"غراميات باريسية وقصص أخرى": قراءة في حياة غي دي موباسان وقصصه

2021-07-18 14:00:00

وبالرغم من توسع قاعدة قرائه إلا أنه كان قلقا على صحته العقلية التي بدأت تتدهور الآن، وبدأ موباسان يصاب بالهلوسات الشديدة، وصار يتخيل أن هناك شبيه له يلاحقه، وهي كلها باتت أعراضا معروفة عن مرض الزهري. 

منبع النهر 

ولد غي دي موباسان عام 1850 لعائلة برجوازية بأحد القصور النورمندية المستأجرة من قبل والديه، وذلك على أمل أن يسجلوا على شهادة ميلاده أفضل عنوان ممكن في المجتمع الذي لاتزال تلعب فيه الألقاب والأنساب دور كبيرا في التمييز بين الطبقات الاجتماعية، وذلك في ظل حكم الإمبراطور نابليون الثالث. والدته كانت ابنة أحد أكبر الصناعيين بمدينة روان الفرنسية، بينما والده كان ابن عائلة بارسية من الطبقة الأرستقراطية. ظل موباسان في كنف والدته التي تحملت مسؤولية تربيته هو وأخيه الذي ولد بعده بست سنوات عام 1856، وذلك بعدما تدهورت علاقة والديه، التي كانت متوترة على الدوام، حتى أدت إلى انفصالهما، وهو في سن الثالثة عشر. 

وقد قامت والدته بتشجيعه على تنمية قدراته في مجالات متعدد، منها الأدبية وذلك إلى جانب المهارات الرياضية في السباحة، والإبحار، والمبارزة والصيد، فصار بارعا بها بعد ما تمرس فيها بالقرب من السواحل والأرياف النورمندية. شقيق والدته الأصغر كان كاتبا طموحا، ولديه صداقة قوية مع الكاتب الشهير فلوبير الذي مات وهو في ريعان شبابه.

استخدمت والدة موباسان هذا الارتباط لإقناع فلوبير بإرشاد موباسان في فنون الكتابة، وهو الطلب الذي استجاب له فلوبير بكرم. فقد تتلمذ موباسان على يد فلوبير، وقد ترك فيه فلوبير أثرا قويا بان في أسلوبه القصصي، وانتقل موباسان من المحاولات الأولية المبتذلة إلى تلك التي تصف الأحداث بعيون حذرة ومنتبهة إلى التفاصيل الدقيقة. 

طبول الحرب 

تخرج موباسان من المدرسة والتحق بأبيه بباريس لدراسة القانون، إلا أن الحرب الفرانكو بروسية التي اندلعت تلك السنة قطعت دراسته والوقت القصير الذي قضاه هناك. التحق موباسان بالجندية بعدما أعلنت فرنسا عام 1870 الحرب على بروسيا التي تعرف بألمانيا اليوم، وقضى معظم وقته في الحرب، التي كانت لها عواقب كارثية على فرنسا، قضاها كمراسل ما بين مدينتي روان وباريس. بعد الحرب عمل كبيروقراطي صغير بمكتب الإدارة الكولونيالية، وبالرغم من الخبرة الهائلة التي اكتسبها عن طبيعة عمل الدوائر الحكومية وموظفيها؛ والتي كونت المادة الأساسية للعديد من قصصه بعد استقراره في باريس، إلا أنه اعتبرها الفترة الأتعس من حياته. 

ولمقاومة تلك المشاعر والاستمرار في إصدار أعماله الأدبية، قام موباسان بتأجير منزل على أحد ضفتي نهر السين بمنطقة الأرجنتوي، وهي من ضواحي باريس، وأخذ يركب القطار إلى منزله في المساء ليبحر على متن قاربه الشراعي، وكان يمارس رياضة التجديف في الفجر قبل العودة إلى العمل. حبه للرياضات المائية لم يؤثر فقط على قصصه التي في العادة تبدأ بوجود البطل بالقرب من أحد الأنهار الفرنسية، بل على حياته الاجتماعية أيضا، فموباسان كان جزءا من حلقة شبابية معروفة في المشهد بعشقها للاحتفال في المقاهي والحانات الطافية على متن القوارب الراسية على نهر السين، وهي تلك المشاهد نفسها التي خلدها الرسام الشهير رينوار في لوحاته. وقد أدى أسلوب حياته الصاخب هذا إلى أصابته بالزهري، وهو المرض الذي ظل يلاحقه طوال حياته.

