على أعتاب الأبديّة

2021-07-13 12:00:00

على أعتاب الأبديّة
City Roofs, Edward Hopper

وكنتُ أقرأ، بين سطور تلك القصّة المنقوصة، بأنّ الإنسان كلّما تقدّمت به السّن تنطفئ فيه الحماسة، ولم تعد الأشياءُ قادرة على إثارة دهشته، بل تغلب عليه العاطفة، ويحوز قلبُه كلَّ ما حولَه من تناقضات، بهدوء النّاسك في صومعته، وإيمان الصّوفيّ المتماهي بالذّات الإلهيّة.

كان جالسًا وحيدًا، وأحفادُه يلعبون على مقرُبة منه، لكنّهم لا يعيرونه أيَّ اهتمام؛ فهم أبناء الحياة، وهم مولودون لزمان غيرِ زمان الرّاحلين إلى حيث الخلودُ، محمّلين بأوجاع الحياة وآلامها.

ابتسم لي مُعاتبًا على عدم زيارته، فزيارتي الأخيرة له كانت قبل شهر.

جلستُ إلى جانبه، فسألته عن صحّته، وقد بدا جسدُه أكثرَ انهزامًا، واستسلامًا لعقارب الزّمن، اكتفى بابتسامةٍ، مصحوبة بنظرةٍ، في أعماقها ألفُ جواب وجواب.

كان يشردُ من أسئلتي نحو تلك الحياة المقبلة، وهي تتراقص حوله، وصراخُها كان عزفًا على أوتار ماضٍ سحيق، ما زالت تذكاراته تنبش بتلك الرّوح الخاوية، في هيكلها المحطّم.

كان ينظر إلى أحفاده مُبتسمًا، وكنتُ أقرأ دعاءه المكنونَ في روحه المتعبة، بأن يحفظَ اللهُ تلك الطّفولة، التي تُؤنس وَحدته، ففيها طُهر الأنبياء، وصفاء القلوب، ومساحة الرّوح، وهو يعلم بأنّ الحياة أخذت خيوطُها تنفرط خيطًا خيطًا من بين أنامله، وما عادت مِسلّة الأطباء تنفع.

وأنا كحارس البيدر؛ عينٌ على طفولةٍ، مُفعمة بالمرح والجمال، مشغولةٍ بأحلامها البسيطة، وعينٌ على روح متعبة، مثقلة بأعبائها العميقة، تعتمل ذاتَها ذكرياتٌ فقدت لذّتها، بعد اصطدام المُخيِّلةِ بحقيقة ثابتة، إنّها الفناء.

كنتُ أنظر إليه، وأشعر بأنّ الإنسان عندما تتعب روحه يبدأ جسدُه بالذّبول، والانطفاء جُزءًا جُزءًا، وتتعمّق لديه الوَحدة، وينحسر أثره رُويْدًا رويْدًا، كأنّه أثرٌ باهتٌ لِقَدمِ الزّمان في خريف العمر، يَخفِت حضورُه ويمّحي رسمُه، مع انزلاق سنوات أجله نحو الغروب، حيث أعتاب الأبديّة.

كنتُ أنظر إليه، وأرى أنّ الحياة قصّة قصيرة، سطّر حروفَها الأولى آباؤنا وأمّهاتنا، ورسموا إطارها، ولكنّهم قبل أن يُكْملوا حبكتَها خانونا برحيلهم المفاجِئ. 

وكنتُ أقرأ، بين سطور تلك القصّة المنقوصة، بأنّ الإنسان كلّما تقدّمت به السّن تنطفئ فيه الحماسة، ولم تعد الأشياءُ قادرة على إثارة دهشته، بل تغلب عليه العاطفة، ويحوز قلبُه كلَّ ما حولَه من تناقضات، بهدوء النّاسك في صومعته، وإيمان الصّوفيّ المتماهي بالذّات الإلهيّة.

كنتُ مؤمنًا بأنّه أصبحَ يعيش دورة الحياة العكسيّة؛ فبعدما كانَ يقتلُ الوقتَ بصخب الحياة وانشغالاتِها، حتّى نسيَ ذاتَه، عاد ليقتُلَه الوقتُ بصمته. إنّه يعيش موتًا روحيًّا بطيئًا، وكنتُ أشعرُ بأنّه مُدركٌ ذلكَ، وهو يريد أن يقتله الوقتُ، وهو يتابع الحياة الصّغيرة من حوله، بصخبها البريء، وإن كانت المسافةُ بينهما ثلاثَ خطوات وسبعين سنة.

إنّ أصعب ما يمكنُ أن يدفعَه الإنسان ثمنًا باهظًا في حياته، هو أن ينسى نفسَه، ويحرقَ سنواتِ عمره، من أجل الآخرين، حتّى لو كانوا أبناءه، هذا ما كانت تقولُه عيناه قبل أن أستأذنه، وهو يقبض على يدي بقوّته الضّعيفة، وكأنّي بهما تقولان: احفظ كلَّ دقيقة من عمرك يا ولدي، ولْيَكُنِ النّصيب الأكبرُ منها لذاتِك.