سينما الحواجز... حاجز في وجه السينما الفلسطينية

2021-05-07 00:00:00

سينما الحواجز... حاجز في وجه السينما الفلسطينية

مؤخّرًا تحوّل التكرار والملل السمة الرئيسية للأفلام الفلسطينية، بعد صعود وتنوّع شهدناهما منذ منتصف التسعينات لمدة عقد ونصف من الزمن (أصبحت المقولة أرشيفية) أرى فيها "سجل اختفاء" لإيليا سليمان اقتراحا تأسيسيًّا مهّد لما أتى بعده من أجيال طموحة من المخرجين والمخرجات، وشقّ طريقًا لما يمكن الوصول به تعبيرياً،

تساءلت في مقال سابق بعنوان "بعد أربعين عاما السينما الروائية في فلسطين إلى أين؟"، عن مدى تحقّق التجديد والجماليات التي انتظرناها من أفلام فلسطينية شاركت في مهرجانات ومحافل عالمية كان من أبرزها "٢٠٠ متر" في أيام فينيسيا السينمائية لأمين نايفة و"غزة حبي" في الدورة الـ٧٧ من مهرجان البندقية السينمائي الدولي للأخوين ناصر، وأضيف إليهم فيلم "الهدية" لفرح نابلسي الحائز على جائزة البافتا كأفضل فيلم قصير ووصل إلى ترشيحات الأوسكار الأخيرة عن فئة الأفلام القصيرة، وعن الغشاوة التي تصيب أعيننا لدى تفحّص أفلام كهذه فنيّا بسبب الاحتفاء السياسي بها والنشوة العارمة لرفع اسم فلسطين وقصصها في الغرب، وهذا إنجاز نتيجة جهود صنّاع ومنتجين حاولوا أن يوصلوا صوتهم وفيلمهم إلي هناك ونجحوا بذلك… لكن كيف الوصول؟ 

في حين أن  فيلم "غزّة حبّي" الذي يتناول قصة حب بين أرملة عاملة وبحّار ستّيني بتوليفات شاعريّة إلى حدّ ما على مستوى الصورة واللغة السينمائية من خلال محاولة تأويل ما للحياة المستحيلة في غزة، وعلى الرغم من تحمّل القصة لمزيد من الخطوط السرديّة وعلى الرغم من مشهد الضحكات المتواصلة المنفّذ باستسهال لإنهاء الفيلم، إلّا أنّ مخرجا الفيلم حاولا الابتعاد عن الكليشيهات قليلاً وقفزا قفزة صغيرة فنياً عن فيلمهما الأول "ديغراديه" وقدّما فيلماً فيه رقّة ما على الشاشة وأداء تمثيلي جيّد للمشاركين فيه وانتصارًا عذبًا لشخصية الرجل الستيني على قسوة الحياة (الذي جسّده باقتدار الممثل سليم ضو).

يغرق فيلم "٢٠٠ متر" في الرتابة، تبديد طاقات ممثلين جيدين، وتضييع قصّة فيها كل مقوّمات الجذب لصالح تحويل الفيلم من عمل سينمائي إلى مادّة إخبارية. في الفيلم الذي يتناول قصّة أب فلسطيني محروم من العيش مع أسرته التي تسكن في بيت على مسافة مئتي متر منه بسبب جدار الفصل العنصري تتجمّع كل إشكاليات "أفلام الحواجز" لتصبح بذاتها حاجزاً بوجه التطور المنشود للسينما الفلسطينية: غياب إعادة التأويل البصري للواقع، تنحية دور الكاميرا في سرد القصة، والاكتفاء بنقل رتيب لواقع مرير، الحوارات تقليدية ومباشرة، لا تتحايل ولا تضيف لما هو جليّ، عدا عن كونها إخبارية، أيعقل أن نختتم الفيلم والأم تعدد المأكولات الفلسطينية في سرد محتفٍ بالتراث المطبخي؟ ناهيك عن الأداء التمثيلي المتواضع جدا لممثلين موهوبين لم يكونوا في أفضل حالاتهم حيث لا يبدو أن هنالك توجيه جدي من المخرج في أولى تجاربه الروائية الطويلة. لكن المشكلة الأكبر تبقى "طعج" الحبكة لتلائم الممولين الأجانب في إنتاج مشترك من هذا القبيل، وتصبح صحفية ألمانية في القسم الثاني من الفيلم مركز الأحداث وتتقاسم مع الفلسطيني بشاعة واقع الجدار والحواجز العسكريّة، وهكذا يصبح للمشاهد الغربي سبباً ليتعاطف معنا على حساب فكرة الفيلم الممتازة.

