عبر زجاج الذاكرة

2021-05-05 01:00:00

عبر زجاج الذاكرة
شتاء، ٢٠٢٠، نبيل عناني

لحسن الحظ استطاع الحصول على "لم شمل"، ما مكنه من العودة إلى فلسطين وبدء مسيرته الفنية. كما يكتب عن رحلته إلى فلسطين من القاهرة، عبر الأردن، مشياً على الأقدام في العام ١٩٦٧. فقد عاد من الجامعة إلى فلسطين عبر الأردن على عجالة بناء على طلب والده ليتم إحصائه مع السكان،

 كنت أجلس قربه أستمع بشغف لكل كلمة، لكل شاردة وواردة، مشدوهة وذهني يزخر بالصور، أتخيل مشاهد من القرية التي لا أعرف منها إلا بيت جدي المُطل من بين أشجار السرو على الشارع الرئيسي. ولكن مسرح أحداث طفولة والدي كان أوسع بكثير من حلحول التي عرفتها، فقد امتد عبر التلال وكروم العنب وحقول البرقوق والتين والتفاح ليصل إلى وادي القُف ومغارة طور الصفا غربا، والبلدة القديمة ومقام الشيخ علي شرقا، و"الكمب" جنوبا، وخربة مانعين شمالا.

كطفلة، كان يحدثني عن المرة الأولى التي رأى فيها النقود وكيف كان يسرق البيضة من تحت الدجاجة ليشتري بها الحلوى، وعن صندوق العجب وكيف فعل المستحيل لإقناع جدتي بأن تعطيه قرشا ليجلس على كرسي صغير أمام إحدى نوافذه يستمتع بكل حواسه بقصة عنترة وعبلة، وعن طقوس الاستسقاء التي كان يقيمها أهل القرية من خلال المسير والطّرق على أوانٍ نحاسية. حدثني عن بشاعة التعنيف في المدرسة وكيف كان يرسم على كتبه ودفاتره، إلى أن اكتشف موهبته أحد المعلمين وشجعه، على غير المتوقع في مدرسة يسود فيها العنف والترهيب وعبادة العلامات. وصف صناعته لسيارات الأسلاك، وطائرات الورق... بما توفر من مواد، وكيف انبهر بالطائرات النفاثة التي رآها في سماء حلحول قُبيل معركة جوية جرت بالقرب من السموع بين الطيران الأردني وطيران الاحتلال الإسرائيلي في العام ١٩٦٦، فصنع طائرة بسيطة ووضع بها كبريت وأشعله فحلقت عالياً في السماء.   

عندما طلب مني والدي أن أقرأ المسودة الأولى من مذكراته وأن أحررها، كان النص أوليا، وأطلت من صفحاته الأولى مقدمة جامدة، نصحه أحدهم بكتابتها، تناقضت مع بديهية النص وفطريته، فتخصلت منها على الفور. لم أتفاجأ من النص الذي كان مزيجا من روح دعابة الوالد وصراحته ومباشرته والذي تكشفت فيه حياته من خلال قصص مجزأة كنت قد سمعت بعضها في صغري، ولا زالت عالقة في مخيلتي. وكان لا بد من ربط هذه القصص القصيرة والكثيرة بعضها بالآخر، وإجراء التغيير والتبديل لصالح تسلسل الأحداث، وإدراج بعض المعلومات عن أحداث تاريخية، إضافة إلى التحقق من التواريخ والوقائع وكلما يقتضيه تحرير نص خام. 

النص في معظمه قصص طريفة ومواقف دوّنها في مفكرته، على مدار عدد من السنوات وأصدرته مؤسسة الدراسات الفلسطينية في العام ٢٠١٩، بعنوان: "الخروج إلى النور". يصور نبيل عناني في الجزء الأول من مذكرات الحياة في الريف الفلسطيني في الأربعينيات والخمسينيات، ويزخر هذا الجزء بالوصف البصري المُفصل للأحداث، حيث يتناول عناني طفولته في حلحول حتى تخرجه من المدرسة. ويعرّج، في الجزء الثاني، على تأسيس الحركة الفنية التشكيلية الفلسطينية بكثير من المعلومات وخاصة الفترة الأولى من تأسيس رابطة الفنانين التشكيليين في الأراضي المحتلة متناولا دوره ومواكبته لولادة هذه الحركة وتطورها، بالاضافة إلى مشاركته في تأسيس عدد من المؤسسات الثقافية مثل مركز الواسطي في القدس والأكاديمية الدولية للفنون.  
 

