الكتابة اليوميّة للتاريخ: "يوميات أكرم زعيتر" نموذجاً

2021-08-06 00:00:00

الكتابة اليوميّة للتاريخ:

لم تكن المهمة سهلة، على الرغم من وضوحِ خط أكرم زعيتر، ودقة لغته وتمكنه منها، حتى بات دارجًا القول بينَ فريق الإعداد إن زعيتر دائمًا على حق، كلّما دارَ خلافٌ بيننا حول استخدامه كلمة أو تحديده موقعها في اللغة، فنعود إلى أمهات الكتب؛ لنكتشف أنه هو المصيب.

صدرَ عن سلسلة "ذاكرة فلسطين" في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب "يوميات أكرم زعيتر: سنوات الأزمة 1967-1970"، وهو جزء من يومياته يدوّن فيه وقائع سنوات صعبة، هي سنوات الأزمة الممتدة بين عامي 1967 و1970، حيث كان عضوًا في مجلس الأعيان الأردني، ثم وزيرًا للبلاط عقب حرب حزيران/ يونيو 1967. ومن موقعه هذا، يقدّم زعيتر صورة دقيقة للأوضاع؛ أردنيًا، وفلسطينيًا وعربيًا، عشية الحرب وخلالها، وفي أعقابها، موردًا الكثير من الوقائع والوثائق التي أضحتْ معروفة في خطوطها العامة، إلا أن تلك الإطلالة على بعض مراكز صنع القرار العربي تفسّر كثيرًا من الوقائع، وتشرح المسار الذي سلكته الحوادث قُبيل الهزيمة، وفي أثناء وقوعها، والتعامل مع تداعياتها ونتائجها بعد ذلك، مرورًا بتصاعد حركة المقاومة الفلسطينية بعد حرب 67، واصطدامها بالنظام الأردني في أيلول/ سبتمبر 1970.

نحاولُ هنا أن نُلقي مزيداً من الضوء حول المشروع بصورةٍ عامة وذلك من خلال حوار تُجريه رمّان ثقافيّة مع الأستاذ معين الطاهر، المشرف على المشروع، والّذي بواسطته تحاول "رمّان" التركيز على فعلِ الكتابة اليوميّة، الّذي من خلالهِ يُمكننا الحصول على جانبٍ مختلف من التاريخ المُنقول إلينا، التاريخ الّذي تُساهم المكنة السياسيّة والايدلوجية في الكثير من الأحيان في كتابته بالطريقةِ التي تجعل جزء  كبير من حقيقة الحدث  مُصاغة وفقاً لأحكام السلطة المسؤولة عن عملية تدوين وكتابة التاريخ، توفر الكتابة اليوميّة والتي تتحركُ في أغلب الأحيان من منطلقات ذاتيّة، واجهة جديدة لرؤية التاريخ، مدخلاً فردياً مستقلاً يختلط فيه الذاتي بالموضوعي والتاريخي باليومي المُعاش والسياسي بالشفوي والمروي، وهذا ما وفرته تجربة يوميات أكرم زعيتر التي عمل على كتابتها بصورةٍ شخصيّة في محطات مختلفة من حياته.

الأسئلة أدناه بوابات تحاولُ "رمّان ثقافيّة" من خلالها الدخول إلى دهاليز المشروع من خلال الأستاذ معين الطاهر. 

المشروع يأتي في سياق سلسلة "ذاكرة فلسطين"، أخبرنا عن السلسلة؟ وعن الاختيار؟ لماذا أكرم زعيتر دون غيره؟

تُعنى سلسلة ذاكرة فلسطين التي تصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بالمجموعات الخاصة لشخصياتٍ عربيّةٍ وفلسطينيّة اهتمت بتدوين يومياتها أو كتابة مذكراتها، ومؤلفات باحثين اشتغلوا بتاريخِ الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، المكتوب والشفوي، وتجاربها ووثائقها. وضمن هذا السياق، جاء الاهتمام بنشرِ يوميات أكرم زعيتر غير المنشورة، والتي تمتد بين عامي 1949 و1984. وقد نَشَرَ المركز العربي حتى الآن تلك اليوميات حتى عام 1970، ضمن ثلاث إصدارات حملت أسماء "سنوات الأزمة 1967-1970"، و"آمال الوحدة وألام الانقسام 1949-1965"، في جزأين.