مجداف الشهرة 

في النهاية تمكن موباسان الحصول على تثبيت مدى الحياة بوظيفته، وهو الأمر الذي سمح له أن يكرس وقته للكتابة بشكل أكبر، والأهم من ذلك أن صديقه ومعلمه السابق فلوبير ساعده على دخول الدوائر الأدبية بباريس، وفتح له بابا للتعرف على العديد من الأدباء والمحررين وأصحاب دور النشر المؤثرين في المشهد. 

وقد نشر قصته الموسومة بـ "كرة الشحم" التي دفعته إلى الشهرة عام 1880 بإحدى المجلات الثقافية، وهو الأمر الذي غير حياته. يرصع موباسان القصة بأشخاص ذوي خلفيات اجتماعية مختلفة، يحاولون السفر بالحنطور من مدينة روان المحتلة من قبل الألمان إلى "لو هافر"، وهي مدينة بها ميناء لتصدير البضائع تريد الشخصيات الوصول إليها لأسباب مختلفة. تحتوي القصة على مجتمع مصغر، فهناك امرأة يطلق عليها "بال دي سوف" بالفرنسية أو "كرة الشحم"، كما ترجمت بالعربي، وهي بائعة هوى سمينة، والوطني "كورندت"، وزوجان من الطبقة البرجوازية الصغيرة، شخصية صاحب المصنع وزوجته، كونت بلدة "بريفيل" وزوجته، وراهبتان. 

وفي الطريق تقف العربة في نزل للمسافرين بأحد القرى المحتلة من قبل الألمان من دون قصد، فيقوم ضابط بإيقافهم إلى أجل غير مسمى، وبدون إبداء أي سبب. وبعد يومين يتضح الأمر لبعض الشخصيات الذين يخبرون "بال دي سوف" أن الضابط لن يسمح لهم بالمرور حتى تنام معه. وفي البداية يدعمها المسافرون ويغضبون من غطرسة الضابط، لكن سرعان ما يتلاشى سخطهم ويغضبون من "بال دي سوف" لعدم نومها مع معه حتى يتمكنوا من المغادرة، ويقومون باستخدام أمثلة منطقية وأخلاقية لإقناعها أن هذا هو الشيء الصحيح الذي يجب فعله. الثيمة الرئيسية لهذه القصة هي المقاومة الفرنسية للاحتلال الألماني، فالشخصيات التي ذكرت للتو كثيرة الكلام عن مقاومة الاحتلال، ولكنهم في الحقيقة كانوا يهربون من مدينتهم المحتلة إلى بر الأمان، بدل البقاء والدفاع عنها. 

تتضح الصورة بسرعة أن تلك الشخصية الهامشية في مجتمع مدينة روان "بال دي سوف" التي تعتبر ساقطة أخلاقياً من قبل جميع الشخصيات هي الوطنية الوحيدة فيما بينهم، فمقاومتها الشخصية تكبر بمضي أحداث القصة، فعند إيقاف عربتهم من قبل الضابط الألماني هي الوحيدة التي ترفض الخضوع والتعاون بسهولة من بين بقية الركاب، ورفضها المتكرر لطلب الضابط يؤكد ذلك أكثر. بينما الشخصيات الأخرى من الطبقات البرجوازية كانت مستعدة لخيانة بلدها لإنهاء الحرب والعودة إلى حياتهم المريحة. 

يكشف موباسان هنا أيضا عن زيف الافتراض الذي يربط طبقات المجتمع الأرستقراطية والدينية بالحسن الأخلاقي، فيستخف موباسان طوال القصة من شخصياته، ويكشف عن ضعف وجبن الكونت وزوجته بالرغم من كونهما من مقام رفيع، ومن المتوقع منهم الوقوف إلى جانب سكان مدينتهم في الأوقات العصيبة. ويصور الصانع وزوجته باستمرار على أنهم جشعين وماديين، ويكشف عن الفساد الأخلاقي للبرجوازي الصغير الذي يبيع النبيذ وزوجته ، فهم الأكثر استعداداً لخيانة بلدهم والعودة إلى حياة الجشع. 

الراهبتان اللتان تبدوان لأول وهلة شديدتي الإخلاص في عبادتهما وتدينهما، لكنهما يحثان "بال دي سوف" على النوم مع الضابط عند احساسهم بأقل الضغوط. "كورندت" الوطني يبين أنه ليس أكثر من سكير، وفاسق غير مستعد للدفاع عن معتقداته المعادية للاحتلال عندما يحين الوقت، وعلى النقيض منهم كلهم تظهر شخصية "بال دي سوف" على أنها الأكثر وطنية وطيباً وإعجاباً من الناحية الأخلاقية.