نبيل عناني، غارات الاحتلال الإسرائيلي على المدنيين والجيش الاردني المنسحب إلى الضفة الشرقية بقنابل النابالم الحارقة أثناء حرب ١٩٦٧. اللوحة زيتية ملونة، مصورة بالأبيض والأسود، ١٩٧٢.


ولمتابعتي مسيرته الفنية عن قرب، فقد خضع الجزء الثاني من الكتاب، لتحرير من نوع مختلف. كنا نتحقق معا من المعلومات ونتأكد من التواريخ، أذكّره ببعض المعلومات والأحداث التي غفل عنها، وأوجه له الأسئلة ويجيب عنها، ومن ثم أصيغ الإجابات لردم بعض الفجوات أو لوصل بعض القصص. كانت جلسات النقاش والتداول طويلة تداعت فيها ذكريات تردد الفنانين على بيتنا في شارع نابلس، في رام الله، والاجتماعات التي كانت تعقد في البرندة الخارجية، التي تصاعد فيها الدخان بكثافة، وتلك التي كانت تعقد في الحديقة الأمامية تحت شجرة الجوز صيفاً.

قد يكون هناك اختلاف ما بين الجزء الأول والثاني من حيث الأسلوب ونوعية القصص وحماسة سردها. فيقال إن الذاكرة في مرحلة الطفولة تختلف، نوعا وكمّاً، عن الذاكرة في مراحل الشباب والكهولة والشيخوخة. ويبدو أن مخيلة نبيل عناني كانت ولا تزال تجد مكانا ساحرا مألوفا في ذاكرة الطفولة ولا تنفك أن تعود إليه مرارا وتكرارا ليس في هذا الكتاب فحسب وإنما كذلك في أعماله الفنية التي تنهل من تلك الذاكرة في حلحول دون كلل. 

يورد نبيل عناني عددا من القصص المرتبطة بأحداث سياسية ألمت بالمنطقة، وقصص عكست العادات الاجتماعية في الريف الفلسطيني أثناء نشأته. ومن تلك القصص حادثة "تيل حلحول" المفجعة التي حدثت عام ١٩٣٩ أي قبل أربع سنوات من مولده، ولا زال الكبار يروونها للصغار في البلدة، وشكلت جزءاً من ذاكرة أهل القرية الجماعية، وذلك لشدة تنكيل الإنجليز بأهل البلدة، دون التفريق بين صغير وكبير. المعلومات التي توفرت حول هذه الحادثة قليلة، وكان عليّ أن ألجأ إلى مصادر بحثية شحيحة لوضعها في سياقها بشكل أكثر دقة. وقد تبيّن، بعد البحث، أن كتيبة الـ"بلاك ووتش" في الجيش البريطاني، المسؤولة عن عدة مجازر في فلسطين حينها، قد جمعت أهالي القرية في ساحة إحدى المدارس في البلدة، في حر الصيف القائظ لعدة أيام متوالية، إثر تحطم طائرة بريطانية جنوبي حلحول برصاص بندقية. وبقي أهالي القرية على هذه الحال أياما دون ماء أو طعام، ما أدى إلى سقوط كثير من الشهداء. وسارت نساء القرية من حلحول إلى مقر المندوب السامي في القدس واعتصمن هناك للمطالبة بفك أسر الرجال والكهول.  
 

نبيل عناني، جثة إمرأة في طريق التهريب للعودة إلى فلسطين، جنوب طوباس. اللوحة زيتية ملونة، مصورة بالأبيض والأسود، ١٩٧٢.