كانَ أكرم زعيتر مُدركًا أهمية توثيق الوقائع وتدوينها، فقد بدأ تدوين يومياته منذُ ثلاثينيات القرن الماضي، ونُشرت أجزاء مختارة منها حملت عناوين مختلفة مثل: "وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية (1918- 1939)"، و"الحركة الوطنية الفلسطينية (1935-1939)"، ومن مذكرات أكرم زعيتر: بواكير النضال (1909-1935)"، "من أجل أمتي: من مذكرات أكرم زعيتر (1939-1946)"، "مهمة في قارة: رحلة الوفد العربي إلى أميركا اللاتينية في سبيل فلسطين"، قبل أن يستكمل المركز العربي نشر باقي اليوميات، ابتداءً من الفترة التي لحقت النكبة الفلسطينية، حيث واظب زعيتر على تدوين يومياته بخط يده في مفكرات سنوية، وكثيرًا ما كان يستخدم أكثر من مفكرة للعام نفسه، حينَ تزدحم الحوادث وتتلاحق. كما كانت بعض الصفحات لا تتسع لما يجول في خاطره، ولذا، تمتلئ صفحات المُفكِرّة السنويّة بإحالاتٍ إلى تواريخ أخرى يستكمل فيها ما بدأهُ بدقةٍ شديدة، إذ يوضح في بداية الصفحة الجديدة أنها استكمال لصفحاتٍ سابقة، وهكذا دواليك، ما أضاف مهمة جديدة إلى فريق الإعداد، تمثلت في قص هذه الصفحات ومتابعتها وإعادة تجميعها؛ لتغدو روايته متكاملة.

توفى أكرم زعيتر قبل استكماله نشر يومياته، وكان قد دأب في أعوامِهِ الأخيرة على مراجعتها، وكأنه يعدها للنشر، فيضع خطوطًا رفيعة بقلم رصاص على بعض ِكلماتها أو سطورها، بحيث تبقى الكلمات مقروءة، وكأنه يشاور نفسه في إبقائها أو حذفها، ربمّا اختصارًا للمّادة المكتوبة، أو تبعًا لتقلّب الأحوال السياسيّة، وظروف النشر، وتدابير الرقابة، بعد أعوامٍ من التدوين. في أثناء العمل على هذه اليوميات، أبقينا على معظمِ الأجزاء التي كانَ قد وضع خطوطًا عليها، حيث وجدنا فيها معلوماتٍ قيمة تخص وقائع مفصليّة، أو توضح رأي زعيتر في أحداث وقعت وشخصيات عرفها في حينه، بعيدًا عن رأيه فيها، أو تقويمه لها لاحقًا، وهو ما كنّا نسعى إليه، ولأجل ذلك، تكتسب اليوميات قيمتها كمصدرٍ رئيس للتأريخ يميزها عن المذكرات التي تحمل في داخلها قراءة بأثرٍ رجعي للوقائع والحوادث.

الكتابين الأول والثاني بجزأيه، صدرا بعد وفاة الكاتب، وهذا يعني أن الاعتماد بصورةٍ أساسية كانَ على المكتوب من يوميات ومذكرات، أخبرنّا عن طريقةِ الحصول عليها، وإذا ما واجهتكم مشكلات أو تحديات معينة في هذا الإطار؟

حصلنا على يوميات أكرم زعيتر من أبنائه، ووجدناها في رفوفِ مكتبته العامرة بأنواع شتى من الوثائق المهمة، والقصاصات، والمراسلات بينَ زعيتر وأغلب الشخصيات المعروفة وأهمها في العالمين العربي والإسلامي في زمانه، وهي مواد بحثيّة غنيّة تنتظر أن يعمل فيها الباحثون تحقيقيًا وتدقيقًا.