ويبدو أن هذه القصة تركت أثر كبير على مسار الأدب الفرنسي والقصة القصيرة، فبها استطاع موباسان نقل قضايا اجتماعية معقدة، وتوجيه انتقادات حيال تصرفات صفوة المجتمع التي ادعت الوطنية أثناء الحرب، وخلق مساحة للتعبير عن الإنسانية المشتركة بين البشر حينما وصف في القصة قيام الجنود الألمان الذين في العادة يأتون من الطبقات الكادحة المجبورة على الخدمة العسكرية في ذلك الوقت، بمساعدة الفلاحين الفرنسيين في الحقول ومساعدة كبار السن الذين ذهبوا أبنائهم إلى الجبهة بالقيام بالأعمال المنزلية، ونقل على الصفحة توقهم للعودة إلى عوائلهم وأراضيهم الزراعية التي تركوها في ألمانيا. 

سببت هذه القصة ضجة في الشارع العام واتهم موباسان بالخيانة الوطنية، وهو الأمر الذي تصدى له بالوقوف بحزم على حقه في التعبير عن نفسه وعن الأحداث التي شهدها أثناء الحرب.

مياه جديدة

تلك الثنائية ما بين المدينة وحياته على الشواطئ النورمندية عندما كان طفلا زودته بعدسة فريدة استطاع من خلالها نقل الطموح، والصراعات، والاشتياقات التي تشكل مجتمعة. فكل حدث فردي في قصصه التي في العادة لا تتجاوز الثلاثة آلاف كلمة، يبدو عالمي ومشترك بين جميع البشر. موباسان كان فنانا يكتب قصص معاصرة لوقته الذي يشهد تحولات هائلة بنجاح الثورة الصناعية، وإعادة بناء باريس بتهديم وسط المدينة المبني في العصور الوسطى، لبناء الجادات الواسعة التي نراها الآن، وبناء السكك الحديدية التي ربطت البلاد وسهلت السفر وانتقال العمالة. 

قد تكون كثرة كتابة موباسان للقصة القصيرة يرجع إلى تلك الحركة الديناميكية الموجودة في المجتمعات الإنسانية، فبوضوح سينوغرافي يلتقط في عدة صفحات رغبة ربة منزل ريفية في الحياة البارسية الزاهية في قصة "غراميات بارسية"، وفي قصة "الحب" يعبر عن ندم صياد عندما يكتشف أنه ذبح أحد أشكال الحب، وفي قصة "الجبان" ينتقد فكرة الدفاع عن الشرف المتضخمة في ذلك الوقت، وفي قصة "الصديقان" عبثية الحرب ووحشيتها، وفي قصة "اللحن الرعوي" يصف الخصوبة، والرغبات الشهوانية المشتركة عند البشر. 

لم يتغير قلم موباسان كثيراً بعد الشهرة و صعوده السلم الاجتماعي للحياة الباريسية، ولو تغيرت اهتماماته بشخصياته من العاهرات، والفلاحين، والموظفين الحكوميين الصغار، إلى ملاك الأراضي والمهنيين ذوي الياقات البيضاء، والتي نجدها في قصة "المليونير" التي يذكر فيها وصية خالة ثرية تكشف عن سهولة تخلي موظف بأحد الوزارات الباريسية وزوجته عن القيم الأخلاقية التي يزعمونها، فهو بدأ ينقل في قصصه صورا واقعية عن ميكانيزمات السلطة والمال في المجتمع الباريسي، ويفصح عن الدوافع الغريزية التي في العادة تكون مخفية تحت بهرجة الحياة المدنية بأسلوب ساخر وصريح.

اتُهم موباسان من قبل الكثيرين بموقف إذا لم يكن مناهض للمرأة فعلى الأقل به نظرة استعلائية تجاهها، وهو الأمر الذي قد يتفق معه القارئ حينما يقرأ قصصه التي تتضمن تحذيرات من المرأة المحتالة كقصة "الاستلقاء الأخير"، وهناك بلا شك شخصيات نسائية أخرى تصور في قصصه على أنها مخادعة، ومزاجية، وجشعة، ولكن القارئ سيجد تساو أيضا عندما يلاحظ نفس الصفات على الشخصيات الذكورية كما في قصة "اعترافات امرأة" حيث نجد شخصية الكونت الذي يريد التحكم بزوجته بطريقة قاسية وغبية. 

ويكمن انطباعي الخاص الذي كونته بعد قراءة المجموعة التي بها أربعة وثلاثين قصة هو أن لدى موباسان تعاطفا عظيما مع الوضع المذل التي تجد نفسها فيه المرأة الفرنسية في ذلك الوقت، ويقوم بمقاومة تمجيد التصرفات المناهضة للمرأة، وهو الأمر الذي كان شائعاً في ذلك الوقت. 