تأثرت بقصة وردت في الكتاب عن بنت ذبحها أخوتها لعلاقتها مع إبن الفرَّان، ولم أكن قد سمعتها من والدي من قبل، وقررت أن أضع بعدها في الترتيب مباشرة قصة ذبح جمل في وسط القرية، وكلتا القصتين وردتا بوصف دقيق في النص، ووجدت بينهما تشابها ما. بنت الجيران يقتلها أخوتها ليلا على عتبة البيت حفاظاً على شرف العائلة، ويتجمر الناس في صباح اليوم التالي باب بيت أهلها بهدوء وصمت، ويتسلق نبيل، الطفل حينئذ، الشباك ليستطلع الأمر ليراها غارقة في دمائها. أما الجمل فيذبح في الشارع أمام أحد البيوت وسط تجمهر الناس والأطفال بدافع الفضول، ويتخلل عملية الذبح نزف دمائه بغزارة وانبعاث رائحة كريهة من أحشائه عند شق بطنه بالسكين وسلخ جلده عن جسده الذي تحول إلى لون زهري. مشهدان مثيران للاشمئزاز ويبعثان على الغثيان، بديا متشابهين في عيون الطفل الذي يراقب صامتا في محاولة لفهم العالم القاسي من حوله، والذي صار جزءًا تكوينيًا من مخيلته.

يكتب نبيل عناني عن تحديه لوالده وإصراره على دراسة الفن في مصر، على غير رغبته، وكيف قطع عنه مصروفه عندما اكتشف الأمر، وكيف جاءت أخته التي كانت تعمل في الكويت لنجدته وتغطية نفقاته في السنة الأولى من دراسته. لم أكن أعلم، بأنه وبعد تخرجه كانت تراوده فكرة السفر إلى السعودية والعمل فيها لكسب بعض المال لتغطية مصاريفه المتزايدة وخاصة أنه لم يكن يملك الأوراق الرسمية المطلوبة للعودة إلى فلسطين، الأمر الذي لو حدث بالفعل لكان كفيلا بتغيير مجرى حياته، وحياتي، ولربما قضى على الفنان بداخله.

لحسن الحظ استطاع الحصول على "لم شمل"، ما مكنه من العودة إلى فلسطين وبدء مسيرته الفنية. كما يكتب عن رحلته إلى فلسطين من القاهرة، عبر الأردن، مشياً على الأقدام في العام ١٩٦٧. فقد عاد من الجامعة إلى فلسطين عبر الأردن على عجالة بناء على طلب والده ليتم إحصائه مع السكان، وتسلل عبر الحدود المغلقة في رحلة شاقة. ويروي تفاصيل الرحلة الليلية التي رافقه فيها اثنان من أصدقائه. هذه الرحلة التي سبقه إليها وتبعه فيها كثير من الفلسطينيين، وكثيرون لم يحالفهم الحظ في الوصول إلى قراهم وبيوتهم، ومن بينهم المرأة التي صادف نبيل ورفيقيه جثتها أثناء المسير، منتفخة ويغطيها الذباب، وكانت، على الأغلب، في طريق العودة إلى أهلها في فلسطين قبل أن يرديها رصاص الاحتلال. كما يروي كيف اعترضتهم دورية إسرائيلية فجأة وكادت تقتلهم، ولكن الجنود سلبوا كل مالهم وساعات أياديهم وغيرها من الممتلكات الشخصية قبل أن يسمحوا لهم بمتابعة المسير. ولحسن حظهم، فقد وصلوا، في نهاية الرحلة، إلى مقثاة من البطيخ، وكانوا شديدي العطش بعد مسيرة طويلة وانكبوا يأكلون بنهم من تلك الفاكهة التي قد يبدو توفُّرها، في ذلك التوقيت، ضرباً من الخيال. 

"الخروج إلى النور" يأتي في سياق تندر فيه المذكرات التي كتبها فنانون فلسطينيون إما لانهماكهم في اشتغالات حياتهم، أو في إنتاجهم الإبداعي، أو لعدم إتقانهم لغة السرد... أو لأسباب أخرى. كما يسد الكتاب جانبًا بسيطا من ثغرة تشكَّلت جراء نقص المذكرات والسير التي تسرد تاريخ الفن الفلسطيني من وجهة نظر شخصية، في ظل شح المعلومات المتعلقة بهذا التاريخ. ولكن "الخروج إلى النور"، كذلك، يأتي وسط ندرة مذكرات تصوّر الريف الفلسطيني في أواسط القرن العشرين لانصراف أبنائه إلى مقارعة الحياة الشاقة، ملتفتين إلى كسب قوتهم أكثر من فعل الكتابة. 
 

نبيل عناني، أمام بيته في حلحول مع رسومات لشخصيات سياسية مناضلة على ورق، قبل الالتحاق في الجامعة، ١٩٦٣