أصبحت أفلام من هذه النوعية شبيهة بما ولدته حالة اتفاقيات أوسلو من عقلية المؤسسات غير الحكومية (NGO’s) في الضفّة الغربيّة ، يتطلب فيها "الاتزان" مع الممول الغربي وحضور للخطاب الاستعطافي (لو أردتم مقارنة لإعادة تأويل واقع الحواجز والتحليق الفني فوق استدرار العطف على الرغم من وجود تمويل أجنبي شاهدوا "يد إلهية" لإيليا سليمان). لا شك بأن الاحتفاء الكبير بـ "٢٠٠ متر" عربياً نابع من تعاطف سياسي وتقدير لوصول فيلم فلسطيني عملت منتجته ومخرجه بدأب لإسماع الصوت الفلسطيني، وهذا إنجاز سياسي مهم لكن يشير إلى خلل في حالة صناعة وتلقّي الأفلام الفلسطينية الجاثمة تحت لعنة الإنتاج المشترك والرغبة في نيل إعجاب الممولين في الغرب. 

يتقاسم فيلم "الهدية" مع "٢٠٠ متر" الكثير من المشاكل السرديّة في خيارات المخرجة والكاتبة، من خلال التريلر نعلم تقريباً ما هي قصّة الفيلم القصير المتوقّعة منذ البداية حتّى النهاية. بلا شك يعرض الفيلم واقعًا مأساويًّا لحياة الفلسطينيين، لكن المأساة الفنية هي استسهال وضع ختم الحاجزعلى الفيلم، دون أن يقدّم أيّ جديد، الأداء التمثيلي للطفلة كان الأفضل في الفيلم، ممثّل كبير كصالح بكري تختزل طاقته التمثيلية إلى جمل حوار مكرّرة، على شخصية يوسف التي جسّدها لأن تقنع الجندي الإسرائيلي "الجيد" بإقناع الجندي الإسرائيلي "السيء" بعبوره الحاجز، وسط استجدائه وتبوّل الطفلة، هذه كلها خيارات سردية مستسهلة ومكرّرة. 

هذا لا ينفي أن وصول الهدية على منصّة مثل "نتفليكس" هو خدمة إخبارية سياسية عظيمة جعلت رئيس جهاز المخابرات الأمريكية السابق جون برينان ينصح الرئيس الأمريكي جو بايدن بمشاهدة الفيلم عبر مقالة نشرها في النيويورك تايمز لرؤية معاناة الفلسطينيين.

اختراق صور الفلسطينين "للمينستريم" ومنصات عالميّة يخفف من عجز الفلسطيني قليلًا ويجعله حاضرًا تماما كالمعنى المزدوج للفيلم (الهدية/ الحاضر) لكن هذا الحضور بهذه السردية مرهون بتنازل عن المغامرة الفنيّة والإبداع، ليصبح تدريجياً سقفاً للسينما الفلسطينية: سينما من منطقة نزاع، تستهوي مديري مهرجانات ومموّلين لقيمتها السياسية تماماً كما حصل مع أفلام عن سوريا أو السودان في سنوات سابقة، قدّم بعضها بورنو دماء للغرب ("إلى سما" نموذجاً)، وفي الوقت ذاته لا ينتقص كل ما ذكر أعلاه من التحديات الجسيمة التي تواجه صناع الأفلام، أكبرها المشكلة البنيوية في صناعة أفلام بين مطرقة التمويل الإسرائيلي (في حالة فلسطينيي الداخل) وسندان التمويل الغربي ورغبة صنّاعها بموضعة أعمالهم في المهرجانات الدولية، بالتزامن مع غياب صناديق وأجسام ثقافية فلسطينية وعربية قادرة على تغيير هذا الوضع لو توفّر الوعي والرغبة وتخصيص الموارد لإنشائها، وتحفيز المخرجين على المغامرة الفنية والنأي عن الاستسهال. 

مؤخّرًا تحوّل التكرار والملل السمة الرئيسية للأفلام الفلسطينية، بعد صعود وتنوّع شهدناهما منذ منتصف التسعينات لمدة عقد ونصف من الزمن (أصبحت المقولة أرشيفية) أرى فيها "سجل اختفاء" لإيليا سليمان اقتراحا تأسيسيًّا مهّد لما أتى بعده من أجيال طموحة من المخرجين والمخرجات، وشقّ طريقًا لما يمكن الوصول به تعبيرياً، دون استشراق ذاتي، بأصالة لا تتعارض مع التحديث ولا تتكئ على البكائيات التراثية، وناتجة عن أسئلة ذاتيّة للفنان حول مشروعة الفرديّ. الأمر أشبه بصفقة مع الشيطان: الفنان المشغول بتمثيل الجماعة سياسيًا، يخسر ذاته فنيًّا في أغلب الأحيان.