيمة: إعادة اختراع المعنى» لأحمد زكارنة، والصادر حديثاً عن "مكتبة كل شيء" في حيفا، كتبها محمد عبيد الله.
 

يقدّم أحمد زكارنة إضاءة كاشفة على جانب حيوي من تحولات السرد الفلسطيني، وبالذات مواجهته لظروف ما بعد أوسلو التي شكّلت منعطفا حادّا تأثّرت به الكتابة الفلسطينية والعربية بصور مختلفة، في الشعر والسرد على حدّ سواء. ومع أن العلاقة بين السرد والواقع هي علاقة ضبابية وغير مقننة، لأنها تقوم في جوهرها على رؤية مبدع أو كاتب فرد للواقع ذي الطبيعة الجماعية، ولكن التدقيق والتمحيص في مجموع الكتابات يمكن أن يعطينا بعض ظلال الواقع وربما يؤشر على المستقبل في الكتابة وفي الواقع معا. 

اجتهد المؤلّف من خلال نوافذ: الذاكرة والهوية والتاريخ والواقع في قراءة جادة تمحّص استجابة السرد لتحديات الواقع، وقد تبين له أن معظم هذه السرود ترفض الهزيمة، وتعي قسوتها والهوة النفسية التي خلّفتها، ولكن رغم تمثيلات الهزيمة وما قد يصاحبها من سخرية رافضة، فإنها تستنجد بعناصر متعددة عنوانها ببساطة مقاوِمة الواقع المختلّ، وتقديم رؤى جديدة تفضي إلى الأمل، ذلك أن الفلسطيني ما زال يربّي الأمل، وما زال يحبّ الحياة، كما عبر الشاعر الكبير محمود درويش. 

وأما الطريقة التي سار عليها المؤلّف في قراءة هذه النماذج فتستند إلى ما يقرب من النقد الثقافي أكثر من النقد الأدبي، فهو ليس معنيا كثيرا بالتقنيات والأساليب المجردة قدر اهتمامه بقراءة ما وراء تلك التقنيات من ثيمات أو قضايا تطرحها هذه الإضمامة من الأعمال والكتابات السردية التي تناولها، ولا شك أن النقد الموضوعي أي الذي يهتم بالثيمات والموضوعات فرع قديم وراسخ ولكنه توارى قليلا في العقود الأخيرة أمام تقدم القراءات التقنية والفنية، ولعل عودته كانت مع تقدم النقد الثقافي الذي عبّرت عودته عن ضجر القراء والنقاد من الاستغراق الزائد في الجانب التقني على حساب معنى العمل الأدبي، ذلك أن الإبداع يكتب ليعبر ويعني ويقول، وليس لاستعراض الأساليب وكيفيات القول. ومع ذلك فقد وازن في كثير من القراءات بين ماهية القول وكيفيته، أي أنه عني بالمعنى والمبنى معا، لصعوبة فصلهما في تحليل الأعمال الأدبية، التي تعرض موضوعاتها بطريقة رمزية أو متوارية، ولا تعرضها عرضا مباشرا أو صريحا كما في المقالات أو التحليلات السياسية.

وأكثر ما شغل المؤلّف التدقيق في معنى هذه الأعمال، للوصول إلى تلك الصلات الصريحة والضمنية بالسياسة وبتطور الحال الفلسطيني، وبتناول بعض الثوابت والمسلمات والعناوين الكبرى المرتبطة. ومن هنا انفتح الكتاب على مساءلة الذاكرة بوصفها انفتاحا على الماضي والتاريخ، ذلك أن هذا التناول يضعنا في قلب مشكلة الهوية، والحاجة في الحالة الفلسطينية إلى الإحساس بوجودها واستمرارها، فالهوية ليست ترفا في حالة مجابهة احتلال ظالم لا يرحم الحاضر ولا الماضي، وهاجسه الأساسي يتمثل في المحو الذي تدرّب عليه، وأتقن أدواته. من هنا على القارئ أن يتفهم قوة التعبير عن الهوية في السرديات الفلسطينية، ولقد أحسن المؤلف التعبير عن جانب من تجلياتها المتطورة من خلال النماذج النصية التي قرأها بحصافة على مدى صفحات هذا الكتاب. 

لا أريد أن أفسد على القارئ متعة القراءة، ولا أريد أن أقف بينه وبين هذا الكتاب الممتع، وحسبي أن أحيي المؤلف العزيز على ما بذله من جهد، وأن أدعو القارئ إلى ضرب من القراءة المتفاعلة التي تقوم على استئناف التساؤلات، والإقبال على هذه الأعمال المتميزة التي أشار إليها زكارنة في فصول كتابه.

كتاب أحمد زكارنة كُتِب ليُقرأ، وهو حقّا يستحق القراءة، لأنه لا يقدّم نصائح أو أحكاما جاهزة، قدر ما يقدم من تساؤلات، فهو ينتمي إلى ضرب من الجدل والحجاج النقدي الذي افتقدناه في ظل الكتابات الصحفية وفي ظل ثقافة المجاملة ووسائل التواصل التي شاعت هذه الأيام.