استمر موباسان في تمرده برفضه "وسام جوقة الشرف"، وهو أعلى تكريم رسمي في فرنسا، ولم يقبل ايضاً عضوية الأكاديمية الفرنسية التي تُمنح لصفوة المثقفين في المجتمع، وكان من أحد الأدباء الفرنسيين الذين وقعوا على عريضة ضد بناء برج ايفيل، وكان يعرف عنه بأنه كان يأكل في المطعم الموجود بقاعدة البرج لكونه المكان الوحيد الذي يستطيع أن يتجنب منه منظره الطاغي. انتقد موباسان الثقافة الاستهلاكية التي سيطرت على المجتمع الباريسي، فالمخطط الجديد إلى المدينة تضمن أروقة مقببه بالزجاج مملوءة بالمتاجر كما هو الحال الآن مع المجمعات التجارية، واحتلال المتاجرة الواسعة مكان الدكاكين الصغيرة التي كانت تسمح لنمو علاقات دافئة بين البائع وزبائنه، وتسائل عن معنى ظهور الروح الاستعراضية الجديدة التي أدت إلى جنون اقتناء الحلية التافهة وتكديسها بالمنازل.

ماء الغريب

الاكتشافات العلمية للقرن التاسع عشر تركت اعتقاد عند الكثيرين أن قدرات الإدراك البشرية لا يمكن الاعتماد عليها ابداً. فكانت النظريات العلمية كنظرية داروين للتطور، والاستكشافات الأولية في علم النفس البشري واسعة النقاش، ونجدها في هذه المرحلة العصيبة من حياة موباسان تتخلخل قصصه.

وبالرغم من توسع قاعدة قرائه إلا أنه كان قلقا على صحته العقلية التي بدأت تتدهور الآن، وبدأ موباسان يصاب بالهلوسات الشديدة، وصار يتخيل أن هناك شبيه له يلاحقه، وهي كلها باتت أعراضا معروفة عن مرض الزهري. 

ويتضح للقارئ أن هدفه في الكثير من هذه القصص "كالهورلا"؛ والتي قد تكون قصتي المفضلة في هذه المجموعة، هو كشف مسببات الحدث التي في العادة تترنح بعيداً عن التفسيرات العلمية إلى تلك الأحداث المروعة. نجد في قصة "الهورلا" والتي تعني "الغريب" بطل يسرد لمجموعة من الأطباء النفسيين بأحد المصحات شكوكه بأن هناك شخص ما لا مرئي يتسلل إلى داخل غرفته كل ليلة، ويكشف لهم محنته في محاولة إثبات وجوده. تأملات بطل هذه القصة في الإنجازات العلمية الحديثة لعصره ميزها، فالبطل يعصر عقله لتبرير الغرابة التي مزقت حياة الراحة والاسترخاء التي كان يتمتع بها في ذلك المنزل المطل على النهر، فهل يمكن أن يكون ذلك الغريب ظاهرة لقوى كونية غير مكتشفة من بعد؟ وهل من الممكن أن يكون هذا الغريب كائن من كوكب أخر؟ لم لا! ألم يكتشف حديثاً عن عالم الميكروبات الغير مرئية بالعين المجردة؟ لا هو مرض معدي أتى على متن تلك السفن التجارية التي تمر من حين إلى حين أمام منزله على سطح ذلك النهر البطيء!

العديد من الباحثين يعتقدون أن الاضطرابات العقلية التي كانت عند موباسان لها؛ إضافة على مرضه بالزهري، عوامل وراثية، فبعد جنون أخيه الصغير ووفاته ساءت حالة موباسان أكثر، وأخذ يفكر بشكل جدي في الانتحار. استشار موباسان العديد من الأطباء في ذلك الوقت ومن بينهم بعض الأصدقاء المقربين عن حالته، ولكن في النهاية اضطرابه العلقي وصل به إلى محاولته الانتحار بقطع عنقه. قام في عام 1892 بإدخال نفسه إلى مصحة بالقرب من باريس حيث توفي في العام التالي بالسادس من يوليو عام 1893 بسن الثالثة والأربعين.

ترجمة هذه المجموعة القصصية من الفرنسية إلى الإنجليزية من قبل سيان مايلز وهي أستاذة بجامعة وارويك في إنجلترا، وأصدرت من قبل دار بنجوين للنشر بعنوان A Parisian Affair and Other Stories، وهي النسخة التي اعتمدتها في هذه المراجعة. اخترت ترجمة عناوين القصص الموجودة بهذه المراجعة إلى العربية لتسهيل عملية القراءة على المتلقي، وللأسف العديد من قصص هذه المجموعة لم تترجم إلى العربية بعد.