لم تكن المهمة سهلة، على الرغم من وضوحِ خط أكرم زعيتر، ودقة لغته وتمكنه منها، حتى بات دارجًا القول بينَ فريق الإعداد إن زعيتر دائمًا على حق، كلّما دارَ خلافٌ بيننا حول استخدامه كلمة أو تحديده موقعها في اللغة، فنعود إلى أمهات الكتب؛ لنكتشف أنه هو المصيب. لذلك، لم نُجرِ أي تعديل أو تغيير على لغة زعيتر وصياغاته في يومياته، بل تعاملنا معها كوثيقةٍ تاريخيّة، لا تُغيّر لغتها أو مضمونها، وأبقينا على رسمِ بعض الكلمات كما كتبها، على الرغم من تغيّر كتابتها الشائعة اليوم.

 نريد أن نعرف أكثر عن المنهجية التي تم الاعتماد عليها في بناء الكتابين الأول والثاني بجزئية...

بدايةً، طُبعت اليوميات كما هي، وتمت مضاهاتها مع الأصل، ثم أُعيد تجميعها وفق تسلسلها الزمني بقص الأجزاء ولصقها باتباع تعليمات زعيتر وأسهمه وإشاراته، ثم فُحص السياق العام للتدوين، للتأكد من مطابقتِهِ لما جاء في المفكرات الأصليّة، وانسجامه مع الوقائع التي ذكرها، لنجد أنفسنا أمام آلاف الصفحات التي لا يمكنُ أن يتسعَ لها كتاب، فقد كانَ زعيتر يسهب في الوصف، فإذا حضرَ مأدبة غداء مثلًا عدّد أسماء جميع من حضرها من المدعوين، لذا، كان خيارنا أن نركز على الجانب السياسي في يومياته، مدركين أن جورًا قد وقعَ على الجانب الاجتماعي، ونقاشاته مع الأدباء والشعراء، ومختاراته الشعريّة، ولم نُبقِ منها إلا ما يخدم السياق العام لليوميات. 

بعدَ انتخاب النص، بدأت مرحلة التحرير، وهنا احتفظنا بألفاظ زعيتر وعباراته كما هي، ولم يُجرَ أي تعديل أو تحرير أسلوبي عليها، وعندما كنا نكتشف ما نعتقد أنه خطأ، نعود إلى النص الأصلي لنكتشف أنه غالبًا خطأ في طباعتنا للنص. لكن زعيتر لا يبدي كبير اهتمام في يومياته بعلامات الترقيم، ويميل إلى وضع نقطتين متجاورتين إشارة إلى استئناف الكلام، وهنا، كان لنا تدخل في وضع علامات الترقيم التي تساعد في ضبط النص وفهمه، وحذفنا بعض التكرارات، وأضفنا بعض أدوات الربط بين الفقرات، بعد وضعها بين معقوفين لتمييزها عن النص الأصلي.

تولى فريق الإعداد أيضًا مهمة إضافة هوامش توضيحية للأعلام والأماكن والوقائع التي من شأنها أن تساعد القارئ على إدراك ما يقرأ، دون الحاجة إلى البحث في مصادر أخرى. كما عمدنا إلى وضع عناوين فرعية للفقرات، من شأنها أن تلقي الضوء على محتواها. وقد عنينا أيضا بإضافة فهرس عام يساعد القارئ والباحث في الوصول إلى المعلومة التي يبحث عنها في مواضع ورودها في الكتاب بسهولة ويسر. 

تنقّل أكرم زعيتر بين بلدان عدة، وعاش خلال فترة هذه اليوميات في سورية والضفة الغربية والأردن ولبنان وإيران، ومع تمكنه من الاحتفاظ بجزء وافر من يومياته، إلا أن جزءًا منها فُقد، سواء أكان أثناء عمليات الانتقال المتكررة أم حين قُصف منزلة في بيروت خلال الاجتياح الإسرائيلي لها عام 1982، إذ تعرضت مكتبته لحريق، ويبدو أن أوراقًا ووثائق إضافة إلى مفكرات بعض الأعوام قد فقدت خلاله. ومع ذلك، تبقى هذه اليوميات، على الرغم مما فُقد منها، وعلى الرغم مما تم اختصاره منها، فإنها تبقى يوميات أكرم زعيتر الرجل الدؤوب الذي كان يجهد نفسه كي يحفظ للأجيال وقائع أعوام صعبة تقررت فيها مصائرها.